لم تتوقف المآسي عن ملاحقة عائلة كنيدي منذ أكثر من نصف قرن، أي منذ اللحظة التي خيل فيها لعميد العائلة جوزيف باتريك كنيدي، أنه وصل إلى قمة المجد الاقتصادي والاجتماعي، وبات الطرق ممهداً أمامه - أمام ابنائه بالأحرى - للوصول إلى المجد السياسي. منذ تلك اللحظة التي تبدو اليوم بعيدة كان القدر "الفاوستي" وليس "الشكسبيري"، كما يحلو لبعضهم أن يقول اليوم، في المرصاد ليحصد أبناء الأسرة وسمعتها وأحلامها، وصولاً إلى مقتل جون جونيور، ابن الرئيس جون كنيدي، في حادث طائرة بالقرب من عزبة العائلة في مارتاس فينيارد. إن الكثيرين يتحدثون اليوم عن أنه كان في الامكان تجنب الكارثة لو أن جون جونيور كان عاقلاً حقاً. إذ أنه، وهو الحديث الخبرة بالطيران، ارتكب حماقة كبيرة حين قرر ان يقود طائرته الصغيرة "بيبر ساراتوغا" بنفسه، في طقس عاصف مرعب، فوق مياه محيط يختلط سطحه بالغيوم بلون السماء الداكن. جون جونيور لم يكن وراءه سوى 100 ساعة طيران فعلي، علماً بأن من يريد قيادة طائرة صغيرة في مثل تلك الظروف، لا بد أن تكون لديه أضعاف أضعاف ذلك. لقد قال الكثيرون إنه لو كانت جاكلين اوناسيس - كنيدي، حية لما تركت ابنها يرتكب تلك الحماقة، بل أنه لم يتدرب على الطيران إلا بعد وفاتها، فقد كانت تخشى عليه دائماً. ولكن هل حقاً كان في الإمكان تفادي الكارثة؟ أوليس في فاجعة جون جونيور شيء من البعد الانتحاري؟ ان كثيرين من أصدقاء الفتى الذهبي - الذي وصف بأنه، واخته كارولين، كانا الأكثر تعقلاً بين أبناء الجيل الثالث من الأسرة - قالوا إنه على رغم عقلانيته كان يشعر دائماً بأن ثمة "رغبة في الموت تداعبه وتلاعبه"، وانه كان كثيراً ما يعبر عن أمله في أن يلتقي بسرعة أباه الراحل جون فيتزجيرالد كنيدي، الرئيس الذي كان اغتياله ولا يزال يعتبر من أبرز وأقسى أحداث القرن العشرين. أمام مثل هذه التأكيدات التي بدا ثمة اجماع عليها، يطرح السؤال: هل كان يمكن حقاً تجنب الكارثة لو بدا جون جونيور أكثر تعقلاً؟ إن الجواب قد يمكن العثور عليه بشكل أفضل من خلال استعراض حكاية هذه الأسرة العجيبة، التي لها موعد دائم مع الفواجع، موعد يبدو وكأنه نابع من عقد مع "فاوست" سبق لغوته، الكاتب الألماني الكبير، بين آخرين، أن تحدث عنه في مسرحيته الشهيرة: اعطني النجاح والسلطة والشباب وخذ ما تريد. والشرط، افجعك متى أشاء. وتأتي الفجيعة في لحظة النجاح نفسها. جون جونيور كان الأنجح والأهدأ بين أبناء الجيل الثالث من آل كنيدي، فهل تراه دفع الثمن غالياً، كما كان يمكن للكثيرين أن يقولوا اليوم؟ في العام 1944 كانت منطقة هيانيس بورت عند سواحل ولاية ماساتشوستس الأميركية، مجرد منطقة هادئة يقطنها علية القوم من أهل الساحل الشرقي. لم تكن عرفت أحزاناً استثنائية عدا تلك التي تكتب على كل فرد وأسرة ومجتمع. في يوم من أيام ذلك العام وصل إلى المنطقة رجلا دين كاثوليكيان وعلى محياهما إمارات القلق والحزن. كانت مهمتهما شاقة بالفعل، إذ أنهما كانا مكلفين ابلاغ الثري جوزيف باتريك كنيدي، أحد أعيان المنطقة، أن ابنه البكر جوزيف جونيور، الطيار في سلاح البحرية الأميركية، قتل في أجواء القنال الانكليزي، حيث تحطمت طائرته خلال قيامه بمهمة عسكرية سرية في تلك الحقبة الأخيرة من حقبات الحرب العالمية الثانية. عندما سمع "بطريرك آل كنيدي" - كما كان جوزيف الكبير يلقب في ذلك الحين - النبأ وجم واعتراه حزن شديد. كان جوزيف جونيور ابنه الاثير، والوحيد الذي كان يعول عليه، بين اخوته واخواته، ليخوض العمل السياسي. وكان "البطريرك" يرى في مثل ذلك العمل فصلاً جديداً من حكاية صعوده المدوي الذي جعل أسرته واحدة من أغنى وأشهر الأسر الكاثوليكية في طول الولاياتالمتحدة وعرضها. كان حزنه بحجم خيبة أمله، لكنه كان يعرف أن لديه أبناء آخرين، يمكنهم ان يحققوا طموحاته السياسية ذات يوم. في المقابل لم يكن يعرف ان القدر يخبئ له مفاجآت وأحزاناً ستشغل أميركا كلها، والعالم بعد ذلك، طوال أكثر من نصف قرن. فالحال أن مقتل جون كنيدي جونيور، في حادث تحطم طائرته، مع زوجته كارولين بيسيت وشقيقتها، على فداحته، لم يكن سوى حلقة جديدة في سلسلة المآسي التي لم يكف آل كنيدي عن عيشها، منذ تلك اللحظة البعيدة. ومع هذا ربما لم يكن أحد يتوقع أن تأتي الحلقة الجديدة لتطاول هذا الشاب الناجح الهادئ الذي كان يعتبر رمزاً لما يمكن ان تكون عليه - حقاً - أخلاق ومسالك عائلة اختلط الموت لديها بالجنون، والانحطاط الخلقي بأعلى درجات التفوق السياسي. كان من المتوقع ان تأتي المأساة في مكان آخر، على كثرة المآسي في تلك الأمكنة. من هنا، حين كان متفرجو التلفزة الأميركيون يراقبون شاشاتهم أواخر الأسبوع قبل الفائت، وهي تعرض عليهم مراراً وتكراراً، صورة شهيرة آتية من مجاهل سنوات الستين: صورة الخطوة الأولى التي خطاها رائد الفضاء نيل آرمسترونغ فوق سطح القمر للمرة الأولى والأخيرة في تاريخ البشرية، لمناسبة الذكرى الثلاثين لتلك المأثرة الأميركية العظيمة، فوجئوا بصورة أخرى تأتيهم من مجاهل ذلك العقد نفسه: صورة طفل في الثالثة من عمره يرتدي ثوباً قصيراً ويقف قرب أمه واخته ليؤدي التحية للتابوت الذي يضم جثمان والده إلى مثواه الأخير. والاب كما نعرف كان جون كنيدي، الرئيس الأميركي الذي كان اغتياله في 22 تشرين الثاني نوفمبر 1963 ذروة الذرى في مآسي آل كنيدي. وبالنسبة إلى العالم كله ستظل فاجعة اغتيال جون كنيدي لغزاً عصياً على التفسير، على رغم آلاف الكتب والدراسات وعشرات الأفلام ومئات التفسيرات. أما بالنسبة إلى آل كنيدي، فإن ذلك الاغتيال جاء ليؤكد البعد "الفاوستي" لحياة عائلة يصر القدر على أن ينزل بها الضربات، في الوقت نفسه الذي تكون فيه وصلت إلى قمة النجاح. من هنا ذلك الذهول أمام الفاجعة الجديدة. فجون الصغير، صاحب الصورة التي بثتها شبكات التلفزة، ولم تتوقف عن بثها لتربط بين رحيله القاسي ورحيل ابيه الأشد قسوة، كان، كما أشرنا، شاباً ناجحاً، اختار عالم النشر ميداناً لنشاطه، وأصدر مجلة تدعى "جورج" جعلها منبراً لنوع من الفكر الليبرالي المتقدم. وكان على عكس أبناء عمومته مستقيماً إلى حد ما، لا فضائح في حياته ولا إدمان ولا علاقات غير مستحبة. كان يحضر قداس الأحد بانتظام ويبني حياة عائلية هادئة. وكان إلى ذلك، يداعبه حلم سياسي غامض، تتفنن الأفلام اليوم في الحديث عنه، وثمة فرضية تقول إنه كان يريد أن يرشح نفسه لحاكمية نيويورك، لولا دخول هيلاري كلينتون على الخط، فتنازل أمامها، في انتظار فرصة أخرى. والحقيقة أنه على رغم وجود اثنين من آل كنيدي، على الأقل، في مجلسي الشيوخ والنواب، كانت الأسرة تتطلع إلى جون جونيور، بوصفه المؤهل أكثر من غيره لتحقيق أمل الأسرة في العودة إلى السياسة من الباب العريض، باب الرئاسة مثلاً. ومن المعروف ان آل كنيدي يرون أن من حقهم أن يتطلعوا إلى الرئاسة: جوزيف جونيور، الطيار الذي قتل في العام 1944 كان مؤهلاً لها. وحين رحل صار الدور لأخيه جون. وجون وصل إلى الرئاسة بالفعل، وعرف كواحد من أكثر الرؤساء شعبية في تاريخ النصف الثاني من القرن العشرين. لكن اغتياله وضع حداً لمسيرته. في ذلك الحين كان اخوه روبرت وزيراً للعدل. وكان بدوره شعبياً ومحبوباً، خصوصاً عبر تصديه للمافيات، لكنه قتل بعد سنوات قليلة من مقتل جون على يد الفلسطيني - الأميركي سرحان بشارة سرحان، الذي أشار في "اعترافاته" إلى دوافع "قومية عربية" للجريمة، أثارت معه تعاطف العالم العربي حينذاك. ولكن مع الوقت، هدأ الحديث عن تلك الدوافع، لتتصاعد فرضية تربط اغتيال روبرت كنيدي بالمافيا، وربما بالتنافس الحاصل في ذلك الحين بينه وبين الرئيس ليندون جونسون على الترشيح لرئاسة الجمهورية. والواقع ان السيناتور روبرت كنيدي قتل في السادس من حزيران يونيو 1968، بعد فترة قصيرة من ترشيح الحزب الديموقراطي في كاليفورنيا له لخوض الانتخابات. لا رئيس بعد جون اغتيالان لأملين ولسياسيين كبيرين شقيقين في ظرف سنوات قليلة! كان هذا أقصى مما يمكن أن تتحمله أسرة ينظر إليها الأميركيون باعجاب وتقدير. وهكذا في الوقت الذي انتقل فيه الحلم السياسي لآل كنيدي إلى إدوارد، الشقيق الأصغر والذكر الوحيد الباقي من أبناء جوزيف باتريك كنيدي، بدأ الرأي العام يستعيد فصول المآسي الكثيرة التي أدمت تاريخ الأسرة المعاصر. وتذكر الرأي العام هذا كيف أن جوزيف لديه ابنة كبرى هي روزماري، اصيبت بإعاقة عقلية في العام 1941 وعاشت أسيرة منزل خاص في وسكونسين منذ ذلك الحين، وان الابنة الثانية لجوزيف الاب، كاتلين آغنس اغضبت العائلة حين بدلت دينها من الكاثوليكية إلى البروتستانية لكي تتزوج نبيلاً انكليزياً، قبل أن تقتل في حادث انفجار طائرة في فرنسا في العام 1948. فإذا اضيف إلى هذا موت طفل صغير انجبه جون كنيدي، الرئيس، من زوجته الفاتنة جاكلين، بعد ولادة الطفل بأيام، في العام نفسه الذي اغتيل فيه جون فيتزجيرالد كنيدي، يتضح عمق المأساة. غير أن الأسرة كانت ولا تزال أسرة شديدة الايمان، تعلمت كيف تنهض من جديد. من هنا بدا الأمل المعقود على إدوارد، معقولاً، وبدأ الرجل يقطع الخطوات اللازمة في اتجاه مسار سياسي كبير. ولكن، هنا من جديد، كان "الرهان الفاوستي" في الانتظار، ولكن بشكل مختلف هذه المرة، يذكر بالوجه الآخر للميدالية التي كان يمثلها جون كنيدي نفسه. إذ حدث في شهر تموز يوليو 1969، بعد عام من مقتل روبرت كنيدي، ان ادوارد كان ضحية حادث سير نجا منه هو شخصياً، لكن ما ارتبط به من وقائع أتى مدمراً لحياته السياسية: حصل الحادث في منطقة تشاباكو يديك، بالقرب من مارتا فينيارد، حيث منزل الأسرة، غير بعيد عن المكان الذي ستتحطم فيه طائرة جون جونيور بعد ذلك بثلاثين عاماً بالتمام والكمال. فقد سقطت السيارة في الماء وتمكن ادوارد من الخروج سليماً معافى، لكنه ترك داخل السيارة عشيقته ماري- جو مقتولة. كان وجود العشيقة في حد ذاته ضربة لا تحتمل لسمعة سيناتور ورجل سياسة محبوب، وابن عائلة اشتهرت بورعها. ولكن ذلك ذكّر بمغامرات وحكايات ارتبطت باسم جون كنيدي - الرئيس - وفضل الناس أن ينسوها، حكايات من علاماتها مارلين مونرو، ورفقة سوء من أمثال فرانك سيناترا وبيتر لادفورد وسامي دايفيس... الخ. وصولاً إلى الارتباط بالمافيا الهوليوودية. وهكذا أسدل الستار على مستقبل ادوارد كرئيس محتمل لأميركا، واكتفى الرجل بعضوية مجلس الشيوخ وأحد كبار النافذين في الحزب الديموقراطي وفي الحياة السياسية الأميركية بشكل عام. وبدا لوهلة وكأن "النحس" الذي واكب مسيرة أبناء جوزيف باتريك كنيدي قد انطوى. إذ ما الذي يريد القدر أن يفعل أكثر من ذلك؟ وبالفعل مر عقد ونصف العقد من السنين، والفواجع بعيدة عن العائلة، إلا في ما هو عادي وروتيني منها. صحيح ان الفضائح التي ارتبطت، عن حق أو عن باطل باسم جاكلين كنيدي، أرملة الرئيس الراحل، شغلت الناس والصحافة فترة، غير ان صوراً عارية لها، أو زواجها من ملياردير يوناني اوناسيس كانت أموراً عارضة سرعان ما نسيت، لا سيما حين ترملت جاكلين للمرة الثانية، وانزوت في دارتها في المنطقة نفسها التي سيقتل فيها ابنها. جاكلين رحلت في العام 1994 بعدما عانت مرضاً عضالاً أهلكها. واليوم يقول الأميركيون: "لقد كان من حظها أن تموت قبل أن تشهد الفاجعة التي قضت على ابنها". لكن جاكلين شهدت قبل رحيلها أحداثاً مؤلمة أخرى، على أية حال، حلت بالعائلة. وتحديداً بالجيل الثالث. جيل الأبناء وأبناء العمومة أي أحفاد جوزيف باتريك. ولا ريب ان جاكلين ما كانت لتشعر بالكثير من التعاسة، وهي تنظر إلى ما يحدث لأبناء وأحفاد عائلة أساءت معاملتها إثر زواجها من الملياردير اليوناني، ملطخة بذلك ذكرى الرئيس الراحل المحبوب. والحال أنه ما انقضى عقد ونصف العقد على اندلاع "فضيحة ادوارد كنيدي" حتى وجد دايفيد انطوني، ابن روبرت كنيدي، ميتاً بفعل ادمانه على المخدرات نيسان/ ابريل 1984، وبعد ذلك بسبعة أعوام ضجت صحف العالم بحكاية ويليام كنيدي سميث، ابن جين كنيدي، شقيقة جون فيتزجيرالد كنيدي الصغرى، الذي حوكم بتهمة الاغتصاب. وفي كانون الأول ديسمبر 1997، كانت الفاجعة في الانتظار، حيث ان مايكل كنيدي، ابن روبرت الثاني، قتل في حادث مؤلم، حين اصطدم بشجرة فيما كان يلعب كرة القدم الأميركية - في التزلج - في ولاية كاليفورنيا. في الأسبوع الماضي، كانت روري، ابنة روبرت كنيدي بالكاد خرجت من حزنها على أخيها مايكل، بعد حزن طويل على أخيها الأول دايفيد، وقررت أن تقيم لنفسها، لأنها مخطوبة وستتزوج، عرساً عائلياً، يجمع من تبقى من أفراد الأسرة نحو ثمانين شخصاً حول زواجها. وتحديداً في عزبة العائلة في مارتاس فينيارد. وكانت روري دعت إلى العرس نحو 275 صديقاً وصديقة، وبدت فخورة بعريسها الكاتب مارك بيلي. والمؤلم، ان جون كنيدي جونيور وزوجته وشقيقتها، قتلوا، وهم في طريقهم إلى حضور العرس. وهكذا صار العرس عرس دم وموت حقيقي. وحق للعائلة أن تتطلع من جديد إلى ذلك النحس الذي لا يتوقف عن الحلول بها