ماذا حلّ بتنظيم "القاعدة" منذ بدء الولاياتالمتحدة "الحرب على الإرهاب" في تشرين الأول اكتوبر 2001؟ ماذا حقق هذا التنظيم الذي يقوده أسامة بن لادن، بشنه هجمات 11 أيلول سبتمبر الماضي في نيويورك وواشنطن وبنسلفانيا؟ يسعى هذا التحقيق الى عرض وضع "القاعدة" في مرحلة ما بعد 11 أيلول. وهو ينقسم الى جزئين أساسيين: الأول يعرض ما حل ب"القاعدة" داخل أفغانستان حيث عاشت لسنوات في ظل حماية حركة "طالبان"، والثاني يعرض "انتشار" التنظيم خارج أفغانستان ومحاولاته تنفيذ هجمات ضد المصالح الأميركية في أنحاء العالم. تمر هذه الأيام ذكرى سنة على ذلك "الثلثاء الأسود" في 11 أيلول سبتمبر 2001، يوم أمطرت السماء طائرات مخطوفة فوق الولاياتالمتحدة. لم ينسب تنظيم "القاعدة" تلك الهجمات الى نفسه مباشرة. فتلك عادته. إذ لم يتبنّ تفجير سفارتي اميركا في نيروبي ودار السلام في 8 اب اغسطس 1998، بل نسب الهجومين الى جماعة "جيش تحرير المقدسات". لكن الإدعاء الأميركي أثبت أمام القضاء انهما من فعل "القاعدة" وان أعضاء في هذا التنظيم هم المنفّذون. كذلك لم يتبنّ أسامة بن لادن تفجير المدمرة "يو أس أس كول" في ميناء عدن اليمني في تشرين الأول اكتوبر 2000، بل اكتفى بتنظيم قصيدة مدح بالمنفّذين. ويؤكد المحققون الأميركيون واليمنيون أن هؤلاء مرتبطون ب"القاعدة" وأن أمر التفجير جاء منها خلال اجتماع عقده مسؤولون فيها في كوالالمبور/ماليزيا. إذن، حاول أسامة بن لادن، هذه المرة مجدداً، تجنّب تبني الهجمات بالطائرات المخطوفة فوق نيويورك وواشنطن وبنسلفانيا، مما أدى الى سقوط نحو ثلاثة آلاف قتيل. اكتفى بامتداح المنفّذين معتبرهم "شهداء". لكن فداحة الخسائر التي سببتها الضربة تدمير أهم معالم الاقتصاد الأميركي ممثلاً ببرجي مركز التجارة في نيويورك وقيادة المؤسسة العسكرية في "البنتاغون" قرب واشنطن لم تكن لتسمح لإدارة الرئيس جورج بوش بعدم الرد مثلما فعل الرئيس بيل كلينتون إثر تفجير المدمرة في اليمن أو أن يكون الرد محدوداً مثلما فعل كلينتون إثر تفجير السفارتين بضربه معسكرات ل"القاعدة" في أفغانستان ببضعة صواريخ كروز ومصنع أدوية في السودان. لذلك، لم يكن غريباً ان تحاول واشنطن رد الصاع صاعين، وهو ما تبيّن لاحقاً ان الإدارة الأميركية كانت تعدّ له أصلاً حتى ولو لم تنفّذ "القاعدة" أي عملية ضد مصالحها. بدأ تحضير الرد مباشرة: إنذار الى حركة "طالبان" بضرورة تسليم "المشتبه" في تورطهم في تدبير الهجمات وعلى رأسهم أسامة بن لادن وقادة "القاعدة". لكن "إمارة أفغانستان الإسلامية" بقيادة الملا محمد عمر رفضت تسليم "ضيوفها" وعلى رأسهم بن لادن ل"الكفار"، معتمدة على مبرر شرعي يميّز بين الكافر والمسلم ول"غياب الدليل" على تورط زعيم "القاعدة" في هجمات 11 سبتمبر وأيضاً لكونه أصلاً "نفى" لمستضيفيه علاقته بما حصل ويجب عليهم ان يُصدّقوه إذ "يُفترض بالمسلم الصدق". وحتى عندما تأكدت "طالبان" ان الولاياتالمتحدة جادة في الرد، وانها ستستهدفها مع "القاعدة"، لم تستطع سوى ان تعقد مؤتمراً للعلماء الأفغان لويا جيرغا خرج ب"رجاء" لبن لادن ان يترك بلادهم الى مكان آخر. وفسّر الأميركيون ذلك بأنه رفض للتسليم. في السابع من تشرين الأول اكتوبر، بعد أقل شهر من الضربة، بدأت أميركا "الحرب على الإرهاب" بهجمات جوّية على مواقع "القاعدة" و"طالبان" في أفغانستان. فرد بن لادن بشريط مصوّر ظهر فيه مع قادة تنظيمه في كهف أفغاني واتهم أميركا ب"حرب على الإسلام" داعياً المسلمين الى التضامن معه كون ما يحصل "منازلة" بين "الإيمان والكفر" و"الحق والباطل". ويبدو الآن في حكم المؤكد ان بن لادن كان يتوقع ان تلجأ أميركا الى الرد، وانها ربما ستستخدم المعارضة الشمالية التي تضم خصوصاً الطاجيك والأوزبك رأس حربة في عملية ضد حركة "طالبان" ذات الغالبية البشتونية. ولذلك، فإنه سعى الى أخذ زمام المبادرة. ففي 9 أيلول سبتمبر، قبل يومين من "الثلثاء الأسود" الأميركي، اغتال أشخاص صحافيون يُشتبه في انتمائهم الى "القاعدة" قائد المعارضة أحمد شاه مسعود، "أسد بانشير"، الذي كان السد الأخير في وجه إكمال "طالبان" سيطرتها على كامل أفغانستان. صدق توقع زعيم "القاعدة" بحصول الرد الأميركي. لكنه لم يتوقع بالتأكيد ان هذا الرد سيحقق النجاح الذي حققه وبالسهولة الذي تم فيها. فقد سقط نظام "طالبان" في ظرف أسابيع، وصارت "القاعدة" يتيمة لا تجد من يجرؤ على الترحيب بها. الحرب الجوّية بدأ الأميركيون حربهم في أفغانستان بطريقتهم المعتادة: قصف جوّي يُرهق العدو ويُجعله غير قادر على الوقوف في وجه التقدم البري. وهكذا انطلقت طائرات ال "بي. 1" وال"بي. 52" العملاقة تدك الخطوط الأمامية ل"طالبان" في وجه المعارضة شمال كابول، وتُفرغ فوقهم أطناناً من القنابل "الذكية" وغير الذكية. وكان من أبرز القنابل المُستخدمة تلك المعروفة ب"الديزي قاطر" قاطعة زهرة الديزي القادرة على إبادة كل ما ينبض بالحياة على مسافة آلاف الأمتار من مكان انفجارها. وإذا لم تكف هذه القنابل الضخمة لتدب الرعب في قلوب جنود "طالبان" الذين جلسوا لأسابيع في خنادقهم قبالة مواقع المعارضة، فإن صواريخ الكروز التي كانت تتساقط فوق رؤوسهم وقنابل طائرات ال"أي. 130" و"أي-10" و"أف-15" التي كانت تطارد تجمعاتهم في كل مكان، كانت كفيلة بإنهاء أي قدرة لهم على المقاومة. وهكذا، بعد أسابيع من الغارات الجوّية التي لا تتوقف، بدء زحف المعارضة بهجوم مزدوج طاجيكي - أوزبكي على محورين: قُنذز ومزار الشريف، في شمال أفغانستان. سقطت مزار الشريف أولاً وبعد معارك ضارية، وانكفأ منها مقاتلو "طالبان" جنوباً في اتجاه باميان نزولاً نحو كابول، وشمالاً في اتجاه قُنذز التي حوصت بدورها من محورين: الطاجيك بقيادة محمد داوود من الشرق خاد آباد وطالوقان والأوزبك بقيادة عبدالرشيد دوستم من الغرب. استمر حصارها عشرة أيام كانت خلالها المدينة تُدك جوّاً بلا هوادة، الى ان استسلمت في 26 تشرين الثاني نوفمبر، وكان ما حصل فيها مؤشراً ذات دلالة بالغة. فغالبية المقاتلين "الطالبانيين" المتحصنين داخلها والمقدر عددهم بنحو عشرة آلاف مقاتل، خرجوا منها مستسلمين. لكن ما حصل لم يكن مشهد "منتصر ومهزوم". فهم خرجوا ليعانقوا، أمام عدسات التلفزيونات العالمية، رفاقهم الذين كانوا يحاصرونهم. وهكذا ظهر للمرة الأولى "شرخ" في العلاقة بين الأفغان على اختلاف انتماءاتهم وبين "القاعدة". إذ ظهر مقاتلو تنظيم بن لادن وكأنهم العقبة التي تقف في وجه انهاء معاناة المُحاصرين في قنذز. وكانت لهؤلاء بالطبع مخاوفهم المشروعة، كون المعارضة حذّرت منذ البدء من ان مشكلتها ليست مع "طالبان" بل مع "الأجانب"، وتحديداً العرب، الذين تتهمهم بقتل أحمد شاه مسعود. وقد قُتل مئات من الذين استسلموا في قُنذز من شدة الحر خلال نقلهم في حاويات حديد، أو بعد تمرّد بعض المتشددين منهم في قلعة جانغي في مزار الشريف. لكن لا يبدو ان أسامة بن لادن استوعب "درس قنذز" بالسرعة الكافية. فربما راهن على ان ما حصل في شمال أفغانستان سببه تكتل الطاجيك والأوزبك ضد البشتون، وان لا خوف على تنظيمه كون مناطق الجنوب والجنوب الشرقي هي معقل البشتون، الخزّان البشري ل "طالبان". وما عزّز هذا الاقتناع، على الأرجح، ان البشتون بقوا متكتلين حول حركتهم الأصولية، على رغم محاولات عديدة لشق صفوفها. وكانت أبرز تلك المحاولات تلك التي قام بها الحكم الباكستاني لإيجاد بديل "معتدل" من داخل "طالبان" يقف في وجه زعيمها "المتشدد" الملا عمر وتردد لاحقاً ان الباكستانيين خططوا للتخلص من الملا عمر وكبار معاونيه بقتلهم في معقلهم في قندهار. وزاد من تعقيد "الوضع البشتوني" ان كل من حاول التمرد على الملا عمر كان مصيره الفشل مثلما حصل مع عبدالحق الذي اعتُقل وأُعدم في ساحة عامة في أواخر تشرين الأول/اكتوبر أو لم يستطع تحقيق تغيير ميداني مؤثّر مثلما حصل مع حميد كارزاي الذي أنزله الأميركيون في مكان ما داخل ولاية أورزجان القريبة من قندهار وأمّنوا له الحماية خلال إجرائه اتصالات مع قادة البشتون لتأليبهم على "طالبان". في خضم تلك التطورات، فوجئت "القاعدة"، بعد سقوط مزار الشريف وبدء حصار قُنذز، بأن "طالبان" أسرعت الى إخلاء كابول في 13 تشرين الثاني نوفمبر وانسحبت في اتجاه معقلها في قندهار. ولا شك ان العرب لم يتوقعوا ذلك الإنسحاب السريع من كابول، بدليل ان مقراتهم ومختبراتهم هناك لم تُفرغ من محتوياتها. فوقعت آلاف الوثائق والمستندات في أيدي الأميركيين، بل ان جزءاً كبيراً منها وقع قبل ذلك في أيدي الصحافيين الغربيين الذين تدفقوا على كابول حتى قبل دخول قوات المعارضة اليها. لم تكد كابول تسقط، حتى تلقت "القاعدة" ضربة أخرى، بمقتل قائدها العسكري محمد عاطف المعروف ب"أبو حفص المصري" الذي زوّج ابنته الى محمد، نجل أسامة بن لادن في غارة استهدفت فندقاً كان ينزل فيه مع عشرات من مقاتليه في ضواحي العاصمة الأفغانية في منتصف تشرين الثاني نوفمبر. وهو قُتل بعد أيام من إصداره تحذيراً ب"سحل" الجنود الأميركيين في شوارع كابول كما سُحلوا في شوارع مقديشو، في إشارة الى أحداث العاصمة الصومالية عام 1993 عندما "سحل" صوماليون مؤيدون لزعيم الحرب أحمد فارح عيديد ومدعومون من "القاعدة"، جنوداً أميركيين سقطت طائرتهم المروحية خلال مهاجمتها مواقع في مقديشو. بن لادن في المعركة لوحده مع مقتل "أبو حفص" وسقوط كابول ومعها حكم "طالبان" في ولايات شمال أفغانستان وبدء انهياره أيضاً في الولاياتالشرقية باكتيا وباكتيكا وننجرهار، بدا ان أسامة بن لادن أيقن ان تنظيمه بات في المعركة لوحده، وان أمامه الاستسلام وهو أمر ليس وارداً بالتأكيد أو القتال الى النهاية. فاختار الخيار الأخير، موقناً، على ما يبدو، بأنه قادر، "بمشيئة الله"، على هزيمة أميركا مثلما هُزمت روسيا قبلها في "المستنقع الأفغاني" في الثمانينات. ولإغراق الأميركيين في مثل هذا المستنقع كان لا بد من جرّهم الى "حرب عصابات" تتجنّب فيها "القاعدة" الدخول في مواجهة مباشرة مع جيش يتفوّق عليها عدة وعديداً. لكن مُشكلة بن لادن كانت "الوقت". فانهيار "طالبان" حصل بإسرع مما تخيّل مخططو الحرب الأميركيون أنفسهم. ويبدو ان بن لادن قرر في تلك الساعات الحالكة جمع قادة تنظيمه والانسحاب بهم الى المنطقة التي يعرفها شبراً شبراً من خلال تجربته في الجهاد ضد الروس في الثمانينات: سلسلة "الجبال البيضاء" في تورا بورا المحاذية للحدود مع باكستان. فتلك الجبال الشاهقة المكسوة بالثلوج، جنوب جلال آباد، تضم سلسلة من الكهوف الضخمة المجهّزة بأفضل المعدات والقادرة على استيعاب آلاف المقاتلين. وهكذا انسحب بن لادن الى تورا بورا ومعه قرابة ألف من "القاعدة". ويُعتقد انه كان بينهم أيضاً العديد من قادة "جماعة الجهاد" وعلى رأسهم الدكتور أيمن الظواهري الذي كان فقد للتو بعضاً من أبرز قادة جماعته في القصف الأميركي على خوست. بدأت قوافل مقاتلي "القاعدة" وعوائلهم تصل الى تورا بورا في ظروف مناخية بالغة الشدة وتحت وابل لا يتوقف من الغارات الأميركية. ولا شك ان الأميركيين كانوا يتوقعون لجوء بن لادن الى تلك المنطقة، فخططوا للقضاء عليه وعلى النواة الصلبة لتنظيمه هناك. غير انهم، على ما يبدو، ارتكبوا خطأ فادحاً سيندمون عليه بشدة لاحقاً. فقد أوكلوا مهمة اقتحام كهوف تورا بورا الى قوات محلية يقودها زعماء حرب بشتون يتلقون كميات ضخمة من الدولارات الأميركية يشترون بها أنصارهم. واكتفى الأميركيون، في المقابل، بإرسالأسراب من طائرات ال "بي. 52" تدك كهوف "القاعدة" بقنابل ضخمة. وكان الهدف وقتها ان تسد هذه القنابل منافذ الخروج من الكهوف لدفن من فيها وهم أحياء. استمرت معركة تورا بورا قرابة أسبوعين، لم تهدأ فيهما طلعات الطائرات الأميركية. بعد ذلك بدأ تقدم قوات المعارضة وعلى رأسها قوات الزعيم البشتوني حضرت علي ومعه حفنة صغيرة من القوات الخاصة الأميركية كانت تتولى إرشاد الطائرات الى المناطق المنوي قصفها. مشّطت المعارضة العديد من كهوف تورا بورا، لكنّها لم تأسر سوى عدد قليل من مقاتلي "القاعدة" التي قُتل لها أيضاً عدد كبير من المقاتلين قُدّر بالمئات تناثرت جثثهم عند سفوح "الجبال البيضاء". لكن الأميركيين لم يحصلوا على "الصيد الثمين" الذي كانوا ينتظرونه: بن لادن. كانوا متأكدين أنهم حاصروه في تورا بورا، إذ رصدوا هناك اتصالاً بصوته يحضّ فيه أتباعه على القتال، كما ان مرّة شوهد فيها حيّاً كانت في المنطقة قبل سقوطها. ربما سيبقى ما حصل في تورا بورا لغزاً من ألغاز التاريخ. فقد انقطعت مذذاك كل الأنباء عن بن لادن. وحتى شريط الفيديو الذي ظهر فيه مع أيمن الظواهري في آذار مارس 2002 تبيّن انه ليس سوى "مونتاج" لشريط قديم قُدّم في شكل يوحي بحداثته، ربما لنفي الأنباء عن وفاة زعيم "القاعدة". أطلق عدم العثور على بن لادن في تورا بورا "نظريات مؤامرة" عديدة كان أبرزها القول بأن الأميركيين أخطأوا عندما أوكلوا المهمة الى "مرتزقة"، فربما دفع بن لادن لهم "ثمناً أكبر" مما دفعه الأميركيون، فسمحوا له ولقواته بالعبور الى القاطع الآخر من "الجبال البيضاء" داخل الأراضي الباكستانية. ومما لا شك فيه ان العديد من عناصر "القاعدة" وجدوا طريقهم فعلاً الى باكستان، سواء بتواطوء من الأفغان أنفسهم أم من خلال الاعتماد على شبكات المهربين الباكستانيين الذين يعرفون المنطقة ومعابرها السرية. وإن كان غير معروف هل استطاع بن لادن نفسه اللحاق بهم، فإن المؤكد ان "القاعدة" اتخذت في كهوف "الجبال البيضاء" قرارها الاستراتيجي بنقل المعركة الى خارج أفغانستان. فطلبت من أعضائها العودة الى الدول التي جاؤوا منها، أو الانتقال الى دول أخرى للتخطيط لعمليات تستهدف الأميركيين ومصالحهم وهو موضوع الحلقة المقابلة. إختفى بن لادن منذ ذلك الوقت، ولم تُفلح جهود الأميركيين الذين أخذوا عيّنات حمض نووي من جثث القتلى في تورا بورا، في تحديد ما حلّ به، إذ لم يظهر ما يؤكد انه بين المتوفين. ولذلك، غيّر الأميركيون طريقة تعاملهم مع زعيم "القاعدة". فغاب إسمه كلياً من تصريحات الرئيس جورج بوش بعدما كان في السابق يصفه ب"الشرير" المطلوب "حيّاً أم ميتاً". وصار الرئيس الأميركي، بدل ذلك، يتحدث في عموميات تفيد ان الحرب على الإرهاب ليست محصورة بشخص أو مجموعة، بل هي حرب طويلة المدى وتشمل أكثر من دولة. وفي موازاة هذا الموقف الرسمي، كانت القيادة العسكرية الأميركية تتعامل مع بن لادن من منطلق ان "غيابه" لا يعني انه "ليس موجوداً" فعدم ظهوره لا يعني وفاته. وفي هذا الإطار، أرسل الأميركيون قوات خاصة لتمشيط كهوف المناطق الحدودية. وفي باكستان نفسها، أرسل الرئيس برويز مشرّف قوات الى مناطق القبائل على الحدود مع أفغانستان. لكنها لم تشن عمليات واسعة في تلك المناطق غير الخاضعة كلياً للسلطة المركزية، وهو أمر أثار حفيظة الأميركيين الذين كانوا متأكدين ان عناصر "القاعدة" يحتمون هناك. والواقع ان الولاياتالمتحدة لم تكن قادرة على ممارسة ضغط كبير على مشرّف في هذا الموضوع لتعقيدات طرأت آنذاك. إذ هدد الباكستانيون بسحب قواتهم من الحدود الأفغانية في اتجاه الحدود مع الهند، إثر تصاعد كبير للتوتر معها بسبب كشمير كاد ان يؤدي الى حرب بين هذين الجارين النووين. شاهي كوت بدأ العام الجديد والأميركيون لا يزالون يفكّرون في ما حصل معهم في تورا بورا. غابت المواجهات مع بقايا "القاعدة" و"طالبان" التي كانت سلّمت مع نهاية 2001 آخر معاقلها وفرّ زعيمها الملا عمر، على ما يُزعم، بدراجة من قندهار في اتجاه ولاية أورزجان المجاورة، مسقط رأسه. لكن عدم حصول المواجهات كان سببه بسيطاً. ف"القاعدة" و"طالبان" كانا يحاولان إعادة تنظيم صفوفهما ومداواة جراحهما بعد النكسات التي مُنيتا بها. والأميركيون، بالطبع، كانوا يعرفون ذلك بسبب طائرات التجسس التي لا تغادر سماء المنطقة وبسبب شبكة واسعة من "المخبرين" الراغبين في وضع يدهم على جرء من المكافآت السخية التي يعرضها "العم سام" لمن يرشد عن "القاعدة" و"طالبان". وهكذا بدأ الاستعداد للمعركة المقبلة. مسلحو "طالبان" و"القاعدة" المقدّر عددهم بنحو خمسة آلاف كانوا يتجمّعون في سلسلة جبلية في شاهي كوت بين غارديز عاصمة ولاية بكتيا وخوست على الحدود الباكستانية. وشاهي كوت، مثلها مثل تورا بورا، كانت معقلاً للمقاومة ضد الروس، وتضم مجموعة من الكهوف المحفورة في جبال شاهقة يتراوح علوّها بين 300،8 قدم و600،11 قدم. هناك، بدأ الأميركيون يخططون لمعركة لا يتكرر فيها خطأ تورا بورا، وهذا يعني ان عليهم النزول بأنفسهم في المعركة بدل الاعتماد على زعماء الحرب الأفغان الموالين لهم. حشد الأميركيون سرّاً أكثر من 1500 جندي من القوات الخاصة ومعهم قرابة الفين من قوات المعارضة، وتركوا مسلحي "القاعدة" و"طالبان" يتجمعون في شاهي كوت. سُمّيت خطتهم "أناكوندا"، نسبة الى الثعبان الذي يلتف حول ضحاياه ويقضي عليهم. أبلغ الأميركيون حلفاءهم الباكستانيين بأن عليهم الاستعداد لصد محاولة تسلسل واسعة الى داخل حدودهم من مقاتلي "القاعدة" و"طالبان" الذين يمكن ان يحاولوا الفرار بعد بدء الهجوم على شاهي كوت. فإن بقي المسلحون في جبال المنطقة أمام تقدم "الأناكوندا" فيسُقضى عليهم، وإن حالوا الفرار الى باكستان فإنهم سيقعون بين فكي كماشة نصبها لهم الجيش الباكستاني. نشبت المعركة في بداية آذار مارس 2002، لكن نتائجها لم تكن بأكثر وضوحاً من نتائج معركة تورا تورا نهاية 2001. بدأ الهجوم كارثياً بالنسبة الى الأميركيين. فهم لم يلجأوا هذه المرة الى قصف المنطقة قصفاً مُدمّراً قبل الدفع بقواتهم اليها، بل طبّقوا عكس ذلك تماماً. أرسلوا قوات خاصة تشتبك مع المسلّحين وتدفع بهم الى الوراء، نحو الحدود مع باكستان. لكن هؤلاء كانوا في انتظارهم. فما ان أطلت وحدة إستطلاع أميركية حتى سقطت في كمين: خرج مسلحو "طالبان" و"القاعدة" من مخابئهم في الجبال وحاصروا الوحدة التي بعثت بنداء استغاثة تطلب المساعدة لفك الحصار عنها. أرسل الأميركيون مروحيات ناقلة للجند من نوع تشينوك، لكنها لم تستطع الاقتراب لغزارة النيران الموجّهة صوبها. وكان ان سعت إحداها الى تفادي النيران المعادية فسقط منها أحد العسكريين أرضاً. أُرسلت وحدة أخرى على عجل لإنقاذه، فوقعت بدورها في كمين. سقطت طائرتهم التشينوك وقُتل سبعة عسكريين، كما أصيبت طائرة أخرى. لكن الجنود المحاصرين لأكثر من يوم وليلة استطاعوا الصمود حتى وصول مروحية أخرى أقلتهم الى خارج المنطقة. ويبدو ان ما حصل في تلك المواجهة دفع الأميركيين الى تغيير أسلوب المعركة. فلجأوا مجدداً الى طريقة القصف الجوي. تدخلت طائرات ال"بي 52" مُفرغة ما في بطونها من قنابل على كهوف شاهي كوت. ولم يكتف الأميركيون بذلك، بل لجأوا الى "اختبار" مدى فعالية أسلحتهم وعلى رأسها الصاروخ الحراري "BLU-118B" الذي كانت القيادة العسكرية أمرت بالإسراع في الانتهاء من تصنيعه مباشرة بعد 11 أيلول. وميزة هذا الصاروخ الضخم انه لا يُحدث تدميراً، بل يقضي على الحياة في مكان سقوطه كونه يمتص الأوكسجين ويُحدث موجات من الارتجاج تُفجّر دماغ الإنسان. وأخذ الأميركيون يُطلقون هذا النوع من الصواريخ على مداخل كهوف شاهي كوت، الأمر الذي كان يسمح ببقاء باب الدخول اليها مفتوحاً لكنه يمتص الهواء الموجود داخلها ويبيد المختبئين فيها. وحتى بعد كل هذا القصف المدمّر للمنطقة، رفض من بقي حياً من المسلحين فيها ممن لم يستطع الفرار صوب باكستان الاستسلام. ويقول جنود أميركيون شاركوا في عملية شاهي كوت انهم تعلّموا درساً من المسلّحين هناك وكيف انهم كانوا يقاتلون حتى الرمق الأخير. وكانت تلك المعركة فعلاً ما يُشبه "الرمق الأخير" ل"القاعدة" و"طالبان" داخل أفغانستان. فمنذ تلك المواجهة التي انتهت في 18 آذار مارس، لم تقع أي مواجهة بارزة بين القوات الأميركية والمسلحين المؤيدين للملا عمر وأسامة بن لادن. وعلى رغم حصول العديد من الاغتيالات والتفجيرات، خصوصاً في ولايات الشرق، فإن قوات التحالف الغربي شنّت عشرات عمليات التمشيط لكنها لم تشتبك ولو لمرة واحدة مع بقايا "طالبان" و"القاعدة". هل يعني ذلك ان الولاياتالمتحدة ربحت حرب أفغانستان مع مرور الذكرى الأولى لهجمات 11 سبتمبر؟ يبدو ان الأميركيين ربحوا فعلاً جولة أساسية حاسمة، بإطاحتهم نظام "طالبان" على رغم بقاء الملا عمر حيّاً وحرمان "القاعدة" من ساحة تُدرّب فيها أجيالاً جديدة من "الراغبين في الاستشهاد"، كما هو حال الانتحاريين الذين خطفوا طائرات 11 أيلول. لكن الفوز في معركة يختلف بالطبع عن ربح الحرب، والشهور المقبلة ستحمل معها بلا شك الجواب اليقين: هل ربحت أميركا الحرب، أم أنها في بداية الطريق لتكرار ما حصل مع الروس وغرقهم في "مستنقع" أفغانستان "مقبرة الأمبراطوريات"؟ خلايا الخارج اتضح ل"القاعدة" في وقت ما من أواخر العام 2001 ان أفغانستان لم تعد ساحة مثالية لها. فسقوط نظام الملا محمد عمر رفع غطاء "الضيافة" عن وجود أسامة بن لادن وأنصاره في هذه الدولة، وعنى بالتالي انهم لم يعودوا موضع ترحيب، سوى في بعض مناطق الولاياتالشرقية حيث ينشط معارضو الحكومة الجديدة التي قامت في كابول برئاسة حميد كارزاي. وإذا كان هناك من نشاط بقي للتنظيم داخل أفغانستان، فإنه على الأرجح محدود حالياً، وينحصر في مناطق الحدود مع باكستان. أفغانستان، إذن، لم تعد تلك الساحة التي اعتادت "القاعدة" استخدامها ك"السمكة في الماء". وبما ان أفغانستان أغلقت ذراعيها في وجه بن لادن ومؤيديه، فكان على هؤلاء البحث عن مكان آخر يلجأون اليه. ونظراً الى الطبيعة الجغرافية لأفغانستان، لم يكن الخروج منها ممكناً سوى عبر معبرين أساسيين: الأول يقود الى باكستان والثاني الى إيران. وعبرهما بدأت "القاعدة" تسحب مقاتليها ليُشكّلوا "خلايا نائمة" تُخطط لعمليات جديدة ضد الأميركيين. كان المعبر الباكستاني محفوفاً بالمخاطر، لكن كثيرين اختاروا المغامرة كونه الأقرب، خصوصاً للذين كانوا محاصرين في تورا بورا وشاهي كوت، قرب الحدود مع باكستان. اعتُقل عشرات من عناصر التنظيم خلال محاولتهم عبور الحدود، ونُقل كثيرون منهم لاحقاً الى قاعدة غوانتاناموا الأميركية في كوبا تضم مئات من أسرى "القاعدة" و"طالبان". لكن في موازاة الذين سقطوا في الاعتقال، نجح مئات آخرون أفراد التنظيم مع عائلاتهم في الانتقال الى مناطق القبائل داخل باكستان والنزول في حمايتها، وهو تقليد إسلامي تُصرّ القبائل على التمسك به، خصوصاً ان مقاتلي "القاعدة" يقولون انهم يطلبون "الاستجارة" عند الباكستانيين. ومن هناك، انتشر عناصر "القاعدة" في المدن الباكستانية، خصوصاً كراتشي التي استُخدم موقعها الاستراتيجي على بحر العرب في تسلل أفراد التنظيم سرّاً في اتجاه الخليج عبر عُمان واليمن، أو الصومال. وتنسب أجهزة الأمن الباكستانية الى عناصر "القاعدة" كثيراً من عمليات التفجير والقتل التي حصلت في الشهور الماضية، وتقول انهم إما ضالعون مباشرة فيها أو من خلال "تحالفهم" مع أعضاء في تنظيمات باكستانية محلّية مثل "لشكر الطيبة" و"جيش محمد" و"حركة المجاهدين العالمية". ومن بين أبرز تلك العمليات خطف الصحافي الأميركي دانيال بيرل وقطع رأسه عُثر على جثته في أيار/مايو الماضي. ويُنسب قتله الى شخص يمني كان مع الخاطفين الباكستانيين وعلى رأسهم أحمد عمر شيخ البريطاني المولد الذي استأنف محاموه حكم الإدانة، وتفجير حافلة تنقل مهندسين فرنسيين يعملون في بناء غواصات باكستانية في كراتشي قُتل 11 منهم عندما فجّر انتحاري نفسه بالباص الذي يقلهم في 14 أيار/مايو 2002 ومهاجمة كنيسة في إسلام آباد يرتادها غربيون في آذار/مارس مما أدى الى مقتل زوجة ديبلوماسي أميركي وابنته، ومهاجمة مدرسة ومستشفى يديرهما مبشرون مسيحيون قرب إسلام آباد في اب/اغسطس الماضي مما أدى أربع راهبات وستة مواطنين باكستانيين ومحاولة تفجير القنصلية الأميركية في كراتشي في حزيران/يونيو الماضي مما أدى الى مقتل 11 شخصاً. وعلى رغم هذه النجاحات المحدودة، كون العمليات لم تستهدف سوى "أهداف سهلة"، فقد مُنيت "القاعدة"، في المقابل، بنكسة مهمة في باكستان. إذ اعتقلت قوات الأمن، بمساعدة عملاء مكتب التحقيقات الفيديرالي اف. بي. آي، أحد "العقول الميدانية" للتنظيم "أبو زبيدة" الفلسطيني الذي نشأ في السعودية خلال اشتباك في مدينة فيصل آباد في آذار مارس الماضي. وسلّمه الباكستانيون فوراً الى الأميركيين الذين عالجوه من طلقات نارية أصيب بها خلال توقيفه ونقلوه الى قاعدة في مكان لم يُحدد. ويُزعم انه أدلى منذ ذلك الوقت بمعلومات للمحققين ساهمت أحياناً في اعتقال أعضاء في "القاعدة" ويُقر الأميركيون بأن بعض المعلومات التي أدلى بها كان هدفه إثارة الهلع في صفوفهم من خلال ترويج معلومات غير صحيحة عن هجمات متوقعة ضدهم. لكن معلومات أخرى أدلى بها ساهمت في شكل غير مباشر في كشف بعض خلايا تنظيم بن لادن. ويبدو ان اعتقال "أبو زبيدة" أدى الى انتقال الإشراف على عمليات التنظيم الى أشخاص آخرين في "القاعدة" أبرزهم خالد شيخ مُحمد باكستاني مولود في الكويت وأحمد الملا بلال يُزعم أنه سعودي وشارك في التخطيط لعملية تفجير المدمرة "كول". وينشط أيضاً من باكستان مناطق الحدود الأفغانية الناطق الرسمي باسم "القاعدة" سليمان أبو غيث سحبت الكويت منه الجنسية. خط إيران وفي مقابل هذا الخط الباكستاني، عبر مئات آخرون من أفراد "القاعدة" وعائلاتهم شرقاً في اتجاه إيران، التي كان التنظيم يستخدمها منذ فترة طويلة منفذاً للوصول الى أفغانستان. ولجأت "القاعدة" الى اختيار المعبر الايراني الى أفغانستان بعدما تبيّن لها ان العرب الذين يزورون باكستان يصيرون محل شبهة في بلدانهم التي تبيّن لها ان كثيراً من هؤلاء إنما يتوجهون سرّاً الى أفغانستان من دون ختم جوازات سفرهم. فصارت إيران معبراً أفضل من المعبر الباكستاني، على رغم ان الخروج منها الى أفغانستان كان غالباً يتم في السر أو بجوازات غير صحيحة. وعلى رغم ان إيران قامت بإجراءات ضد هؤلاء "الضيوف" غير المدعوّين إذ رحّلت قرابة 400 من العرب والأجانب المشتبه في قدومهم من أفغانستان، إلا ان ذلك لم يكن كافياً، من وجهة نظر الأميركيين وبعض أجهزة الاستخبارات العربية. إذ شكّت هذه المصادر في ان إيران تعرف بأن "القاعدة" تنشط على أرضها، لكنها ترفض اعتقال أفرادها وتسليمهم. ويُزعم ان أبرز قادة "القاعدة" الناشطين من إيران حالياً هما "سيف العدل" المسؤول الأمني البارز في "القاعدة" وقبل ذلك في "جماعة الجهاد" المصرية، ويُنسب اليه التخطي لتفجير سفارتي الولاياتالمتحدة في نيروبي ودار السلام عام 1998 و"أبو حفص الموريتاني" محفوظ ولد الوليد المسؤول في اللجنة الشرعية المكلّفة درس فتاوى التنظيم. وكان الأميركيون يعتقدون ان الموريتاني قُتل في أفغانستان، لكن التحقيق مع أشخاص رحّلتهم إيران الى إحدى الدول العربية كشفت انه لا يزال حياً وينشط إنطلاقاً في غرب إيران. وتنفي طهران مزاعم نشاط "القاعدة" في أراضيها. في أي حال، لم يقتصر نشاط "القاعدة" على إيران وباكستان، بل حاول التمدد الى دول عديدة بهدف تدبير عمليات ضد الأميركيين. وبما ان "القاعدة" لن تكشف أسماء أفراد "خلاياها النائمة"، ربما في انتظار "استيقاظهم" وتنفيذ العمليات المطلوبة منها، فإن ما عُرف فقط من نشاطها هو ما كشفته أجهزة الأمن. ولعل الصيد الأكبر الذي تحقق للأميركيين، خارج أفغانستان وباكستان، كان كشف الأمن المغربي خلية ل"القاعدة" يقودها ثلاثة سعوديين كانوا في أفغانستان وخرجوا إثر معركة تورا بورا بتكليف، على ما يزعم المحققون، من أحد قادة التنظيم أحمد الملا بلال. وتبيّن لأجهزة الأمن من التحقيقات معهم انهم كُلّفوا العودة الى المغرب إذ ان بعضهم كان متزوجاً من مغربيات بهدف التحضير لمهاجمة سفن حربية غربية تعبر مضيق جبل طارق، على غرار العملية التي استهدفت المدمرة "كول" في ميناء عدن في تشرين الأول اكتوبر 2000. ولهذا الغرض تفقّد أفراد الخلية التي تضم مغاربة أيضاً، موانئ على الساحل المغربي لمحاولة شراء زوارق "زودياك" صغيرة يعتقد المحققون انها كانت ستنقل متفجرات و"انتحاريين" يضربون بها بوارج حلف الأطلسي. ويُزعم أيضاً ان اعترافات الموقوفين قادت الى كشف مؤامرات للقيام بتفجيرات داخل المملكة العربية السعودية. وبالفعل، أعلنت الرياض انها كشفت أعضاء مرتبطين ب"القاعدة" كانوا يخططون لعمليات إرهابية. لكن ليس واضحاً هل المعتقلون هم أنفسهم الذين كشف عنهم مُعتقلو المغرب أم هم خلية أخرى. وإضافة الى هؤلاء، أعلنت السلطات السعودية أيضاً انها تسلمت سودانياً من الخرطوم يُشتبه في تورطه بإطلاق صاروخ أرض - جو على طائرة أميركية نهاية العام الماضي. ولم يُصب الصاروخ هدفه، بل ان أحداً لم يعرف بحصول الحادث سوى بعد فترة طويلة. وتبيّن لاحقاً ان "القاعدة" سعت الى تهريب أسلحة الى السعودية من الأراضي اليمنية. وعلى رغم عدم هجمات جديدة على المصالح الأميركية في اليمن، فإن حكم الرئيس علي عبدالله صالح كان يعرف ان ل"القاعدة" امتداداً داخل قبائل يمنية تحمي عناصر بارزة في التنظيم. وقد حاول الجيش اليمني مراراً الضغط على هذه القبائل لتسليم المُشتبه بهم، ولكن من دون جدوى. وقد قُتل أكثر من 16 جندياً يمنياً في معركة مع القبائل، بعدما ظنت خطأ ان الجيش يهاجمها إثر خرق طائرة حربية جدار الصوت. ولم يُحاول الجيش مجدداً دخول مناطق القبائل، على رغم ان تقارير عديدة تفيد انه يستعد لذلك بعد تلقي قوات النخبة فيه تدريبات على يد الجيش الأميركي. ولم تشهد أي من دول الخليج الأخرى أي حادثة أخرى، وإن كانت السلطات العُمانية شددت إجراءات المراقبة بعدما تبيّن لها ان عناصر من "القاعدة" حاولوا دخلوها آتين من باكستان عبر بحر العرب. معبد جربة وإذا كانت "القاعدة" فشلت حتى الآن في تنفيذ عمليات في أي دولة عربية، فإن نجاحها الوحيد جاء في مكان لم يتوقعه أحد. فتونس كانت حتى الآن البلد العربي الوحيد الذي بدا مطمئناً تماماً لقدرته على ضبط الأمن على أراضيه. إذ لم تُسجّل فيه حادثة واحدة مرتبطة بالإرهاب على مدى السنوات الماضية، على رغم ما كان يحصل من صدامات في الدول المحيطة بتونس، مثل الجزائر مع الجماعات الإسلامية المسلحة وليبيا مع الجماعة المقاتلة وحتى في مصر مع "الجماعة الإسلامية" و"جماعة الجهاد". من هذا البلد الهادئ جاءت ضربة "القاعدة" التي بدا انها كانت نجحت في استقطاب الشاب التونسي نزار نوار خلال وجوده في الغرب كندا. وبعد عودته الى بلاده عمل مرشداً سياحياً، الأمر الذي أتاح له الوصول الى "غربيين". وكان الحظ العاثر من نصيب مجموعة من السياح الألمان الذين جاؤوا لزيارة جزيرة جربة التي تضم معبداً يهودياً قديماً يُعرف ب"كنيس الغريبة". فقاد نزار صهريجاً مفخخاً وفجّره بالمعبد وزوّاره في 11 نيسان ابريل الماضي، مما أدى الى مقتل 19 شخصاً بينهم 14 المانياً وعدد من الفرنسيين والتونسيين. وما كادت هذه العملية تحصل حتى أصدرت "قاعدة الجهاد" الإسم الجديد ل"القاعدة" بعد توحّدها مع "جماعة الجهاد" المصرية بياناً تبنّت فيه التفجير ووزّعت وصية كتبها نزار بخط يده. ويبدو المحققون في قضية المعبد متيقّنين بأن نزار مرتبط ب"القاعدة"، ليس فقط اعتماداً على البيان الذي وزّعته. إذ تبيّن للمحققين انه اتصل قبل وقت قصير من تنفيذ عمليته بخالد الشيخ محمد في باكستان. والأخير مطلوب في الولاياتالمتحدة للإشتباه في ضلوعه مع رمزي أحمد يوسف عام 1995 في محاولة تفجير 11 طائرة أميركية. كما يُشتبه في ان له علاقة بمحاولة تفجير برجي مركز التجارة العالمي عام 1993 والتي قادها رمزي يوسف أيضاً. واعتُقل الأخير في باكستان عام 1995 وسُلّم الى الولاياتالمتحدة حيث يقضي عقوبة بالسجن مدى الحياة بعد إدانته في قضية مركز التجارة. واللافت في هذا الإطار ان المحققين الأميركيين يعتقدون ان هناك علاقة قرابة بين رمزي يوسف والشيخ خالد الذي يبدو انه بات أحد أهم القادة الميدانيين ل"القاعدة" في ظل غياب رموزها مثل أسامة بن لادن والدكتور أيمن الظواهري. القنبلة القذرة وفي موازاة ذلك، يبدو ان ل"القاعدة" علاقة أيضاً بمحاولتين على الأقل استهدفتا الاعتداء على مصالح أميركية. إذ يربط المحققون الأميركيون "القاعدة" بشخص أميركي مُسلم يدعى خوسيه باديلا عبدالله المهاجر اعتُقل في مطار شيكاغو في تموز يوليو الماضي آتياً من باكستان عبر سويسرا. ووجه الإدعاء اليه تهمة التآمر لتفجير "قنبلة إشعاعية" تُعرف أيضاً ب"القنبلة القذرة"، وهي أقل تأثيراً من القنبلة النووية لكنها تترك تأثيراً بيولوجياً خطيراً. ويعتقد المحققون انه كان في السابق في أفغانستان وعاد الى الولاياتالمتحدة بناء على طلب من قياديين في "القاعدة" التقاهم في باكستان، بهدف التحضير ل"هجوم إشعاعي". يُقرّ المحققون بأن فكرة الهجوم لم تتجاوز التفكير فيه ولم تتحول مشروعاً عملياً بل اقتصر بحث باديلا في الانترنت عن طرق تنفيذ الهجوم القذر. ولا يُمكن تأكيد المعلومات التي تفيد ان "أبو زبيدة" هو من أخبر الأميركيين في التحقيق معه بأن "أميركياً" مرتبطاً ب"القاعدة" يستعد لعملية ما، فقادهم من دون ان يدري الى المعني. وسبق ذلك محاولة أخرى قام بها بريطاني اعتنق الإسلام ويدعى ريتشارد ريد الذي حاول إشعال متفجرة أخفاها في حذائه خلال رحلة بين فرنساوالولاياتالمتحدة في كانون الأول ديسمبر الماضي. لكن ركّاب الطائرة والمضيفين تمكّنوا من السيطرة عليه قبل إشعال الفتيل. وهو موقوف حالياً في سجن أميركي في انتظار محاكمته. وليس واضحاً حتى الآن هل هناك ما يؤكد علاقة "القاعدة" بمحاولة خطف طائرة "رايان إير" في السويد على يد شاب من أصل تونسي في اب اغسطس الماضي. ... وهكذا تحلّ ذكرى سنة 11 أيلول في ظل فشل "القاعدة" في تنفيذ عمليات جديدة مماثلة في شدتها للضربة التي وجهتها الى الولاياتالمتحدة في ذلك "الثلثاء الأسود" من سبتمبر العام الماضي. لكن هذا الفشل ليس معياراً بحد ذاته. فتفجير سفارتي أميركا في دار السلام ونيروبي عام 1998 خُطط له قبل التنفيذ بسنوات. وعملية تفجير المدمرة "كول" في اليمن خُطط لها قبل وقت طويل أيضاً من التنفيذ كانت العملية مقررة أصلاً في كانون الثاني/يناير 2000 وليس في تشرين الأول/اكتوبر 2000، وكانت مدمرة أخرى غير "كول" هي المستهدفة. لكن العملية فشلت عندما غرق الزورق الصغير المحمّل بالمتفجرات والذي كان سيضرب المدمرة في ميناء عدن. لذلك، منطقي أننا سنسمع ب"القاعدة" من جديد. فهي ستظل في سباق مع أجهزة الأمن. إن كان الأمن هو الأسرع، فالأرجح اننا سنسمع باعتقالات. وان كانت "القاعدة" هي الأسرع، فسنسمع بالتأكيد بتفجيرات واغتيالات ودماء.