زوار العاصمة الفرنسية العرب صدموا الصيف الماضي حين توجهوا ليرتادوا مقهاهم المفضل في جادة الشانزيليزيه، فوجدوه مقفلاً تجرى فيه اصلاحات وتجديدات. وكانت الصدمة قاسية بالنسبة الى زبائن دائمين ندر أن عرفوا كيف يدبرون امورهم في باريس، من دون هذا المقهى. والحال ان هذا المكان الذي اظلمت زاوية الشانزيليزيه/ جورج الخامس، تماماً حين كان مقفلاً، ما هو سوى مقهى - مطعم "الفوكيتس" الشهير، الذي لئن كان يغص بالزبائن العرب والخليجيين أيام الصيف، فإن قاعاته الداخلية تغص في الشتاء وفي ليالي الصيف عموماً، بحياة فنية واجتماعية فرنسية، تبدو احياناً لا علاقة لها بالطاولات الخارجية. وربما يجهل الكثير من زبائن المصطبة الخارجية ان "الفوكيتس"من أعرق مراكز الحركة الفنية في فرنسا. في هذا السياق لا بأس من الاشارة الى ان قلقاً كبيراً كان استبد بزبائن "الفوكيتس" ومتابعي سيرته، حين اشترت شركة كويتية مبناه قبل سنوات، وأعلنت نيتها ازالة المطعم من الوجود. يومها تحرك مئات الفنانين والمثقفين داعين وزارة الثقافة الى اعلان ال"فوكيتس" معلماً تاريخياً ما يمنع المساس به. واستجابت الوزارة لذلك. وانصاعت الشركة الكويتية، دون ان يخلو الأمر من اصوات عنصرية استغلت الفرصة للتنديد ب"جهل" العرب و"غزوهم لفرنسا" و"عدم احترامهم لتراثها الثقافي". هذه الحكاية تبدو اليوم بعيدة. وكذلك زال قلق الزبائن الذين صدمهم اقفال "الفوكيتس" الصيف الماضي. اذ ها هو يفتتح من جديد، بادارة جديدة، وقد تحول معلماً حقيقياً ورسمياً من معالم حياة فنية يدور جزء أساسي منها فيه... في الوقت الذي يحتفل "الفوكيتس" بذكراه المئوية. الاسم ذو النكهة الانكليزية مقهى "الفوكيتس" صار عمره، اذن، مئة عام. وهو ليس مقهى عادياً. وهذا القول يمكن ان ينطبق على مئات المقاهي في باريس، بالطبع. ومع هذا نراه ينطبق اكثر على"الفوكيتس" الذي يعتبر، عادة، مؤسسة قائمة في ذاتها. ولئن كان مقهى "الفلور" وجاره "الدوماغو" في الحي اللاتيني الباريسي، يعتبران ذاكرة الأدب الفرنسي والعالمي، لأزمان خلت، فإن "الفوكيتس" هو ذاكرة السينما الفرنسية، بل انه "مطعم النجوم". فهو وحده يكاد يجسد فخامة وأبهة المطبخ الفرنسي. واليوم، بعد مئة عام بالتمام والكمال على تأسيسه على يد لوي فوكيه، في العام 1899، ها هو "الفوكيتس" الذي حمل اسم مؤسسه مدموغاً بنكهة انغلوساكسونية تمثلها هذه "التاء والسين" في نهايةالاسم وهما حرفان يميل بعض الفرنسيين الى تناسيهما حين يلفظون اسم المقهى لسبب وجيه يتعلق بنقاء اللفظ الفرنسي، ها هو يكشف عن ان صحته لا تزال ممتازة، خصوصاً بعدما صار له مالك جديد وناله من التصليح قدر كبير في الشهور الاخيرة. فقد آلت ملكية المطعم والمقهى الشهير الى مجموعة لوسيان باريير، وبات في وسع محبي المطعم - المقهى ان يطمئنوا الى مصيره بعد القلق الطويل والمعركة الأطول، والاقفال المؤقت. كما بات في وسعهم ان يستعيدوا شيئاً من تاريخه، الذي يشكل جزءاً اساسياً من تاريخ الحركة الفنية في العاصمة الفرنسية. استراحة الحوذي بدأت حكاية "الفوكيتس" في العام 1899، اذن، حين اشترى لوي فوكيه مكاناً كان يشكل استراحة لحوذيي العربات، عند زاوية جادتي الشانزيليزيه وجورج الخامس. وهو اذ حول المكان الى مطعم، استسلم من فوره امام هجمة الطراز الانغلوساكسوني الراقي الذي كان رائجاً في باريس تلك الأيام، مقلداً في ذلك ماكسيم غايار صاحب مطعم "ماكسيمز" الاسطوري قرب ساحة الكونكورد، وهكذا اذ اعطى المطعم اسمه فوكيه، أضاف اليه حرف السين ما جعل الاسم "فوكيتس"، الى ابد الآبدين. في البداية اكتفى فوكيه بأن يجعل المكان حانة لبيع المشروبات، لكنه بالتدريج راح يحوله الى مطعم أنيق وذي سمعة. وهكذا، في باريس بداية القرن العشرين، اصبح ال"فوكيتس" المكان الذي لا بد من ارتياده. ففيه يتجاور اصحاب اشهر الأسماء في عالم السياسة والاقتصاد والأدب، ولكن ايضاً وخاصة، عالم السينما والأزياء. وهكذا يروى اليوم بكل فخر كيف ان الرئيس الأميركي تيودور روزفلت دعا اليه نظيره الفرنسي آرستيد بريان، وكيف ان ونستون تشرشل كان يقصده ليدخن فيه سيجاره الشهير. اما جيمس جويس فكان يأتيه بحثاً عن الهامه، فيما كان الممثل الشهير ريمو يتصرف فيه وكأنه بيته الثاني. وفي اليوم الذي حررت فيه باريس من النازيين، فإن ال"فوكيتس" الذي كان اقفل أبوابه قبل ذلك، لم يفتحها الا من اجل استقبال الجنرال لكليرك، محرر العاصمة، وضباطه. وفي وقت لاحق صار ثمة في المطعم طاولة محجوزة على الدوام باسم اورسون ويلز، سبقت الطاولات التي حجزت بعد ذلك لسينمائيي الموجة الجديدة الذين كان جان - لوك غودار وفرانسوا تروفو يقودانهم الى ذلك المكان الصاخب الحي. والحال ان مصير ال"فوكيتس" ارتبط اساساً بمصير الفن السابع في فرنسا. فالممثلون المحليون والعالميون كانوا ولا يزالون يتواعدون على اللقاء فيه. وفيه توقع العقود، وتدور الاحتفالات بنجاح فيلم او الفوز بجائزة. وفي العام 1980، حدث عند نهاية سهرة توزيع جوائز "السيزار" اوسكارات السينما الفرنسية ان دعي المشاركون في السهرة الى العشاء في ال"فوكيتس". ومنذ تلك اللحظة صارت تلك الدعوة تقليداً سنوياً لا يجرؤ أحد على التخلف عنها. اليوم، في العام 1999، من الواضح ان ال"فوكيتس" ذا المئة عام، ينهض بوجه جديد ومختلف. فهذا المطعم - المقهى الذي اشترته مجموعة لوسيان باريير، في تشرين الأول اكتوبر العام 1998، عاد ليفتح ابوابه بعد تجديدات استغرقت شهرين. وهو اذ عاد الى النشاط، عاد باره الاميركي، ومصطبته الشهيرة، وحانته ومطعمه الذي يقدم اغلى انواع الاطعمة وأكثرها خصوصية، عاد هذا كله ليجعل منه مكاناً استثنائياً في اشهر جادة في العالم. اليوم تحت إدارة مديرته جويس كون - غوتييه، هناك 180 شخصاً ينظمون الحياة في هذا المكان على مدار الساعة. اذ لا يجب ان ننسى هنا ان ال"فوكيتس"، هو في المقام الأول، طباخوه وصانعو حلواه، ورؤساء الخدم والندل والمتدربون ومقدمو المشروبات واختصاصيو أقبيتها، اضافة الى المضيفات، وحارسة المراحيض... ان هؤلاء جميعاً يعملون ضمن اطار اصفى تقاليد صناعة المطاعم الفرنسية. ويقول الناطقون باسمهم عادة ان امرين يحركانهم: حب المهنة، واحترام الزبائن. وهذا كله ضمن روحية تراتبية لا يمكن لمطعم مثل هذا ان يشتغل بشكل جيد من دونها. منذ اللحظة التي يصل فيها الزبون ويجلس الى طاولة، يصبح المتفرج المتميز على مسرحية لم يكن يتصور حرارة الحياة في خلفيات مسرحها. فتماماً كما هو الحال في المسرح، لا يمكن للمتفرج ان يتوقع أبداً حياة النمل الصاخبة الحيوية التي يعيشها الممثلون - وهم هنا الطباخون والخدم وبقية العاملين - والتي تبدأ مع ساعات الصباح الأولى. من كل هذا الصخب لا يصل الى سمع الزبون وبصره شيء منه. وهو لن يدرك شيئاً عن المسار الذي يتخذه خدم وسقاة يتنقلون بالصواني رائحين آتين وكأنهم يمثلون فصول المسرحية. ولكن على عكس المسرح، ليس ثمة هنا وقت لاستراحة بين الفصول، اذ منذ اللحظة التي يفتح فيها الستار، تحت سلطة رئيس المطبخ ومدير المطعم في الصالة، يسود ايقاع لا يجب ان يضعف ولو للحظة، ويعرف كل واحد مكانه المحدد. هنا كل الأمور يجب ان تترابط وتتفاعل دون خلل او نزق. رحلة الزبون تبدأ رحلة الزبون مع المطعم، بالطبع، حين يركض جان - مارك، المسؤول عن ايقاف السيارات، لكي يتسلم من الزبون سيارته بعد ان يتركها هذا امام مدخل المطعم. وعند تلك اللحظة يبدأ تدخل برنار دي بريساك، "موسوعة" المطعم الحية.. فهو يعرف الزبائن فرداً فرداً، الى درجة انه يقال عنه ان ما من سر من اسرار الحياة الباريسية يمكن ان يفلت منه. وهو، خصوصاً، يعرف وبكل لباقة كيف يعثر على الطاولة المناسبة للزبون، ولكن كذلك يعرف كيف يستجيب لنزوات الزبائن الشهيرين وطلباتهم التي قد تكون صعبة احياناً. وعن هذا يقول لك برنار بكل فخر ان هناك مئتي زبون على الأقل يتمتعون بحلقات مناشف فضية خاصة بهم حفرت عليها اسماؤهم. كما يقول لك هامساً ان المصطبة المحاذية لرصيف جادة جورج الخامس، هي تلك المخصصة وبكل هدوء وصمت لعدد قليل من زبائن يشكلون ما يمكن تسميته ب"نادي خاصة الفوكيتس". بعد ذلك، ما ان يستقر الزبون في مكانه، حتى يأتي رؤساء الخدم ليقفوا على طلبه. ويعقد رؤساء الخدم اول النهار اجتماع عمل مع مدير المطعم وبقية الخدم، من اجل معرفة وحفظ ما في جعبة المطبخ من وجبات شهية لهذا اليوم. ومن بين هؤلاء "الرؤساء"، هناك جان - ايف، الذي يلقب ب"رئيس خدمة النجوم" اذ انه يعرف هؤلاء ويعايشهم منذ 23 سنة. وهو يحتفظ من لقاءاته معهم بمجموعة صور فوتوغرافية يحافظ عليها بفخر وكأنها كنز ثمين. المطابخ، من ناحيتها، هي عالم "الشيف" جان - فرانسوا ليميرسييه. وهو الذي يتولى مهمة تحضير لائحة الطعام، اضافة الى ادارة المطابخ التي يعمل فيها خمسون شخصاً: بين طهاة وصانعي حلوى ومساعدين ورؤساء اقسام. اما "رئيس القبو" او الكهف، فإنه يسود على اكثر من 400 الف زجاجة. وتكمن احدى مهماته الأساسية في توجيه الزبائن للاختيار بين مئات الاصناف الفاخرة. وتساعده في هذا اوديل الشابة، التي تعتبر واحدة من سيدات قليلات يعملن في هذا المطعم، وبالطبع الى جانب سوزان، التي تعمل منذ 23 سنة حارسة للمراحيض، وتقول اليوم انها تفضل ان يطلق عليها اسم "سيدة الطابق السفلي" وهي التسمية الأكثر اناقة التي ابتكرها يوماً التلفزيوني باتريك بوافر دارفور... في الخارج، تبرز مصطبة ال"فوكيتس" بوصفها مكان اللقاءات والمواعيد، الأكثر شهرة واجتماعية في طول العاصمة الفرنسية وعرضها. وليس من النادر للمرء ان يلتقي هناك بالعديد من الشخصيات مثل لوران جيرا ولين رينو وشارلوت رامبلنغ وفرانسيس هوستر، وربما ايضاً شارل ازنافور. فمنذ السابعة حتى الثانية صباحاً لا يتوقف سقاة المرطبات عن السهر على الخمسين طاولة الموزعة على صفين على رصيف المطعم، من ناحية جادة الشانزيليزيه. حين يهبط الليل، يتزايد عدد الزبائن، لا سيما في الداخل، وفي البار الاميركي، حيث لا تزال ترتفع منذ تأسيس هذا المطعم، تلك اليافطة الشهيرة التي كتب عليها: "تنبيه، اننا هنا لا نخدم السيدات اللواتي يأتين بمفردهن". في هذا السياق حاولت تظاهرة لنصيرات حقوق المرأة خلال الثمانينات، الدخول ونزع اللافتة، لكن من دون وجدوى. اذ ها هي ماثلة دائماً. ولكن هل حقاً لا تخدم النساء الوحيدات هنا، ام ان اللافتة مجرد ذكرى؟ بعد مئة عام على تأسيس "الفوكيتس" لا يزال المكان الباريسي الشهير الذي يربط جادة "جورج الخامس" ب"الشانزيليزيه"، يبرق دائماً بالأضواء والشباب. وإذا اضفنا الى مجده هذا انه سجل يوم 19 تشرين الأول اكتوبر 1988 بوصفه معلماً تاريخياً لا يجوز المسّ به، نجدنا في نهاية الامر أمام مؤسسة اساسية من مؤسسات الحياة الباريسية والطعام الفرنسي تستعد بكل نضارة لاجتياز عتبة العام 2000، واثقة من ان ثمة مستقبلاً زاهراً أمامها.