لم يكن جورج بوش وتوني بلير في أفضل أحوالهما عندما واجها الصحافة مساء الخميس. وباختصار، ظهرا معاً ليؤكدا أنهما متضامنان في الدفاع عن كل كذبة أدليا بها في الشهور الماضية، وأنهما متمسكان ب"صدق" ما توصلت اليه الاستخبارات عن أسلحة لم يعثر عليها والأرجح أنها غير موجودة. ووجد الرجلان نفسيهما مضطرين للدفاع مجدداً عن حرب خاضاها وانتصرا فيها ولم يعد أحد من معارضيها السابقين يكيل اليهما الانتقادات، لكنهما يعانيان تحديداً من محاسبة داخلية صعبة. من الواضح ان توني بلير يئس من الحاضر، لذا خاطب الكونغرس الأميركي عاقداً رهانه على التاريخ الذي يمكن أن يغفر له خطاياه. لم يقل شيئاً عن الدوافع التي جعلته يفرط في المبالغة والضغط على الحقائق، فهو اختار العناد سلاحاً لإفشال أي نقاش أو محاسبة. مشكلته أنه لم يكن مقنعاً في أي لحظة، وإذا كان مواطنوه وقفوا وراء القوات البريطانية حين أصبحت الحرب أمراً واقعاً فهذا لم يعن أنهم متضامنون مبدئياً مع الحرب أو مع اسلوب رئيس الوزراء في التعامل معها. كان المناخ ثقيلاً بين بوش وبلير من جهة والصحافيين من جهة أخرى. فآخر ما يتمناه الرجلان هذه الأيام هو الاجابة عن الاسئلة. بين بلير والصحافة، ممثلة ب"بي بي سي" مشكلة، وبين بوش والصحافة الأميركية المشكلة قائمة منذ زمن لكنها تتصاعد. أراد الرئيس الأميركي أن يكون حاسماً حين قال انه يتحمل مسؤولية قرار الحرب بكل ما سبقه وعقبه، إلا أنه لم يحسم شيئاً، لأنه لم يكن واضحاً ولا يستطيع أن يكون واضحاً في جلاء الحقائق. لذا فهو يتهرب، لائذاً بالتاريخ لعله يفيد، مذكراً بأن صدام حسين كان في 1991 يحاول تطوير سلاح نووي وكان بذلك يشكل خطراً. لعل أفضل ما يمكن أن يقال للرئيس الأميركي ورئيس الوزراء البريطاني ان صدام سقط، وان الناس تتعامل بمعطيات 2003 ولا تريد أن يُحتقر ذكاؤها وأن تخدع على النحو الذي حصل. يبدو أن الرجلين بحاجة الى تذكير، وخصوصاً بحاجة الى معرفة أن الرأي العام ليس متأكداً بأن كل ما فعلته حكومتاهما يعالج مسألة الارهاب. كل الحجج والذرائع والالتباسات الكلامية والعبث بالوثائق والحقائق استخدمت، وحصلت حرب كانت في الجانب الأكبر منها "افتراضية"، وفي الجانب الآخر لم تنكشف حقائقها، وتقبل الرأي العام الأميركي والبريطاني النتائج برضا وارتياح، خصوصاً سقوط النظام الديكتاتوري، ومع ذلك بدت المحاسبة ضرورية. لا بد أن هذه هي ديموقراطية الولاياتالمتحدةوبريطانيا، إلا أن بوش وبلير يضيقان بهذه الديموقراطية، بدليل أنهما سخرا مراراً من النقاش الدائر حول "الوثائق" وصدقيتها، وقللا من أهميته ولم يسهلا مهمة البحث عن الحقيقة، بل تذرعا ب"حق الدولة" في التكتم على أسرار استخباراتية. وحتى حين تبرأت الاستخبارات من "مبالغات" المطابخ السياسية في لندن وواشنطن، جرت محاولات لتوريط استخبارات أخرى "صديقة". في الوقت الذي تبشر الولاياتالمتحدة ب"الديموقراطية" وتتبرع بإقامتها في دول الشرق الأوسط، بدءاً من العراق، ولا شك أن بريطانيا تساندها في ذلك، أعلن أن الخبير العسكري البريطاني في أسلحة الدمار الشامل ديفيد كيلي مفقود. ولا يبدو أن اختفاءه ينتمي الى الديموقراطية في شيء، وانما له علاقة وثيقة بما يسمى "حق الدولة" ومنطقها الذي لا يمانع تصفية أي شخص يشكل خطراً عليه. كان كيلي هو "المصدر" المزعوم الذي اعتمد عليه أندرو غيليغان، الصحافي في "بي بي سي" ليؤكد ان جهاز بلير "ضخّم" ملف أسلحة العراق. لا يمكن القول إن "المقاومة العراقية" هي التي خطفت كيلي وربما تخلصت منه، ولا يمكن القول إن "فدائيي صدام" أو "المتطوعين العرب" هم الذين يخوضون معركة محاسبة بلير على أكاذيبه. لكن، لا شك أن التخلص من كيلي يشكل انذاراً قوياً ونهائياً للإعلام والإعلاميين البريطانيين بأن مقارعة الدولة في "أسرار" الحرب تقود الى المهالك، حتى لو كانت أسراراً مفبركة. تبقى معرفة الى أي حد يمكن لغياب كيلي أن يخدم صورة مستر بلير ومستر بوش.