تسوّق الإدارة الاميركية مع الدول المجاورة للعراق فكرة "العقوبات الذكية" على أساس منافعها للبنية التحتية المدنية في العراق عبر تحرير التجارة المدنية من الحظر واستبدال فوائد التهريب بفوائد الانضمام الى الجهود الدولية في مراقبة الحدود، مالياً وسياسياً. وتهدف الديبلوماسية الاميركية الى استعادة اجماع مجلس الأمن عبر اعادة تعريف معنى العقوبات وأهدافها لتتخلص من سمعة اللامبالاة فيما بغداد تفك الحصار عن نفسها وفيما العقوبات في انهيار. فواشنطن تتأهب لطرح سياسة نحو العراق، وهي تستقطب هنا وتشاور هناك. ولندن تبعت خطى واشنطن وبدأت بدورها "مراجعة" لن تنتهي منها قبل حليفها الأكبر. باريس، كعادتها، تتأرجح بين ديبلوماسية الاسترخاء وديبلوماسية الاعتراض. وموسكو تقترح بحماسة تنحسر أو تزداد حسب موازين علاقاتها الثنائية. وبكين في تغيّب وامتناع كسياسة. ولكن الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن ستضطر قريباً لاتخاذ مواقف وقرارات. ولأن الأمر يعني مباشرة الدول المجاورة للعراق، لعل مساهمتها اليوم تفيدها وتفيد مجلس الأمن وكذلك العراق، اذا حضّت على الشمولية بدلاً من اسلوب الانتقاء. بغداد ستصوّر كل محاولة لإعادة هيكلة العقوبات بأنها "خدعة" أو "بدعة" للتهرب من رفع العقوبات. وهي ستعتبر تعاون جيرتها في الرقابة على الحدود عملية "تطويق" تقودها الولاياتالمتحدة لتشديد أواصر الحصار واعادة فرض العزل على العراق. تتوقع بغداد، وهي قد لا تكون خاطئة، ان ترافق "العقوبات الذكية" أو تتبعها عمليات عسكرية اميركية - بريطانية. وفي اعتقادها ان الهدف الاميركي - البريطاني باقٍ على ما كان عليه، وهو منع العراق من العودة الى الأسرة الدولية، ومنع النظام من استعادة سيادته المتمثلة في صلاحية الحكومة بتسلم وانفاق أموال العائدات النفطية وانفاقها. وبالفعل، فإن حجر الأساس في السياسة الاميركية والبريطانية هو التمسك القاطع بوضع العائدات النفطية العراقية تحت سيطرة الاممالمتحدة وتعزيز صلاحية اشراف الاممالمتحدة على الانفاق. فالقيود المالية وتقنين العائدات في "الحساب الخاص المعلق" الذي يقع تحت سلطة الاممالمتحدة ركيزة في السياسة الاميركية غير قابلة للاخذ والعطاء. هذه الركيزة هي الوسيلة لضمان عدم استخدام بغداد الاموال لإعادة بناء ترسانة الأسلحة المحظورة، في رأي واشنطن. لكنها تنطوي ضمنياً ايضاً على سحب السيادة من النظام في العراق. انها "الضمان" البديل من "العقوبات الشاملة" للحؤول دون عودة العراق لامتلاك أسلحة الدمار الشامل، الى حين استبدال النظام أو انتهائه. مصادفة أو تنسيقاً أو انتقاء، كثير من "العقوبات الذكية" التي يسوقها أقطاب الإدارة الاميركية وارد في دراسة بعنوان "العقوبات الذكية: إعادة هيكلة سياسة الاممالمتحدة في العراق" هدفها تقديم أفكار جديدة لمجلس الأمن واعضائه. راجع صفحة 2 هذه الدراسة التي يتشاور في أفكارها أعضاء مجلس الأمن والبعثات الديبلوماسية العربية وغيرها تتقدم بمقترحات مفصلة لكيفية استبدال "العقوبات الشاملة" بنظام عقوبات يركز حصراً على الحظر العسكري وعلى منع بغداد من استئناف نشاطاتها العسكرية. قوامها رفع الحظر عن التجارة المدنية واستبدال برنامج "النفط للغذاء" ب"برنامج التنمية الاقتصادية المدنية"، وذلك بهدف مساعدة الاقتصاد المدني العراقي وتحسين الوضع الاجتماعي والاقتصادي للمواطنين وتحويل البرنامج من اغاثة انسانية الى ميكانيزم لإعادة تأهيل البنية التحتية الاقتصادية. وهدفها ايضاً وقف النزيف الذي يرافق انهيار العقوبات وانهيار اجماع مجلس الأمن وتماسك جيرة العراق في تطبيق العقوبات، كما ايقاف بغداد عن القفز على العقوبات. فالمحرك الاساسي هو منع الرئيس العراقي صدام حسين وحكومته من الحصول على الاموال، سواء كان عبر تهريب النفط أو فرض ضريبة نفطية على الشركات. وهذا ما لفت أنظار الادارة الاميركية اليها، خصوصاً انها تدرج تفاصيل تنفيذية لتطويق العراق عبر جيرته المباشرة بإجراءات اقتصادية لتعويضها. فالدراسة تقدم الدليل والخريطة لتحويل الانظار بعيداً عن النكبة الانسانية في اتجاه احتواء طموحات النظام العسكرية، وهذا يعجب واشنطن. وما يعجبها بالقدر نفسه هو اعتماد الدراسة ركيزة استمرار وضع العائدات النفطية العراقية تحت سيطرة الاممالمتحدة. ما يعجب واشنطن يستفز بغداد، خصوصاً اذا انتقت الادارة الاميركية من الدراسة حصر الجزء المتعلق بكيفية تشديد القيود المالية والجزء المتعلق بتقوية التحقق والرقابة على الحدود العراقية وبتعاون الدول المجاورة. اما اذا عمل بعض جيرة العراق، وكذلك بعض اعضاء مجلس الأمن على إبراز ضرورة الأخذ ايضاً بالجزء الآخر من الدراسة، قد يستطيع اقناع بغداد بجدوى الطروحات، وقد يؤدي خدمة كبيرة للامم المتحدة وصدقيتها وللمصلحة الاميركية البعيدة المدى في المنطقة. هذا الجزء يشدد تكراراً على ان برنامج "النفط للغذاء" أو بديله "برنامج التنمية الاقتصادية المدنية"، والذي هو استثناء لنظام العقوبات، يبقى استثناء وليس بديلاً من تعليق العقوبات أو رفعها. ولذلك، يبقى البرنامج فاعلاًَ "الى حين" استكمال بغداد تنفيذ التزاماتها بموجب القرارات، وعندئذ يتم "رفع" العقوبات. فالدراسة تنص بوضوح على ان "على مجلس الأمن، كما ينص القرار 687، ان يؤكد مجدداً ان العقوبات المفروضة على العراق سترفع، وليس فقط ستُعلق، عندما يمتثل العراق كاملاً لقرارات مجلس الأمن ذات الصلة". وتضيف ان "مجلس الأمن ملزم بالانصياع لما في قراراته وبرفع الحظر النفطي وما يرافقه من سيطرة مالية عندما تُستكمل مهمة إزالة التسلح". وبالتالي، فإن الفكرة ليست فقط اعادة الزام مجلس الأمن بقراره 687 الذي وضع شروط وقف النار وشروط رفع العقوبات، وبالفقرة 22 منه التي نصت على رفع الحظر النفطي لدى استكمال تنفيذ العراق مطالب نزع السلاح. الفكرة هي ايضاً عدم اعتماد فرض القيود المالية ومنع الحكومة العراقية من تسلم أموال العائدات النفطية كسياسة ثابتة ودائمة، وانما ايضاح الاستعداد لعرض رفع أو ازالة هذه السيطرة، تطبيقاً لالتزام مجلس الأمن قراراته بصدق، وكحافز لتعاون الحكومة العراقية في تنفيذ القرارات. هذا يتطلب تجديد التزام مجلس الأمن الفقرة 22 من القرار 687، الأمر الذي تجنبته الادارة الاميركية السابقة وساهم في الانقسام في صفوف مجلس الأمن. والدراسة صريحة في الإشارة الى "الغموض القانوني" في القرار 1284 الذي لا يشير صراحة الى "رفع العقوبات" ويتجنب الفقرة 22 من 687، وتؤكد "ضرورة تجديد التزام مجلس الأمن" الفقرة 22 من القرار 687. وتقترح أيضاً "تعليق" نشاطات الطائرات الاميركية والبريطانية في منطقتي حظر الطيران في جنوب وشمال العراق. وتشير الى ان الفقرة 14 من القرار 687 اعتبرت تجريد العراق من اسلحة الدمار الشامل خطوة من "خطوات اقامة منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل في الشرق الأوسط"، وتشدد على العلاقة بين تحقيق التقدم في النزاع العربي - الاسرائيلي وبين تعاون جيرة العراق، خصوصاً سورية والأردن، مع العلاقة "الترابطية" بين 687 و1284 وبين 242 و338 في المشاعر الاقليمية والسياسات الدولية. هذه ليست الدراسة الوحيدة التي تشير الى العلاقة الترابطية بين السياسة حيال العراق وتلك إزاء النزاع العربي - الاسرائيلي. فالدراسات التي صدرت عن "مجلس العلاقات الخارجية" و"مؤسسة بيكر"، تلك المتعلقة بتحديات القرن الواحد والعشرين في ميدان الطاقة، وتلك التي ركزت على "السياسة الاميركية الأمنية نحو الخليج الفارسي"، أبرزت تلك العلاقة. راشيل برونسون، خبيرة الشؤون الخليجية في "مجلس العلاقات الخارجية" الفاعل في صنع السياسة الاميركية، كتبت ملخصة "دراسة السياسة الأمنية" ان القادة في واشنطن "كانوا وسيبقون بلا شك منشغلين بالنزاع الفلسطيني - الاسرائيلي وبالعراق وايران. لكن الوقت حان لتعكس الأولويات الاميركية واقع ضرورة تبني استراتيجية مرنة نحو الشرق الأوسط قوامها عدم الافتراض مسبقاً استمرار دعم الخليج الذي يجب ألا يؤخذ على سبيل الضمان المسبق". أساس طروحاتها، استنتاجاً للدراسة التي شارك فيها خبراء وسياسيون مخضرمون، ان على ادارة جورج دبليو بوش تبني سياسة تتعدى سياسة "الاحتواء" لإيران والعراق، سياسة تتنبه لقصور وقصر نظر الاعتماد حصراً على العلاقة الأمنية والعسكرية بين الولاياتالمتحدة ودول مجلس التعاون الخليجي. سياسة تأخذ في الحساب ضرورة توسيع العلاقة لتأخذ بالأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والرؤية السياسية للمنطقة من منطلقها المحلي. سياسة تخلق الحوافز لدعم السياسة الاميركية والأولويات الاميركية والمصالح الاميركية خصوصاً ان أجيال المنطقة المقبلة شابة تتوقع التوقف عن نمط الاجيال الحاكمة وتتوقع معالجة حقيقية للقضايا الاجتماعية والتوظيفية والمعيشية بقدر توقعاتها السياسية. سياسة تدرك وطأة القضية العراقية والقضية الفلسطينية على المنطقة زائد استخدام البعض للقضيتين وللمشاكل الاجتماعية - الاقتصادية القائمة في المنطقة لإطلاق جماح اللااستقرار وضرب الأنظمة والمصالح الاميركية في المنطقة على السواء. تقرير "الطاقة" بدوره حذر من الاستهتار بالعوامل الاجتماعية والسياسية في الساحة العربية ونصح بالتنبه الى التداخل بين السياسة الاميركية نحو النزاع العربي - الاسرائيلي وسياسة الطاقة والسياسة نحو العراق. لفت الى أهمية "الاحتياطي العراقي" باعتباره "رأسمالاً رئيسياً"، واقترح "خفض القيود على الاستثمارات النفطية في العراق" على رغم "سلبيات" هذا الاجراء، من "تباهي صدام حسين بالانتصار" الى مقاومة روسيا هذا الاجراء بسبب ما تخسره لجهة موقعها التنافسي داخل العراق وفي اطار انخفاض اسعار النفط وتأثيرهما على الاقتصاد الروسي. إزاء كل ذلك، من المنطقي للدول العربية الخليجية وتلك الواقعة في الجيرة المباشرة للعراق، ان تلعب دوراً اساسياً في التأثير في صياغة الولاياتالمتحدة سياساتها نحو المنطقة والعراق بالذات، وان تساهم جذرياً في رسم توجهات مجلس الأمن. عليها ان تتنبه بل ان تقاوم الأخذ بجزء من المقترحات المعني بفرض "عقوبات ذكية" بمعزل عن الجزء المتعلق بإعادة تأكيد الالتزامات الدولية بموجب القرارات. فإذا اشترطت هذه الدول الأخذ بالجزئين فإنها تلعب دوراً فائق الاهمية والفائدة للامم المتحدةوالولاياتالمتحدةوالعراق. وعلى سورية والأردن مهمة مميزة، لكن هذا لا ينفي المهمة الأولى لدول مجلس التعاون الخليجي. فهذه الدول قادرة اليوم على التأثير فعلياً في اعادة هيكلة نظام العقوبات ونظام رفعها، الى جانب فرصة التأثير العميق في صنع السياسة الاميركية. ولو اتخذت الدول العربية مواقف واضحة ومتماسكة وثابتة، لأثرت جذرياً في مواقف الدول الأربع الأخرى دائمة العضوية في مجلس الأمن، ولفرضت على واشنطن توجهاً جديداً. بغض النظر عن مواقف بغداد الرافضة اليوم أو المستعدة ضمنياً أو المتقبلة غداً، ان الدراسة التي تنتقي منها الادارة الاميركية ما يلائمها يتضمن اجزاء يسهل على الادارة تجاهلها ما لم يفرض عليها القطبان الاساسيان في استراتيجيتها الأخذ بشمولية المقترحات الواردة في الدراسة. وهذان القطبان هما الدول العربية المجاورة للعراق وتلك الفاعلة بعيداً عن الجيرة مثل مصر، ودول متقلبة في مجلس الأمن مثل روسيا وفرنسا والصين تتبع. فإذا احتلت الدول العربية موقع القيادة فإنها تكتسب احتراماً لإقدامها وتقديراً لرؤيتها وصدقية لمقولتها بأن هدفها معالجة المسألة العراقية على أسس قرارات الاممالمتحدة. الفرصة متاحة، واللوم جاهز للاستنفار إذ ان تسويق "العقوبات الذكية" ليس وارداً إذا كان أساسه حملة اعلامية تزعم انقاذ الشعب العراقي من مأساته. انه يتطلب بالضرورة ايضاح الالتزام الاميركي والبريطاني والعربي، في مجلس الأمن وخارجه، بتنفيذ صادق للالتزامات الدولية بموجب القرارات بما فيها "رفع" العقوبات صراحة لدى تنفيذ بغداد التزاماتها. فحذار التلاعب على الكارثة الانسانية في العراق. انها فوق اللعبة السياسية للنظام العراقي أو للادارة الاميركية أو لدول عربية أو للامم المتحدة.