يبدو أن مفهوم الالتزام بالقانون الدولي عند الولاياتالمتحدة قد اختلف كثيراً اليوم عنه في العام 1991. ففي ذلك العام وبعد تحرير الكويت من الغزو العراقي، أعلن الرئيس الأميركي جورج بوش الاب أن نظاماً عالمياً جديداً قد ولد وأنه من خلال هذا النظام لا يجوز أن يكون الاحتكام إلا للقانون الدولي والشرعية الدولية في كل ما يعترض الشؤون السياسية الدولية. أما اليوم فقد أعلنت الولاياتالمتحدة على لسان رئيسها وكثير من مسؤوليها أنها لن تتردد في أن تأخذ القانون بيدها في كل ما تراه مناسباً لمصلحتها. هذا التغير الكبير خلال عقد من الزمان في المفاهيم القانونية الدولية التي يفترض ثباتها لنذير شؤم ومنزلق خطير من شأنه أن يهدد مستقبل القانون الدولي، خصوصاً إذا استمرت الولاياتالمتحدة في هذا المسلك الخاطئ. ولقد اتضح شؤم هذا المسلك الخطير في الخرق الأميركي المتكرر للقوانين والأعراف الدولية منذ أحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر عام 2001، والتي بلغت من الأهمية والكثرة بحيث لم تعد مجرد مسألة اعتراضية تختفي بمضي الزمن. ولكن، قبل الشروع في تفصيل المخالفات الدولية التي قامت وتقوم بها الولاياتالمتحدة للقوانين والأعراف الدولية خلال السنة ونصف السنة الماضية، لا بد أولاً من التذكير بأن فكرة القانون الدولي بمفهومه الحديث إنما أقره العالم أجمع بعد نهاية الحرب العالمية الثانية بالدرجة الأولى لتفادي "مرارات الحروب التي جلبت للإنسانية الدمار مرتين في عصرنا الحاضر"، كما نصّت على ذلك ديباجة ميثاق الأممالمتحدة. - اولاً: تمثلت الخسارة الاولى التي منيت بها الشرعية الدولية في عهد بوش الحالي في إصرار الولاياتالمتحدة على الانفراد بالقرارات السياسية بعيداً عن الإرادة الدولية. ففي الأزمة الأميركية- الأفغانية رفضت الولاياتالمتحدة أي شكل من أشكال التفاوض المباشر أو غير المباشر مع حكومة أفغانستان، وأصرّت على فرض شروط مهينة لأفغانستان تمثلت في تسليم اسامة بن لادن وجميع من معه من مسؤولي تنظيم "القاعدة" من غير تأخير. وربما أراد الأسلوب الأميركي من أفغانستان أن ترفض العرض الأميركي ليتم القضاء على منظمة "القاعدة" من أساسها كما عبر عن ذلك وزير الدفاع الأميركي بنفسه، حين قال إنه "حتى في حال تسليم بن لادن فإن هذا لن يدرأ عن أفغانستان العمل العسكري". وما من شك أن في هذا التصرف تعدٍ على الطرق السلمية لحل النزاعات الدولية، المفصلة في المادة 2 3 من ميثاق الأممالمتحدة التي تنص على "ان تحل كل الدول الأعضاء خلافاتها بالطرق السلمية"، والمادة 33 1 من الميثاق التي تؤكد على أن تلتمس أطراف النزاع الذي قد يهدد الأمن العالمي للخطر كل الطرق السلمية الممكنة لتفادي أي مواجهة عسكرية مثل المفاوضات أو التحقيق أو الوساطة أو التوفيق أو التحكيم أو التسوية القضائية أو الرجوع إلى المنظمات الإقليمية. وبما أن هذا المسلك الأميركي على رغم ما فيه من مخالفة للمادتين المذكورتين - لم يلق معارضةً تذكر من بقية دول العالم، فقد شجع هذا النهج الإدارة الأميركية على تكراره مع العراق، حين أصرت الولاياتالمتحدة - ومعها بريطانيا - على فرض إرادتها على المجتمع الدولي بعيداً عن الالتزام بالقوانين الدولية وهو ما انتهى الى غزو العراق. - ثانياً: جاءت المخالفة الثانية التي ارتكبتها الولاياتالمتحدة في عهد الرئيس بوش الحالي هي التهديد باستخدام القوة العسكرية في العلاقات الدولية. فقد هددت الولاياتالمتحدة في بداية أزمتها مع أفغانستان دولاً ذات سيادة باستخدامها القوة العسكرية ضدها إذا لم تقف معها في حربها ضد ما أسمته ب"الإرهاب". وقد بدا أثر هذا التهديد واضحاً في استجابة باكستان للمطالب الأميركية، اذ صرح الرئيس الباكستاني في خطابه للأمة الباكستانية بعيد انفجارات واشنطن ونيويورك بأن خوفه على المنشآت النووية وحرصه على حمايتها كانا وراء قبوله الضغط الأميركي والاستسلام للمطالب الأميركية. وإذا كانت استجابة باكستان جاءت خوفاً من التهديدات الأميركية، فإن هذا في حد ذاته يتعارض مع نص المادة 4 2 والتي تحرم مجرد "التهديد باستخدام القوة" في العلاقات الدولية. ثالثاً: ليس هناك شك في أن أهم المخالفات القانونية الدولية التي ارتكبتها إدارة بوش يتمثل بالاعتداء المسلح على دولة أخرى ذات سيادة. فالولاياتالمتحدة أجازت لنفسها استخدام القوة العسكرية من غير مسوغ قانوني دولي، ومخالفة بذلك المادة 4 2 من الميثاق التي تحرم "استخدام القوة في العلاقات الدولية". إذ أن استخدام القوة العسكرية لا يجوز إلا في حالين: فأما الحال الأولى فهي حال الدفاع عن النفس المفصلة في المادة 51 من الميثاق، وأما الحال الأخرى فهي حال تفويض مجلس الأمن لدولة ما أو مجموعة من الدول استخدام القوة العسكرية ضد دولة أخرى قامت بخرق القوانين الدولية كما فصلت ذلك المادة 42 من الميثاق. ومعلوم أنه في الغارات الأميركية على أفغانستان لم تنطبق إحدى الحالين. وأما حال الدفاع عن النفس المسموح بها في المادة 51 فهي إنما تجيز ذلك حال تعرض دولة ما لهجوم عسكري من جانب دولة أخرى فقط. وهذا يعنى أمرين: أن يكون الدفاع أثناء الهجوم وليس بعده، وأن يكون المقصود منه هو الحفاظ على سلامة وسيادة ذلك البلد المعتدى عليه وليس أن يكون الهدف عقابياً أو ردعياً لأحداث مستقبلية. وأما المادة 42 فقد ذكرت تحديداً وجوب أن يكون التفويض من جانب مجلس الأمن، الأمر الذي لم تحصل الولاياتالمتحدة عليه. وأما في الغزو الأميركي للعراق فليس فيه ما يشير إلى ما يتطابق مع أحد المادتين المذكورتين أيضاً. فالغزو الأميركي للعراق لا يمكن أن يبرر على أنه دفاع عن النفس طبقاً للمادة 51. كما أنه لا يمكن أن يبرر بأنه مأذون به من جانب مجلس الأمن، إذ أن محاولة الولاياتالمتحدة لإقناع أعضاء المجلس بإصدار قرار يجيز استخدام القوة العسكرية ضد العراق باءت بالفشل بسبب رفض فرنسا وغيرها من الدول دائمة العضوية. وغني عن القول أن قرار مجلس الأمن 1441 لم يمنح الدول الأعضاء حق استخدام القوة ضد العراق، ولولا هذا لما استماتت الولاياتالمتحدة لاستصدار قرار ثانٍ من مجلس الأمن يجيز استخدام القوة العسكرية ضد العراق. رابعاً: إضافةً إلى قيام الولاياتالمتحدة باعتداء مسلح على دول ذات سيادة، فإنها تواصل خرق المواثيق والمعاهدات الدولية، اذ قامت بإلقاء قنابل محظورة في حربيها الأفغانية والعراقية كالقنابل العنقودية والانشطارية والقنابل التي تزن واحدتها سبعة أطنان في أفغانستان وتستعد لاستخدام قنابل بزنة عشرة أطنان في العراق والقنابل الخارقة للكهوف والقنابل التي استخدمت للمرة الاولى في التاريخ ولا يعلم مدى تأثيرها وأضرارها وما تتضمنه من محتويات بيولوجية أو كيماوية أو غير ذلك مما لم يعلم أو لم يعلن عنه. وكل هذا يأتي مخالفاً لاتفاقات دولية وقعتها الولاياتالمتحدة والتزمتها منذ عقود طويلة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: لائحة لاهاي التي تحرم استعمال أسلحة أو مقذوفات تزيد في آلام المصابين من دون فائدة، وتصريح بيترسبرغ القاضي بعدم استعمال قذائف قابلة للانفجار أو محتوية لمواد ملتهبة، وتصريح لاهاي القاضي بتحريم استعمال رصاص دمدم المتفجر الذي من شأنه أن ينتشر بسهولة في جسم الإنسان، ومعاهدة واشنطن التي تحرم استعمال قذائف تنتشر منها غازات خانقة أو ضارة بالصحة، وتصريح جنيف المحرم لاستخدام الوسائل البكتريولوجية الناقلة للأمراض وغيرها كثير. خامساً: ما قامت به الولاياتالمتحدة من تدخل مباشر في الشؤون الداخلية لأفغانستان وقلب نظام الحكم القائم وخلق حكومة جديدة موالية للغرب وإعلانها عزمها على تغيير النظام العراقي بمثل ذلك يعتبر أمراً مخالفاً لأبسط أعراف وقوانين الأمم في عالم القانون الدولي المعاصر. فقد نصت المادة 7 2 من الميثاق على أنه "لا يجوز التدخل في الشؤون التي هي من صميم السلطان الداخلي لدولة ما". ولولا وجود هذا المبدأ القانوني الذي أقرته الدول جميعاً لكانت الحال السياسية فوضى عارمة. ويبدو أن سكوت العالم أجمع على سابقة أفغانستان الخطيرة قد مهد الطريق للولايات المتحدة في المضي قدماً في إعلانها عن رغبتها وعزمها على تغيير النظام السياسي في العراق. سادساً: جاء ضرب المناطق المدنية في أفغانستانوالعراق كدليل واضح على حجم المكان الذي يحتله القانون الدولي في عقلية الإدارة الأميركية الحالية. ففي أفغانستان شملت الغارات الأميركية ضرب أهداف مدنية لا علاقة لها البتة في المنشآت العسكرية وبعيدة كل البعد عن الأهداف الحربية. فقصفت المساجد والمستشفيات ومنازل المواطنين وبنية الكهرباء وغيرها الكثير. وعلى رغم أن وزارة الدفاع الأميركية كانت تعذرت بأن بعض الصواريخ أخطأ أهدافه في أفغانستان إلا أن تكرار تلك "الأخطاء" لم يساعد الموقف الأميركي المعتذر. بل إن وزير الدفاع الأميركي دان بلاده ضمناً حين اتهم قادة "طالبان" بأنهم يختفون ويخفون أسلحتهم في المساجد والمستشفيات ومنازل المواطنين وحمَّلهم تبعات مسؤولية تلك الهجمات. ومثل هذا ما يصيب العراق حالياً من قصف لأهداف مدنية بحتة وأخرى لا علاقة لها بالأهداف العسكرية مثل تكرار تعمد ضرب مبنى التلفزيون العراقي مع انه ليس هدفاً عسكرياً. ويعد الامعان في القتل الذي يطاول الأبرياء في صفوف المدنيين الأفغان والعراقيين من غير تمييز، مخالفة صريحة وخرقاً واضحاً لمعاهدة جنيف الرابعة 1949. والولاياتالمتحدة التي لا تزال حتى الساعة تواصل مخالفتها تلك تملك من التقنية ما يمكنها من توخي المناطق المدنية باستخدام الصواريخ الموجهة توجيهاً دقيقاً مثل صواريخ "كروز" البالغة الدقة. وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فإن موقف الولاياتالمتحدة من أعمال العنف التي تقوم بها إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة يتطلب التأمل. فكلمات الرئيس الأميركي في بداية الأزمة الأفغانية - التي لا تزال تجد صداها في أذن كل قانوني حين قال "إن من يؤوي الإرهابي فهو إرهابي ومن يساعد الإرهابي فهو كذلك" - تبحث عن جواب. فالموقف الأميركي المساند للأعمال الوحشية التي تقوم بها إسرائيل في قتل الأطفال والشيوخ والنساء والمدنيين والعزل بغير ذنب أمر يصعب تبريره. - سابعاً: إن المعاملة القاسية التي يلقاها الأسرى الذين قبضت عليهم الولاياتالمتحدة في أفغانستان، وما تعرض له هؤلاء الأسرى من تعذيب وإهانات ومحاكمات، تشكّل مخالفة واضحة وخرقاً صريحاً لأبسط مبادئ وأعراف القوانين الدولية في الحروب. إن الرفض الأميركي لإعطاء المعتقلين العرب حقوقهم القانونية الدولية حسب ما نصت عليه اتفاقية جنيف الثالثة لأسرى الحرب عام 1949 المواد 4-20، أمر غير مقبول. إذ أن هؤلاء المقبوض عليهم كانوا محاربين رسميين في صفوف الحكومة الأفغانية وينطبق عليهم ما ينطبق على أسرى الحرب وفقاً للمادة 13 من اتفاقية جنيف السالفة الذكر. بل إن إصرار الولاياتالمتحدة على عدم اعتبار هؤلاء المقاتلين أسرى حرب قد يزيد من تورط الحكومة الأميركية. إذ أن هؤلاء المقاتلين إما أن يكونوا أسرى حرب أو أن يكونوا مختطفين، وأحسب أن الولاياتالمتحدة غير مستعدة لقبول هذا الأخير. - ثامناً: يبدو أن قنوط الولاياتالمتحدة من القبض على من أسمتهم ب"رعاة الإرهاب" في حربها في أفغانستان دعاها إلى تدمير كل مكان تتوقع أن يحتمي به هؤلاء. وأحدث هذا التدمير - الذي جاء نتيجة ما عرف "بالمسح السجادي" في طول البلاد وعرضها- خراباً لا يستهان به للكهوف والصحارى كما نتج عنه حرق المناطق الصالحة للزراعة في كثير من مناطق البلاد. وعلى رغم ما في هذا من تجاوزات باستخدام الأسلحة المحظورة دولياً المخالفة الرابعة، إلا أنه تسبب في محو بعض ممتلكات حضارة الدولة، الأمر الذي يعتبر خرقاً قانونياً لمعاهدة جنيف الخاصة بحماية الممتلكات الحضارية 1954. وإذا كانت الولاياتالمتحدة أبدت امتعاضها الشديد قبل ثلاثة أعوام تقريباً من قرار حكومة "طالبان" المتعلق بتحطيم تماثيل بوذا لكونه يمثل استخفافاً بقيمة ممتلكات حضارة الدولة وثرواتها الطبيعية، فإن ما قامت به الولاياتالمتحدة من تدمير للكهوف والصحارى وحرق المناطق الصالحة للزراعة بحجة البحث عن أفراد "القاعدة" أمر أشد خطراً وأكبر جرماً. إذ أن خطر تدمير هذه المنشآت الحضارية لا يقتصر على محوها فحسب، بل إنه يتعدى ذلك إلى الأخطار المحدقة بالسكان القاطنين والمنتجات الزراعية جراء إلقاء هذا الكم الهائل من القنابل المحرقة والغازات السامة. واخيراً، فإن التهم التي طوقت عنق الولاياتالمتحدة بتحدياتها الصارخة لمفاهيم القانون الدولي والشرعية الدولية جعلت الإفلات منها أمراً صعباً، وأحسب أن المحامين الدوليين الذين يحملون عبء الدفاع عن مشروعية الأعمال الأميركية في وضع لا يحسدون عليه. وواقع الأمر أنه إذا كان القانون الدولي بمفهومه البسيط هو "مجموعة القوانين التي تنظم العلاقات القانونية بين الدول في حالات السلم والحرب والحياد"، فإن ما قامت وتقوم به الولاياتالمتحدة منذ سنة ونصف سنة، خرق واضح لهذه المحاور الثلاثة جميعاً. وإن هذا الانقلاب الخطير في مفهوم الالتزام بالقوانين والأعراف الدولية عند الإدارة الأميركية الحالية أمر بالغ الخطورة، إذ ربما تسبب انقلاب المفاهيم هذا في هدم ما استغرق بناؤه قروناً طويلة من التجارب الإنسانية ووأد القانون الدولي برمته. ولكن لا بد من التذكير بأن القوة قد تطغى في كثير من الأحيان وأن الغلبة التي تتمتع بها الولاياتالمتحدة اليوم لن تدوم وأن الدائرة ستكون لخصومها كما تقضي بذلك سنة التاريخ، وإذا كان الأمر كذلك فإن اللسان المسلم اليوم يقول للولايات المتحدة وأعوانها "إعمل ما شئت كما تدين تدان". * كاتب وحقوقي سعودي.