في الوقت الذي لا يزال الفرنسيون يواجهون فيه "الامركة" وتبعاتها التي تجتاح بلادهم وعلى رأسها سلسلة مطاعم "ماكدونالدز" للوجبات السريعة، يتصاعد حب الاميركيين لفرنسا وكأنهم غير معنيين بالحرب الثقافية التي تديرها بلاد الغال ضد العم سام. وسجل الاميركيون حضوراً لافتاً في فرنسا هذا الصيف، ، وغصت جادة الشانزيليزيه قبل اسبوعين بمئات الاميركيين المحتفلين بفوز مواطنهم لانس ارمسترونغ بسباق "تور دو فرانس" للدراجات الهوائية، فيما امتدت صفوفهم عشرات الامتار خلف بوابات متحف "اللوفر" وبرج "ايفل". وفي اكبر اجتياح من نوعه لباريس، اصبح مألوفاً رؤية ازواج اميركيين حضروا لعقد قرانهم في "مدينة الحب". ولم يعد غريباً سماع صراخ اميركي بلكنته المتعالية طالباً من رواد مقهى محلي الامتناع عن التدخين وهو الامر الذي لا يساوم عليه فرنسيو المقاهي. اما في نهر السين فكثيراً ما تجد المراكب المحملة بالاميركيين شبه متوقفة في مجراه المزدحم. وعلى شاطئ "الكوت دازور" يصعب العثور على غرفة في فندق ولو لليلة واحدة اذ لم تشهد المنطقة الساحلية الشهيرة هذا العدد من الاميركيين منذ اصبحت موطئاً لنجمة السينما الاميركية الراحلة غريس كيلي. ويعزو السكان المحليون الدفق الاميركي المستجد الى الرواج الذي حققه فيلم ستيفن سبيلبرغ "انقاذ المجند ريان" الذي ادى دور البطولة فيه توم هانكس ونال ترشيحاً عنه الى الاوسكار. وتدور احداث الفيلم خلال الانزال الاميركي على سواحل النورماندي في الحرب العالمية الثانية، حين يكلف هانكس البحث عن مجند اميركي يدعى ريان قتل اخواه في المعارك الدائرة في اوروبا. وصور الفيلم على الساحل الفرنسي وفي بعض القرى الصغيرة، ما كشف للجمهور السينمائي عن اماكن سياحية مدهشة. ولتراجع سعر صرف الفرنك الفرنسي دور رئيسي ايضاً في الهجمة السياحية الاميركية. ومن المتوقع ان يرتفع عدد السياح الاميركيين الذين سيزورون باريس حتى نهاية الصيف الحالي، الى اكثر من مليونين ومئتي الف سائح، بالمقارنة مع مليون وثمانمئة الف سائح سجلوا العام الماضي. وبهذا الرقم ازاح الاميركيون البريطانيين عن مقدم لائحة زوار فرنسا، والذين يقدر عددهم هذا العام بحوالي 70 مليون زائر. وبحسب تقديرات مؤسسة "حال اطلس العالم" المختصة بشؤون السفر والسياحة، فان فرنسا ستستقطب بحلول العام 2020 حوالي 93 مليون سائح سنوياً لتحتل المرتبة الثالثة عالمياً بعد الصين التي سيزورها في العام نفسه 137 مليون سائح والولايات المتحدة 102 مليون سائح وقبل اسبانيا 71 مليون سائح وهونغ كونغ 59 مليون سائح. وللحفاظ على هذا الموقع في خارطة السياحة العالمية والتي تشكل نسبة مهمة من الدخل الوطني تتجاوز العشرين في المئة، بدأت فرنسا حملة ترويجية تبرز المعالم الثقافية والسياحية، وتلفت الى ان الفرنسيين تخلوا عن نزعة الاستعلاء والعجرفة "الغالية" في التعامل مع الغرباء، على رغم تصاعد اصوات اليمين المتطرف الممزوجة بعنصرية طاغية، وبعض القوانين التي اتخذتها الحكومات السابقة في عهد فرنسوا ميتران وبداية عهد جاك شيراك، كقانون وزير الداخلية الاسبق جاك دوبريه ضد اللاجئين والمهاجرين، ومحاولة الحكومة الحد من استخدام اللغة الانكليزية، وحظر استخدامها في لافتات المطاعم والمراكز التجارية والملاهي وغيرها من الامكنة. وبدأ موظفو الفنادق والمطاعم والمتاجر وسائقو الاجرة المشهورون بعصبيتهم بتعلم ما كان يشكل العدو الثقافي رقم واحد... اللغة الانكليزية، ولا تقتصر الدروس على اللغة وحدها فقط بل على حمل مستخدميها على التكلم بها مع ابتسامة عريضة. ولم يعد اي من النُدُلِ في مقهى "ليناز ساندويش" الشهير بجانب دار الاوبرا يرفع حاجبيه اذ ما سأله اميركي عن "هامبرغر" من دون مايونيز ومع "كاتشاب زيادة". بل اكثر من ذلك اصبح عمال المقهى يقدمون فوراً اكواباً كبيرة من القهوة الخفيفة للزبائن الاميركيين بدلاً من الاكسبرسو المكثفة، حتى من دون ان يطلبوها. ويقول جيم غريتشين 33 عاماً خلال انتظاره الدخول الى متحف اللوفر لرؤية لوحة مايكل انجلو الشهيرة "الموناليزا" ان "الفرنسيين مهذبون ولطفاء" وهو يستغرب كيف اكتسبوا السمعة السيئة التي تتناقلها التقارير الصحافية. وجاء في عنوان رئيسي في صحيفة "لو باريسيان": "الاميركيون يجدون فرنسا دافئة، حيوية ومضيافة". وهذا التحول الملحوظ في سلوك الفرنسيين جاء نتيجة حملة حكومية تستهدف حمل قطاع السياحة الفرنسي على التأقلم مع العادات الاميركية والبريطانية. وجاء في كتيب سياحي رسمي وزع على المكاتب السياحية ووكلاء السفر ان الاميركيين كثيراً ما يرفعون صوتهم خلال المخاطبة وانهم يوجهون انتقادات مباشرة من دون مقدمات كقولهم مثلاً: لا تأكل كثيراً... خفف من تناول الكحول مع الطعام. وانهم يعتبرون الفرنسيين حذرين ومفرطين بحساسيتهم. ويضم الكتيب بعض الكلمات الانكليزية مكتوبة بحسب التهجئة الفرنسية، مثل: صباح الخير ومساء الخير وشكراً. وتعلل الحكومة تركيز حملتها الترويجية لاستهداف السياح الاميركيين وانهم ينفقون اكثر بكثير من نظرائهم الاوروبيين او اليابانيين. ومن اجل استقطاب شرائح الاميركيين كافة، خصصت الحكومة الفرنسية في كتيّبها فصلاً للواطيين ومثليي الجنس، الذين يعتبرون باريس ضالتهم المنشودة. ويقول الكتيب ان من بين المحطات السياحية التي يقصدها اللواطيون "برج ايفل الايقوني المنتصب بمجده الحديدي". ويعود حب الاميركيين لفرنسا الى حرب الاستقلال الاميركية ضد بريطانيا والتي دعم فيها الفرنسيون المهاجرين في الارض الجديدة ضد غريمتهم التقليدية المملكة البريطانية. وامتد هذا الحب الى رواية غير شوين "اميركي في باريس"، ووصل الى حده الاقصى مع احتفالات ليلة الالفية حول برج ايفل المشع والتي جذبت لوحدها آلاف الزوار الاميركيين.