يشعر خليجيون كثيرون بأن مجلس التعاون الخليجي لم يحقق لهم طموحاتهم المتمثلة في توحيد التعرفة الجمركية واقامة سوق خليجية مشتركة وتفعيل القوة العسكرية المشتركة المسماة "درع الجزيرة" لتصبح أكثر قدرة على حماية أمن المنطقة وبناء استراتيجية موحدة وفعالة لمواجهة ظاهرة العنف والارهاب في دول المجلس وانهاء ما تبقى من خلافات حدودية. وأمام هذه الطموحات التي لم تتحقق على النحو المأمول تناقضت الآراء والمواقف حول انجازات المجلس واخفاقاته بين من يرى أنه لم يحقق بعد طموحات المواطن الخليجي ومن يقول بأنه لم يكن في حجم التحديات السياسية والاقتصادية والأمنية المتفجرة في المنطقة والعواصف المقبلة. وفي المقابل يرى آخرون أن مجلس التعاون الخليجي الذي مضى على تأسيسه خمسة عشر عاماً يمثل حتى الآن أفضل المؤسسات الاقليمية العربية والاسلامية في الساحة السياسية وأكثرها نجاحاً على رغم الصعوبات التي تعترض مسيرته لجهة تعامله مع ست دول لكل منها أنظمتها الداخلية وعلاقاتها الخارجية المتشابكة وحساباتها السياسية الخاصة اضافة الى موقع دولها التي تتوسط منطقة شديدة الحساسية من الناحية الجيوبوليتيكية والاقتصادية حيث تقع ضمن محيط سياسي ساخن سواء من جراء الوجود الاسرائيلي في مكان غير بعيد منها جغرافياً مما أدخلها كعنصر فاعل في دائرة الصراع العربي - الاسرائيلي، أو الوجود الايراني وما يتبعه من سياسات متقلبة تجاه دول المنطقة فضلاً عما يتبناه من نظام ايديولوجي مغاير. واضافة الى هذه المؤثرات السياسية يأتي الجانب الاقتصادي حيث "تنام دول المنطقة على ثروة نفطية هائلة ارتبطت بها اقتصاديات الدول الصناعية الكبرى" مما جعل منها منطقة شد وجذب سياسيين كان لا بد أن تؤثر على أداء مجلس التعاون كتحالف اقليمي عربي مطلوب منه أن يحقق طموحات الشارع الخليجي ويتعامل في ذات الوقت مع التناقضات السياسية التي تعصف بالمنطقة العربية. وفوق هذا وذلك ينبغي لها مراعاة الأنظمة السياسية والاقتصادية والأمنية في كل دولة من الدول الست الأعضاء لأن النظام الأساسي للمجلس لا يلغي السيادة الوطنية للدول الأعضاء فيها، وعلى رغم كل هذه العوامل لا يزال المجلس يواصل سيره ويحقق ما أمكن تحقيقه من انجازات لا يمكن الاستهانة بها سواء في المجالات السياسية أو الأمنية أو الاقتصادية. "الوسط" حاورت الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي جميل ابراهيم الحجيلان الديبلوماسي السعودي المحنك الذي أمضى أكثر من 33 عاماً في العمل الديبلوماسي وله علاقات عربية ودولية نادرة ويتمتع بثقة الكثير من أصحاب القرار في عواصم عالمية مهمة. وهنا نص الحديث مع الحجيلان الذي يتناول جوانب من شؤون دول مجلس التعاون وشجونها: بعد مضي أكثر من 15 عاماً على انشاء مجلس التعاون الخليجي، هل تعتقدون بأن ما حققه المجلس حتى الآن يرضي طموحات أبناء المنطقة؟ وما هو تقويمكم لانجازات المجلس واخفاقاته؟ - مجلس التعاون من أفضل الكيانات السياسية التجمعية التي عرفها العالم العربي، وقد سبقت وأعقبت قيامه محاولات عربية عدة، من وحدة واتحاد وتعاون اقتصادي وتنظيمات أخرى لم يكتب لها النجاح لافتقارها لعناصر التوافق والانسجام، والاندماج ووحدة المصير الأمني والاقتصادي التي توافرت لمجلس التعاون. فالانسان والأرض وترابط المصالح هي الركائز التي قام عليها مجلس التعاون، والانسان الخليجي لا يشترك بالدين واللغة والتاريخ فحسب بل ان له خصوصياته المميزة من القيم والموروث والتركيبة الاجتماعية واللهجة والأغنية، والمأكل والملبس والسحنة والمزاج الهادئ فضلاً عن وشائج القربى التي تربط شعوب بلدان المجلس لتجعل منها أسراً متعارفة متواصلة، كما أن طبيعة الأرض وانعدام الحواجز العائقة فيها سهلت عبر التاريخ التواصل بين سكانها الأمر الذي زاد من توثيق الروابط وتحقيق الانسجام بينهم، وفوق كل هذا وذاك هناك ارتباط اقتصادي وأمني وثيق نادر الشبه في العالم العربي. وقد أنجز مجلس التعاون الخليجي الكثير من أسباب التعاون الاقتصادي والاجتماعي والأمني أو العسكري بين دوله وأمكن للمواطن الخليجي أن ينتقل ويتاجر ويعمل، ويقيم، وتمنح له القروض ويقيم المؤسسات الصناعية ويسهم في المؤسسات المالية في أي بلد من بلدان المجلس على نحو لا مثيل له في العالم العربي. وأمكن للصناعات الخليجية ذات المنشأ الوطني أن تجد لها أسواقاً في دول مجلس التعاون بلا حدود ولا رسوم جمركية، وهناك العديد من المنجزات غير المنظورة في مختلف أوجه الحياة أمكن للمجلس أن يحققها خلال الخمسة عشر عاماً الماضية، ولا يكاد يمر اسبوع من دون أن يعقد اجتماع للخبراء والاخصائيين أو الوزراء لتحقيق المزيد من التكامل والاندماج بين دول المجلس. وليس للمجلس اخفاقات، لكن هناك محاولات جادة لتحقيق أمور مهمة كتوحيد التعرفة الجمركية واقامة سوق خليجية مشتركة، والعمل الجاد يسير نحو تحقيق هذا الهدف، ومن الأمور التي تستوجب النظر اليها بالكثير من الحرص والاهتمام التركيبة السكانية في بعض دول المجلس الناتجة عن الطغيان العددي للعمالة الاجنبية وما قد يترتب على ذلك من آثار سلبية على المدى البعيد، وقد أدرك قادة دول المجلس أهمية هذا الأمر، وجرى بحثه في القمة الخامسة عشرة التي عقدت في دولة البحرين في كانون الأول ديسمبر 1994 وعهد الى لجنة مكونة من وزراء المالية والعمل في دول المجلس درس هذا الموضوع المهم وتقديم التوصيات اللازمة في شأنه. تعيش دول مجلس التعاون في منطقة شديدة الحساسية من الناحية الجيوبوليتيكية والاقتصادية، فما هو تأثير ذلك على المجلس كمنظومة تكاملية؟ - تنام دول مجلس التعاون على ثروة نفطية هائلة ارتبط بها اقتصاد العالم الغربي ومصالحة واهتماماته، وحرب الخليج الثانية شاهد على ذلك، ونحن لا نريد بطبيعة الحال أن تكون ثرواتنا النفطية موضع صراعات دولية فهي مصدر دخلنا الرئيسي، ونسعى لأن نجعل منها وسيلة للتنمية والاعمار لشعوبنا لكن تصرفات بعض دول المنطقة مثيرة للقلق مما قد يحرمنا من صفاء الذهن، ويدفع بنا لاستثمار أموال ضخمة في عمليات تسليح عسكرية كان يجب أن نكون في غنى عنها لو أن تلك الدول تفكر على نحو ما نفكر فيه. على أن حساسية المنطقة وما يقترن بذلك من أمور تدفع بدول مجلس التعاون الى المزيد من التعاضد والتنسيق في مواقفها كما حدث أخيراً عندما تعرضت دولة البحرين لتدخلات أجنبية تهدد أمنها واستقرارها، وموقف دول مجلس التعاون من هذه الأحداث كان واضحاً ومعروفاً للجميع. وكيف تنظرون الى أحداث العنف التي وقعت في البحرين وحادثة التفجير التي شهدتها مؤخراً مدينة الخبر؟ هل يعني ذلك ان دول الخليج أصبحت أحد أهداف ظاهرة العنف السياسي التي اجتاحت العديد من الدول العربية؟ - ننظر اليها بقلق على أنها ظاهرة خطيرة غريبة اقتحمت مجتمعاتنا الآمنة الهادئة لتقويض استقرارها واشاعة انعدام الثقة والفوضى فيها، وإذا كانت اعمال العنف في البحرين صادرة عن عناصر داخلية وخارجية أمكن تحديد هويتها فإن عملية تفجير الخبر أشد خطورة، ولا بد من التصدي لهذا العمل الاجرامي البشع ليس فقط بالوسائل الأمنية الرادعة بل بتعبئة الشعور الوطني العام أيضاً في مواجهة هذا التخريب الآثم الذي يستهدف الوطن برمته، وأمنه، ويقينه، واستقراره، وإذا كان الارهاب أبشع وسيلة للتعبير عن موقف غاضب أو معارض فإنه على بشاعته وغلو روح الاجرام فيه يستوجب البحث عن دواعيه والوصول الى جذوره وأن لا يكتفي بمعالجة أعراضه من دون الوصول الى علته، وقطع شرايين الحياة فيه؟ لا زالت هناك قضايا حدودية عالقة بين بعض الدول الأعضاء في مجلس التعاون كيف تستشرفون مستقبل المجلس في ظل استمرارية هذه القضايا التي لم تحسم حتى الآن؟ - كانت هناك قضايا حدودية عدة بين دول مجلس التعاون أمكن حلها بروح من الود والتفاهم والتعاون ولم يبق منها الا الخلاف الحدودي بين دولتي قطروالبحرين، وهذا الأمر هو موضع اهتمام قادة دول مجلس التعاون. يلاحظ وجود تباين في مواقف بعض دول مجلس التعاون من الحظر الدولي المفروض على العراق، كيف تفسرون ذلك التباين؟ - لا اعتقد بأن هناك تبايناً في مواقفهم فالكل مجمعون على وجوب التزام العراق تنفيذ جميع القرارات الدولية المرتبطة بالحظر المفروض عليه، وهذا الالتزام جرى التأكيد عليه في كافة البيانات والقرارات الصادرة عن مجلس التعاون، إلا أن هناك مبادرات انسانية محدودة الأثر تأتي من بعض دول المجلس لا تشكل إخلالاً بالتزامها تلك المقررات. ألا تعتقدون بأن هذا الحظر الذي تضرر منه الشعب العراقي قد يترك في نفوس العراقيين نوعاً من العداء والكراهية تجاه اخوانهم وجيرانهم الخليجيين لجهة الاعتقاد بأن بعض دول الخليج تقف وراء استمرار هذا الحظر للضغط على نظام صدام حسين؟ - لقد علمتنا أحداث التاريخ ان الشعوب غالباً ما تدفع ثمن الأخطاء الجسيمة التي يرتكبها قادتهم وهي، أي الشعوب، منها براء. وهذه الظاهرة هي واحدة من حقائق الحياة السياسية التي عاشها العديد من الدول العربية خلال الخمسين عاما الماضية، ومرد ذلك في اعتقادي التفرد في الحكم والقرار وغياب المشاركة المخلصة لدى القادرين من أبناء الوطن في المشهورة والنصح وإبداء الرأي في الأمور. ومن الظلم القول بأن بعض دول الخليج يقف وراء استمرار فرض العقوبات على العراق لأن هذه العقوبات صدرت بموجب قرارات دولية شاركت فيها دول متعاطفة مع العراق مثل الصين وفرنسا وروسيا وأيدها العالم أجمع على أثر غزو العراق للكويت وبالتالي فإن رفع العقوبات ليس مرهوناً بارادة خليجية بل انه مرتبط بتنفيذ قرارات دولية يوحي تنفيذها بالثقة والاطمئنان الى تغيير جذري جاد في سياسة العراق. والدول الخليجية كانت أول من رحب بقرار النفط مقابل الغذاء لأن ذلك يمس حياة اخوانهم في العراق وتتمنى زوال الأسباب الموجبة لاستمرار العقوبات وانهاء معاناة شعب عربي شقيق وأهم هذه الأسباب التزام العراق الجاد والصادق الباعث على الاطمئنان والثقة بتنفيذه لكافة المقررات الناجمة عن غزوه للكويت. ويجب ألا ننسى ان الدول الخليجية التي تتحدث عنها ألقت بكل ثقلها السياسي وغير السياسي، وتعرضت لضغوط ايرانية سياسية وأمنية بسبب مؤازرتها ومساندتها الكاملة للعراق حين اختلت الموازين العسكرية لمصلحة ايران وتهدد أمن العراق وكيانه بالانتصارات المتلاحقة التي حققتها ايران في جنوبالعراق، ولا يمكن لبلد كالمملكة العربية السعودية والكويت اللذين ساندا العراق على هذا النحو المصيري أن يسعى لايذائه بالجوع والحصار. في حال رفع العقوبات الاقتصادية بالكامل عن العراق وما يتبع ذلك من عودته الى أسواق النفط، وهي عودة اقتصادية قد تتبعها عودة سياسية، ما هو تأثير ذلك على العلاقات مع دول مجلس التعاون الخليجي من الناحية السياسية والاقتصادية؟ - لا اعتقد بأن عودة العراق الى أسواق النفط تشكل كارثة اقتصادية لسوق النفط العالمي، فالسوق النفطية مرنة تتعامل مع المتغيرات، والعراق باستثناء الأعوام القليلة الماضية كان دائماً يتواجد في السوق النفطية. أما ما يتعلق بالأثر السياسي الناجم عن رفع العقوبات وتأثير ذلك على دول مجلس التعاون بالنسبة الى علاقته مع العراق فهذه أمور مرهونة بظروفها. كيف السبيل في رأيكم الى انهاء حالة العداء المستفحل في العمق السياسي العربي منذ الغزو العراقي للكويت وحتى الآن؟ - لم تكن أبداً من سياسة دول مجلس التعاون أن تتدخل في شؤون الآخرين، وكانت دول المجلس ولا تزال تتعامل مع الأنظمة السياسية للدول العربية على انها شأن داخلي وما يعنيها بالدرجة الأولى هي سياسة تلك الدولة أو ذلك النظام إزاء دول مجلس التعاون، فسياسة النظام ازاءها هي في نظرها قبل النظام نفسه، ولم يكن العراق استثناء من هذا المبدأ السياسي، وهذا المبدأ يمثل القاعدة التي التزمت بها دول مجلس التعاون، التي تعاونت مع العراق منذ أن استقر الحكم فعلاً وعملاً للرئيس صدام حسين في صيف عام 1969 وأخذ هذا التعاون أشكالاً عدة، لا سيما عندما وقفت دول مجلس التعاون الى جانب العراق دفاعاً عن كيانه وهو يتعرض لهزيمة عسكرية خطيرة في حربه مع ايران، وجاء العدوان العراقي على الكويت واجتياحه له على رغم كل الوعود بانتفاء نية العدوان ليصيب العالم العربي بزلزال سياسي هز أركانه. وما يزال العالم العربي يعاني من آثار تلك الهزة السياسية المروعة انعداماً في الثقة وتحسباً للمحاذير وقلقاً وارتياباً يكاد يوصد كل أبواب التفاهم والحوار، وتقع المسؤولية في ذلك على من تسبب بهذه الآثار وعليها أن تسعى بالفعل وليس بالكلام، والاقرار بالخطأ الجسيم وليس بالمكابرة لازالة هذه الآثار في وقت أحوج ما يكون فيه العرب للوقوف صفاً واحداً. وقد جاء انعقاد قمة القاهرة أخيراً وشاركت فيه دول مجلس التعاون إيذاناً بعهد يرجو المخلصون أن يكون عهداً جديداً من النيات الصادقة والعمل المخلص، فقد تعبت الشعوب العربية من سياسة الالتواء والعمل في الخفاء.