بعد خمس سنوات على تحرير الكويت من الاحتلال العراقي، أصبح واضحاً ان كثيرين من أركان التحالف العربي والدولي والاسلامي الذي خاض عملية "عاصفة الصحراء" وأعاد الى الكويت استقلالها وحكومتها الشرعية، لا يترددون في الاعراب عن خيبة الأمل من جرّاء عدم توصل نتائج الحرب الى إسقاط نظام الرئيس صدام حسين. الرئيس الاميركي السابق جورج بوش أعلن أخيراً انه "يشعر بالندم" لأنه وافق على وقف القتال في شكل سابق لأوانه، وقبل أن تنجز قوات التحالف مهماتها العسكرية، خصوصاً القضاء على قوات "الحرس الجمهوري" العراقية وشل فاعليتها، ولأنه لم يصر على ضرورة رفع مستوى التمثيل العراقي في محادثات وقف اطلاق النار بين القيادة العسكرية لقوات التحالف ومسؤولين عسكريين عراقيين. وأقرّ بوش بأنه كان من الضروري ان يشترط التحالف مشاركة مسؤولين سياسيين عراقيين على مستوى رفيع في تلك المحادثات، "حسبما كان يدعو إلى ذلك القائد السعودي للقوات المشتركة" قاصداً بذلك الأمير خالد بن سلطان. أما رئيسة الحكومة البريطانية آنذاك السيدة مارغريت ثاتشر فذهبت أبعد من ذلك عندما قالت: "إن التحالف لم يستكمل مهمته تماماً في الحرب، أي العمل على اسقاط صدام". وأوضحت انها لا تقصد بذلك دخول القوات المتحالفة الى بغداد واطاحة صدام في صورة مباشرة، بل مجرد "جعل امكان بقاء الرئيس العراقي في السلطة مستحيلاً". فما كان مطلوباً هو "عدم الاكتفاء بهزيمة قوات صدام عسكرياً، بل تأكيد ظهور صدام مظهر المهزوم سياسياً، وهو ما لم يتم". والواقع ان هذه الانتقادات والتحفظات التي بدأ أركان التحالف بالاعراب عنها الآن، بعد خمس سنوات على الحرب، كانت وردت للمرة الأولى في كتاب "مقاتل من الصحراء" للفريق أول ركن الأمير خالد بن سلطان بن عبد العزيز، قائد القوات المشتركة ومسرح العمليات في الحرب، عندما وصف النتيجة التي آلت إليها "عاصفة الصحراء" بأنها كانت "نهاية غير حاسمة سياسياً لحرب حاسمة عسكرياً"، شارحاً ذلك بالقول: "في تصوري الشخصي، لم تأتِ الطريقة التي انتهت فيها الحرب موازية للطريقة التي تم فيها خوض تلك الحرب. فبينما كانت العمليات العسكرية ماهرة وحاسمة، جاءت الترتيبات التي أعقبتها لإحلال السلام غامضة ومترددة. وهذا الأمر لا بد من أن يكون مسؤولاً، ولو جزئياً، عن حقيقة أن صدام حسين ظل قادراً على البقاء في السلطة بعد انتهاء الصراع المسلح". هفوات جوهرية والآن، في الذكرى الخامسة لتحرير الكويت، يبدو هذا الاستنتاج صحيحاً الى حد كبير، بل أصبح صفة عامة تميز التقويمات الصادرة عن أكثر من جهة في ما يختص بنتائج الحرب وآثارها السياسية العامة. وهناك شبه إجماع على ثلاث مسائل أساسية باتت تعتبر بمثابة "هفوات جوهرية" ساهمت في عدم وصول الحرب الى نتائج سياسية حاسمة تتلاءم وحجم الانجازات العسكرية التي نجحت قوات التحالف في تسجيلها، وهي: - الموافقة السابقة لأوانها على وقف اطلاق النار، الأمر الذي مكّن صدام من الاحتفاظ بجزء لا يستهان به من قواته العسكرية، خصوصاً وحدات "الحرس الجمهوري" التي كانت قوات التحالف لا تزال في خضم الاشتباك معها عندما أعلن الرئيس بوش وقف العمليات الحربية. - عدم إصرار التحالف على ضرورة ضم الوفد العراقي إلى مفاوضات وقف القتال مسؤولين سياسيين كباراً، الأمر الذي كان من شأنه لو حصل ان يكرس الطابع السياسي لهزيمة بغداد الى جانب هزيمتها العسكرية الواضحة. - موافقة الجنرال نورمان شوارزكوف في محادثات صفوان على طلب الجانب العراقي السماح له باستخدام طائرات الهليكوبتر في الأجواء العراقية تحت ذريعة الحاجة اليها في مهمات النقل والارتباط نتيجة للاضرار الفادحة التي الحقتها الغارات الجوية الحليفة بخطوط المواصلات العراقية البرية. هذه "الهفوات" شكلت المدخل الذي تمكن صدام بفضله من التخفيف من وطأة هزيمته العسكرية. كما انها أدت الى النتيجة التي تتحدث عنها ثاتشر، أي تمكين النظام في بغداد من الاستمرار في فرض سيطرته على البلاد ومحاولة تصوير نتائج الحرب كأنها نوع من "الانجاز" لمجرد نجاح النظام في المحافظة على بقائه، والتمسك بالسلطة بخلاف ما كان متوقعا ومنشودا على نطاق واسع. والأهم من ذلك على المستوى السياسي عدم إصرار التحالف على أن يقوم صدام شخصياً، أو أقله من ينوب عنه سياسيا، بالتوقيع على وثيقة وقف اطلاق النار. وكان هذا في حد ذاته كفيلاً بتمكين الرئيس العراقي من "الإفلات" من مأزق الهزيمة السياسية التي كان يفترض أن تلي هزيمة قواته العسكرية. ويظل ضرورياً التذكير بأن حرب الخليج حققت كل أهدافها المعلنة. وهذا في الواقع ما شدد عليه كثيرون من أصحاب القرار خلال الأزمة وبعدها. فالتحالف لم ينشأ، أقله من الوجهة الرسمية، من أجل اسقاط صدام أو احتلال العراق والتحكم بمصيره وأوضاعه الداخلية، بل قام بهدف تحرير الكويت وإزالة التهديد العراقي لدول المجاورة. وتحقق هذا فعلاً. فالكويت عادت اليها سيادتها وحكومتها الشرعية بعد اخراج القوات العراقية منها. والآلة العسكرية الضخمة التي كانت في حوزة بغداد تقلصت بنسبة كبيرة ونزعت منها الغالبية العظمى من أسلحة الدمار الشامل، فيما تضاءلت قدرتها على تطوير تلك الأسلحة وانتاجها وتخزينها وايصالها الى أهدافها. اضافة الى أن التحالف نجح، في حشد أكبر تجمع من الدول العربية والاسلامية والعالمية ضمن اطار سياسي وعسكري موحد لم يشهد التاريخ السياسي المعاصر مثله. لكن المشكلة المستمرة هي ان صدام لا يزال على رأس السلطة فيما يعاني العراقيون حصارا وصعوبات اقتصادية ومعيشية قل نظيرها من دون ظهور ما يدل على امكان التخفيف منها طالما ظل النظام الحالي قائما. وعلى أي حال، فإن من الطبيعي ان يظل حدث على هذا القدر من الضخامة والاستثنائية، مثل غزو الكويت وحرب تحريرها، عرضة للنقاش والجدل والتقويمات المتباينة، وان يستمر ذلك سنوات طويلة. إلا ان سؤالا واحدا ربما كانت الاجابة عنه من بين الاكثر اثارة للافتراضات والتكهنات، وهو: ماذا كان حدث لو وافق صدام على الانسحاب من الكويت قبل اندلاع الحرب التي اخرجته منها؟ ومثل هذا التساؤل يستتبع بدوره اسئلة تتفرع عنه، مثل: هل كانت هناك أي فرصة واقعية لقيام النظام العراقي بخطوة كهذه، أو أقله وجود الاستعداد لاعلان موافقته على سحب قواته في مقابل شروط معينة مثلا؟ ولو تم ذلك هل كان سيظل في مقدور التحالف العربي والدولي الاستمرار في تنفيذ خططه العسكرية أم كان سيتعين عليه التعامل سياسياً مع خطوة عراقية كهذه؟ وبالتالي، كيف كان ذلك سيؤثر في مسار الأزمة؟ كل هذه التساؤلات والاجوبة عنها تظل من باب الافتراضات والتخمين، لكنها تنبع كلها من السؤال المركزي: ماذا لو انسحب صدام؟ "الوسط" وجهت هذا السؤال لمناسبة الذكرى السنوية الخامسة لحرب الخليج وتحرير الكويت الى عدد من أبرز القادة والمسؤولين السياسيين والعسكريين الذين ساهموا في عملية اتخاذ القرار وتنفيذه ابان الأزمة في دول عربية وعالمية كانت على علاقة مباشرة بمسارها وتطورها وصولاً الى الحرب التي أسدلت الستار على مأساة الغزو العراقي وأدت الى تحرير الكويت، فكانت الاجابات الآتية: بوش: الانسحاب الكامل يكاد أركان الادارة الاميركية في عهد الرئيس السابق جورج بوش، من سياسيين وعسكريين، يجمعون على أن صدام لم يكن في وارد الانسحاب من الكويت وان القوة كانت الوسيلة الوحيدة لحمله على ذلك. لكنهم في المقابل يتفقون على أن مثل هذا الانسحاب أو حتى مجرد الاعلان عن الاستعداد لتنفيذه، كان سيجعل لجوء التحالف الى الحرب من أجل اخراج العراقيين من الأراضي الكويتية أكثر صعوبة وتعقيداً، خصوصاً من زاوية الحفاظ على الوحدة بين أطراف التحالف. قال الرئيس بوش: "لو وافق صدام على الانسحاب الفوري الكامل وغير المشروط من الكويت، وأعلن قبوله جميع قرارات مجلس الأمن وشرع في تنفيذها من دون تلكؤ، لكان التحالف وجد لزاماً عليه الامتناع عن مهاجمته عسكرياً. وعلى الأرجح، كنا استعضنا عن الحرب باتباع سياسة احتواء تضمن الحؤول دون استمرار العراق في تهديد جيرانه. وعندما أرسل الرئيس السوفياتي السابق ميخائيل غورباتشيف مبعوثه الخاص يفغيني بريماكوف رئيس الاستخبارات السوفياتية الخارجية آنذاك، وزير الخارجية الروسي حالياً الى بغداد من أجل التوسط مع صدام الذي كانت تربطه ببريماكوف صداقة شخصية قديمة، كان احتمال نجاح مهمة المبعوث الروسي واردا. اذ لو استغل صدام تلك الفرصة وأعلن البدء بسحب قواته من الكويت والدخول مع حكومتها في مفاوضات جدية حول حقل الرميلة النفطي وغير ذلك من مسائل موضع خلاف بين البلدين، فإن احتمال تردد التحالف في اللجوء الى القوة كان سيبرز بطبيعة الحال. لكنه لم يفعل ذلك بل اكتفى بابلاغ بريماكوف استعداده للانسحاب من دون الاعتراف باستقلال الكويت. وعندما نقل السوفيات الينا هذا الموقف اعتبرناه غير كاف، فكانت الحرب. وعلى أي حال، كان صعباً على الدوام التكهن، بأي قدر من الدقة، بما سيقدم عليه صدام من خطوات في أي وقت من الأوقات. إلا انني استطيع التأكيد أننا كنا مستعدين للاحتمالات والسيناريوات المختلفة. وفي الوقت نفسه، كنت دائماً على اقتناع بأن صدام ليس في وارد القبول بتسوية أو بحل وسط يقوم على مبدأ انسحابه من الكويت أولاً. وهو ربما أخطأ في قراءة موقفنا، وأساء فهم ما قالته له السفيرة ابريل غلاسبي في اجتماعها معه في بغداد قبل الغزو... صحيح ان وزير الخارجية جيمس بيكر كان يفضل بقاء الولاياتالمتحدة بعيدة عن التدخل في الخلاف العراقي - الكويتي على حقل الرميلة، لكن غزو صدام الكويت لم يدع أمامنا أي مجال آخر سوى التدخل لاخراجه منها بكل الوسائل المتاحة". بيكر: الموقف الثابت ويتفق وزير الخارجية الأميركي السابق جيمس بيكر مع الرئيس بوش في الاجابة، اذ يقول: "طبعاً، لو حصل الانسحاب العراقي الشامل وغير المشروط من الكويت ووافقت بغداد على جميع قرارات مجلس الأمن ضمن المهلة الزمنية التي كانت محددة لها من أجل القيام بذلك، لكانت انتفت الحاجة الى استخدام القوة، وكنا تجنبنا بالتالي خوض الحرب لاخراج العراقيين من الكويت. إلا أن موقفنا كان ثابتاً في رفض أي نقاش يتعلق بالنقاط الأساسية التي نصت عليها تلك القرارات، وهي الانسحاب الكامل من دون شروط سابقة، والاعتراف بسيادة الكويت واستقلالها وعودة حكومتها الشرعية اليها. كما اننا كنا ندرك أن من شأن خطوة عراقية كهذه ان تضمن لصدام الاحتفاظ بقواته العسكرية كاملة. لكنني لم أعلق الكثير من الآمال على امكان حدوث ذلك، فصدام كان يعرف على ما يبدو نقاط ضعفنا، لكنه أخفق في فهم نقاط قوتنا". باول: آخر الدواء الحرب لعل الظاهرة الأبرز في مواقف أركان الادارة الأميركية ابان أزمة الخليج كانت الفوارق التي ميزت العسكريين عن السياسيين منهم. ففي حين أبدى الرئيس بوش ومعاونوه المدنيون حماسة ظاهرة للجوء الى القوة، أقله علناً، كان العسكريون أكثر تحفظاً، بل حتى ترددا. إذ كان واضحاً ان "شبح فيتنام" كان لا يزال يخيم على تفكير القيادة العسكرية حيال احتمال "خوض حرب اقليمية محدودة أخرى غير مضمونة النتائج والعواقب"، على حد تعبير رئيس أركان هيئة القوات الاميركية المشتركة آنذاك الجنرال كولين باول. والجنرال باول أحد أبرز المهندسين للخطط العسكرية التي اعتمدتها القوات الأميركية والحليفة خلال "عاصفة الصحراء". واليه يعود الفضل في الاصرار على اتباع استراتيجية "الحرب الكاملة"، القائمة على استخدام الحد الأقصى من الخسائر في صفوف الخصم مع الحرص على تجنب ما أمكن من الخسائر في صفوف القوات الصديقة. ولهذا نظر الى الحرب باعتبارها "الخيار الأخير الذي سيكون التحالف مجبراً على اللجوء اليه من أجل اخراج العراقيين من الكويت"، وعلى أساس ان أي فرصة لتجنب خوض الحرب ستكون أفضل من الاضطرار الى شنها". أما اذا كان لا مناص من خوض الحرب، فإن باول كان مصمما بالقدر نفسه على أن تكون "حرباً شاملة وحاسمة وسريعة لا تردد فيها ولا غموض في تحديد أهدافها ولا قيود على الموارد والأساليب المستخدمة فيها بغية التوصل الى تلك الأهداف". اجاب الجنرال باول عن سؤال "الوسط" بقوله: "لو انسحب صدام فعلا من الكويت مع التمسك بادعائه انها تشكل جزءاً من العراق، وهو ما أبلغ الى السوفيات انه مستعد للقيام به، لكنت نصحت الرئيس بعدم شن الحرب. وكما هو معروف، فانني كنت من الذين فضلوا الاكتفاء بفرض العقوبات على العراق وانتظار نتائجها. وفي المقابل كان التزامنا الدفاع عن المملكة العربية السعودية ومساعدتها في مواجهة أي تهديد لأمنها وأراضيها التزاماً مطلقاً، لأننا نعتبر ذلك مسألة حيوية جداً. وفي اعتقادي، ان معظم أركان ادارة الرئيس بوش كان يفضل ضمناً اعطاء صدام بعض الوقت قبل اللجوء الى القوة. ولكن لا أحد يعرف ماذا كان صدام يخطط في تلك الفترة. صحيح انه هزم عسكرياً، لكنه لا يزال في السلطة، فيما خرج منها بوش وثاتشر وغورباتشوف وميتران. ولو اتخذ صدام آنذاك قراراً سياسياً استراتيجياً بالانسحاب لكان تفادى الحرب وكسب الوقت واستمر في بناء قواته العسكرية وتحسينها... نعم، اعتقد بأنه كان ممكناً في ذلك الوقت الاعتقاد بأن صدام قد يعمد في نهاية المطاف الى الانسحاب والقبول بتسوية ما، لكن النظرة الآن مختلفة. واعتقد بأننا إذا عدنا الى الوراء لاكتشفنا ان ذلك الاحتمال لم يكن وارداً اطلاقاً". هيرد: أهداف الحرب كان موقف بريطانيا باستمرار الاكثر تطابقاً وانسجاماً مع الموقف الأميركي من احتمالات الحرب والشروط المطلوبة من صدام لتجنب المواجهة المسلحة. بل ان عدداً من المسؤولين الأميركيين أنفسهم، وفي مقدمهم مستشار الرئيس بوش لشؤون الأمن القومي الجنرال برانت سكوكروفت، لا يتردد في الاعلان أن الفضل يعود الى ثاتشر في "صلابة" موقف الرئيس الأميركي وتشدده مع بغداد في المناسبات القليلة التي فكّر الرئيس بوش في امكان التوصل الى تسوية مع صدام يقل سقفها عن قرارات مجلس الأمن بحذافيرها، أي الانسحاب الكامل وغير المشروط فوراً، والاعتراف بسيادة الكويت واستقلالها وعودة حكومتها الشرعية اليها. أما بالنسبة الى احتمالات الانسحاب العراقي وفرص تجنب الحرب، فيجيب دوغلاس هيرد وزير الخارجية البريطانية آنذاك: "كان من الصعب دائماً التكهن سلفاً بقرارات صدام حسين وخططه ونياته. ولهذا فإن احتمال اتخاذه خطوة مفاجئة بالانسحاب من الكويت قبل أن تجبره قوات التحالف على ذلك كان وارداً في ذهننا. ولو انسحب من الكويت قبل الحرب لما كانت قوات التحالف اضطرت الى شن هجومها، وكان العراق تجنب الويلات والمآسي التي ترتبت على الحرب. ولا بد من التذكير هنا بأن هدف التحالف كان ازالة العدوان عن الكويت، ومنع أي توسع عدواني مماثل في اتجاه المملكة العربية السعودية أو غيرها من بلدان المنطقة. اما تغيير الحكم في العراق أو شرذمة هذا البلد أو تقسيمه فهي أمور لم تكن أبداً من بين الأهداف التي قام التحالف من أجلها. كما ان التحالف لم يخوله مجلس الأمن ولا حكومات الدول المشاركة فيه أو برلماناتها، تنفيذ أهداف من هذا القبيل. وبالطبع، لو انسحب صدام من الكويت لكان مجلس الأمن أصر على أن يدفع العراق تعويضات للكويت عما ألحقه بها من خسائر وأضرار، الى جانب اعتراف بغداد باستقلال الكويت وحرمة أراضيها وحدودها. وكان منطقياً أن تظل العقوبات الدولية مفروضة على العراق حتى تنفيذه هذه الشروط الأساسية. وفي الوقت نفسه، كان يمكن الافتراض منطقياً ان الحكومة الكويتية ستطلب استمرار وجود عسكري على أراضيها لردع أي محاولة اعتداء عراقية أخرى الى أن يتأكد لها أن أي تهديد عراقي محتمل للسيادة الكويتية زال زوالاً كاملاً". شوفينمان: موقف فرنسي متمايز الطرف الدولي الرئيسي الثالث في التحالف كان فرنسا. وفيما التزمت باريس آنذاك سياسات التحالف وأهدافه وشاركت في "عاصفة الصحراء"، فإن المواقف التي اعتمدها الرئيس الفرنسي آنذاك فرنسوا ميتران وحكومته كانت مغايرة الى حد ما للموقفين الأميركي والبريطاني، خصوصاً من حيث إبداء اهتمام اكبر بالتوصل الى تسوية سياسية مع بغداد التي لم ينقطع الحوار الفرنسي معها خلال مراحل الأزمة وحتى نشوب الحرب فعلاً. كان جان بيار وزيراً للدفاع الفرنسي في حكومة ميشال روكار عقب فوز الرئيس ميتران بولاية ثانية عام 1988. وهو عايش عن كثب تفاصيل أزمة الخليج الى حين استقالته من منصبه بعد أيام من اندلاع الحرب. يقول شوفينمان في اجابته عن سؤال "الوسط": "اعتقد بأن الحرب كانت ستصبح أصعب بكثير لو سحب العراق قواته من الكويت. في كل الأحوال، كان لا بد لتلك القوات ان تنسحب، ولكن لا بد هنا من البحث عما كان يريده الأميركيون... فهل كان تفادي الحرب في خلفية تفكير الرئيس بوش ممكناً؟ اعتقد بأن فكرة الحرب كانت ثابتة في ذهنه. أما بالنسبة الى الموقف الفرنسي، فأنا كنت من القائلين بأن على فرنسا أن تلعب دورا فعالا في ممارسة الضغوط لمنع اندلاع الحرب، واقترحت على الرئيس ميتران ارسال مبعوث الى العراق للبحث في امكانات التسوية، لكن اقتراحي لم يؤخذ به، وموقفي في هذا الصدد معروف. وعلينا ان نتذكر أيضاً ان العراقيين كانوا مقتنعين بأن الولاياتالمتحدة مصممة على شن الحرب وإجهاض أي محاولة لانسحاب قواتهم من الكويت بما يحفظ ماء وجههم وإحباط المساعي التي كانت تستهدف التوصل الى ما كان يعرف بحل عربي للأزمة. وفعلاً، أبلغني صدام حسين في احدى المناسبات انه يرحب بالخطاب الذي ألقاه الرئيس ميتران في 24 أيلول سبتمبر 1990 أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وأنه يرغب في فتح حوار مباشر مع فرنسا، وأنه نقل هذا الموقف الى القائم بالأعمال الفرنسي في بغداد آنذاك. لكن جواب فرنسا الوحيد كان المطالبة بتنفيذ قرارات مجلس الأمن شرطاً لأي تسوية. ويعتقد العراقيون أيضاً بأن اقتراح التسوية الذي توصل اليه المبعوث السوفياتي بريماكوف لسحب قواتهم من الكويت والدخول في مفاوضات أجهض أيضاً نتيجة الرفض الأميركي. وربما لا يزال الدور الذي لعبه السوفيات في هذا المجال غامضاً الى حد ما، خصوصاً في ما يتعلق بمهمة بريماكوف، لكنني اعتقد بأن صدام بالغ في تقدير هامش المناورة المتاح له، وفي قدرة الاتحاد السوفياتي على التدخل والتأثير. لكن ذلك كله لا ينفي حقيقة ان أحداً في نظري لم يفعل شيئاً جدياً يتيح الخروج بحل تفاوضي للأزمة. وعلى أي حال، أعود وأكرر انه كان يتعين على العراق سحب قواته من الكويت، ولو قام بذلك فعلاً فانني على اقتناع تام بأن قرار شن الحرب كان سيصبح أكثر صعوبة بكثير بالنسبة الى دول التحالف". بسميرتنيخ: أين موسكو؟ يتفق كثيرون من المسؤولين العرب والغربيين على أنه لولا الموقف الايجابي الذي اتخذه الرئيس السوفياتي السابق ميخائيل غورباتشوف وموافقة موسكو على قرارات مجلس الأمن وفرض العقوبات على العراق وتمسكها بالدعوة الى سحب القوات العراقية من الكويت، لكانت مهمة التحالف أصعب وأكثر تعقيداً على الصعيدين السياسي والعسكري على حد سواء. لكن ايجابية الموقف السوفياتي لم تكن تعني ان موسكو انتهجت سياسة مطابقة لسياسة دول التحالف العربي والدولي، بل ان القيادة السوفياتية في ذلك الوقت ظلت متمسكة بهامش من التمايز، وحاولت حتى اللحظة الأخيرة ممارسة دور مستقل الى حد ما، خصوصاً في محاولتها التوسط مع القيادة العراقية للخروج بحل وسط للأزمة، كما تجلى مثلاً من خلال مهمة المبعوث بريماكوف الى بغداد. إذن، كيف نظر الاتحاد السوفياتي الى الأزمة، وهل كانت موسكو تعتقد فعلاً بأن هناك فرصة لتجنب الحرب وسحب القوات العراقية من الكويت بالوسائل السياسية؟ "الوسط" وجهت السؤال الى الكسندر بسميرتنيخ وزير الخارجية السوفياتي في تلك الفترة، فأجاب: "جاءت حرب الخليج نتيجة تجمع لا سابق له في التاريخ من الأخطاء والقرارات العاطفية على مساحة زمنية وجغرافية بهذا الحجم الصغير. وينطبق هذا في نظرنا على جميع الأطراف: العراقوالولاياتالمتحدة والاتحاد السوفياتي والعالم العربي. وأبدأ بالاشارة الى أنه على رغم الاتصالات الكثيرة التي تمت مع القيادة العراقية قبل غزو الكويت، فإن أحداً لم يقدّر تماماً مدى حال الاحباط التي كان صدام حسين يعيشها بعد حرب مرهقة مع ايران استغرقت ثماني سنوات. وحتى السفارة السوفياتية في بغداد آنذاك لم تدق أجراس الانذار، كما كان ينبغي، بل بخلاف ذلك كانت تقاريرها تعبر عن الأمل في عودة الازدهار والاستقرار الى الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في العراق خلال مرحلة ما بعد الحرب مع ايران. بل انني شخصياً اجتمعت بصدام مرتين في تلك الأثناء، وكنت حينها نائباً أول لوزير خارجية الاتحاد السوفياتي، ولم تظهر لي من خلال أحاديثه أي دلائل على الاحباط الذي كان يعانيه. فالعراقيون كانوا يحرصون على اخفاء مشاعرهم تلك بمهارة بالغة. لكن ثروة الكويت وآبار نفطها شكلت لهم على ما يبدو خلاصاً واضحاً من أزمتهم. ولا اعتقد أيضاً بأن أحداً أخذ جدياً في الاعتبار عامل معنويات الجيش العراقي الذي كان تضخم كثيراً وخرج من الحرب مع ايران من دون شعور حقيقي بالنصر، كما فقد الأهداف التي قاتل من أجلها طويلاً، فأصبح عاملاً خطراً على الاستقرار في البلاد. وربما رأى صدام أن من الضروري أن يعطي ضباطه وجنوده مهمات جديدة تكون كفيلة باشغالهم، لكن العالم الخارجي لم يحسن توقع تصرفات القيادة العراقية وأهدافها، كما لم يعط الدوافع الداخلية حقها في تحليله لتصرفات النظام العراقي وقراراته خلال تلك الأشهر المهمة من عام 1990. أما الخطأ الرئيسي الذي ارتكبه صدام نفسه في تلك الفترة فهو عدم فهمه ان اللفتات الايجابية تجاهه، خصوصاً من جانب الدول الغربية، تعزى الى اعتبارات تكتيكية فحسب، وليست استراتيجية. ولهذا بالغ في تقدير ود الأميركيين، والطابع المتميز لموقف الفرنسيين، والمصلحة الايديولوجية للصينيين، والطابع التاريخي للصداقة بين العراق والاتحاد السوفياتي. صحيح ان الاميركيين راهنوا على بغداد في اطار سياستهم المناهضة لايران، ولذلك لم يهتموا في بادئ الأمر كثيراً بالنزاع الناشئ بين العراقوالكويت، ولمحوا في تموز يوليو 1990 الى أنهم لا يرغبون في الانغماس في ذلك الجدل الثنائي. لكن واشنطن لم تكن تظن ان الموقف سيتطور بين البلدين الى حد قيام بغداد بغزو الكويت. أما بالنسبة الى الاتحاد السوفياتي، فقد رأى صدام انه يمكن تجنب البحث في موضوع النزاع العراقي - الكويتي على مستوى جدي مع موسكو. وارتد هذا عليه في ما بعد لأن ميخائيل غورباتشوف والقيادة السوفياتية عموماً، خصوصاً ادوارد شيفاردنادزه وزير الخارجية آنذاك، اعتبرا دخول القوات العراقيةالكويت غدراً وخداعاً لموسكو. وعلى كل، لم يكن الاتحاد السوفياتي ليؤيد العدوان على الكويت، ولهذا استنكره ودعا الى ازالته. وفي نظري ان صدام لم يفهم بشكل صحيح ايضاً ان موقف غورباتشوف غير المتماسك من أزمة الخليج كان نتيجة الضغوط المتعارضة من جانب انصار اتباع خط متشدد مع بغداد من جهة، وخصوم ذلك الخط من جهة ثانية. ويبدو ان صدام افترض ان اولئك الذين كانوا يدعون الى ضرورة ابقاء العراق حليفاً للاتحاد السوفياتي سيتغلبون على خصومهم في القيادة السوفياتية. ولا استبعد أن يكون مثل هذا الافتراض تعزز في بغداد نتيجة المساعي التي بذلها بريماكوف الذي كان يرى أن حل الأزمة يتم بالتوصل الى صيغة تكفل انقاذ ماء وجه صدام حسين. وأذكر تماماً كيف تسلمت من غورباتشوف قبل بدء الهجوم في الصحراء بأيام، وكنت وقتها سفيراً للاتحاد السوفياتي في واشنطن، إيعازاً بأن اتصل فوراً بالرئيس بوش لأقدم اليه خطة اقترحها بريماكوف اثر محادثاته مع صدام في بغداد، تتلخص في ان يعلن صدام سحب قواته من الكويت، وان تعلن واشنطن في المقابل انها تستبعد احتمال القيام بعمليات حربية ضد العراق. وعند انجاز الانسحاب العراقي تلغى العقوبات الدولية المفروضة على بغداد، وتبدأ بعدها محادثات بين العراقوالكويت لتسوية المسائل العالقة بينهما برعاية المملكة العربية السعودية ومصر وإشرافهما. لكن البيت الأبيض رفض هذه الخطة وكان رأي واشنطن ان مثل هذا النوع من الاقتراحات، خصوصاً من جانب موسكو، يهدف قبل كل شيء الى محاولة ضرب وحدة التحالف الدولي ضد العراق. ويبدو لي ايضا انه كان هناك عامل آخر منع القيادة العراقية من رؤية الأمر الواقع على حقيقته، ومن سحب قواتها في الوقت المناسب، وهو الاهتمام الزائد الذي أبدته أطراف دولية عدة بوجهة النظر العراقية خلال الفترة ما بين اب اغسطس وكانون الأول ديسمبر 1990. وعلى سبيل المثال، قامت فرنسا في تلك الفترة بنشاط ديبلوماسي كبير مع بغداد لم يكن في رأي واشنطن منسجماً تماماً مع الموقف الدولي. وكانت تصرفات الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك بيريز ديكويار تثير بدورها بعض التساؤلات. حتى الولاياتالمتحدة نفسها ظلت تسعى حتى اللحظة الأخيرة الى تجنب اللجوء الى القوة المسلحة. وبدا واضحا لي في تلك الفترة ان الرئيس الاميركي وأقرب المقربين اليه كانوا، على رغم لهجتهم الخطابية المتشددة، يشعرون بقدر غير قليل من القلق الداخلي حيال ما قد تنقلب اليه نتائج أي عملية عسكرية ضد العراق. وكان الرئيس بوش مستعداً حتى في كانون الثاني يناير 1991 لاستقبال وزير الخارجية العراقي طارق عزيز في البيت الأبيض. هذه كلها شكلت، في نظري، مؤشرات مضللة أساءت بغداد فهمها، واعتبرتها دلائل على عدم جدية التحالف في خوض الحرب. ولو كانت الديبلوماسية العراقية محسوبة بصورة أدق وأكثر مرونة في ظروف الهرج التي سادت على مستوى السياسة الدولية آنئذ، لكان بوسعها الاستفادة من عدم رغبة العالم في شن نزاع مسلح آخر في فترة كانت الحرب الباردة آيلة الى الأفول، ولكان في وسعها الخروج من الأزمة من دون إراقة لماء وجهها. لكن الأمور لم تأخذ ذلك المنحى، فكانت الحرب". القصيبي: كذب المنجمون تصرفات صدام حسين وقراراته في تلك الأيام الحرجة من صيف 1990 لم تثر حيرة واشنطن ولندن وباريس وموسكو فحسب، بل كانت مدار لغط وغموض في العواصم العربية أيضاً، خصوصاً تلك التي نظرت الى غزو الكويت منذ اللحظة الأولى باعتباره كارثة كبرى لحقت بالوضع العربي، وانقلاباً كاملاً على أسس العلاقات الخليجية والعربية. وقد لا تكون هناك حاجة إلى التذكير بأن شن "عاصفة الصحراء" لم يكن ليتم لولا اقتناع السعودية في مرحلة مبكرة بأن أي مساع سياسية لتأمين انسحاب العراق من الكويت سلمياً لن تجدي، وأن صدام يراهن على امكان تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية واستراتيجية تتجاوز حدود الكويت. وهذا الأمر لم يكن مقبولاً، كما ان الرضوخ له لم يكن وارداً من وجهة نظر الرياض. وكما يقول الأمير خالد بن سلطان في كتابه "مقاتل من الصحراء"، فإن هذا الاقتناع بالذات كان الأساس وراء القرار التاريخي الذي اتخذه خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز باجماع أركان القيادة السعودية داعياً القوات الشقيقة والحليفة والصديقة من عربية واسلامية ودولية الى المشاركة في الدفاع عن أمن المملكة وأراضيها ضد التهديد العراقي، ثم اخراج القوات العراقية من الكويت واعادة حكومتها الشرعية. ويؤكد الدكتور غازي القصيبي سفير المملكة لدى بريطانيا الذي عايش تفاصيل تلك الفترة الحرجة وكان على صلة وثيقة بما دار خلالها من اتصالات ومساع وما اتخذ فيها من قرارات، ان هذا الاقتناع الذي توصلت اليه القيادة السعودية كان نتج من أسباب ومبررات عدة أدت الى استبعاد احتمال موافقة بغداد على الانسحاب سلمياً من الكويت، وقال في اجابته عن سؤال "الوسط": "التنبؤ ليس من شأنه سوى ان ينقلنا من عالم السياسة والتاريخ والوقائع الى عالم المنجمين. وأي مراقب يسقط في هذا الشرك يتحول، شاء أو لم يشأ، الى "بصارة". لكن الواقع عكس ذلك، ففي اتصالات سياسية عدة على أعلى المستويات خلال فترة الاحتلال، لم يحن بعد وقت الكشف عنها، أعرب صدام حسين صراحة عن اعتقاده الجازم بأن الانسحاب من الكويت من دون معركة كان سيؤدي الى أن ينقلب الجيش العراقي العائد من الكويت عليه. وفي رأيي ان صدام أقدر من الجميع على تحديد المخاطر التي تهدد بقاءه في السلطة. وما دام مقتنعاً بأن الانسحاب من الكويت كان سيؤدي الى اطاحته، فإن لنا أن نستنتج أن خيار الانسحاب لم يكن وارداً في ذهنه. وبما ان القرار لم يكن وارداً لديه، وهو وحده الذي كان يستطيع اتخاذ قرار كهذا، فمعنى ذلك ان الانسحاب لم يكن مطروحاً على الاطلاق. اما إذا كان علينا أن نفترض ونتكهن بما اذا كان هناك أي أمل واقعي في تحقيق الانسحاب العراقي من الكويت قبل الحرب، فإن الجواب بنظري: لست أدري... ولا المنجم يدري!" طلاس: أخطاء صدام القاتلة ربما كان الموقف الذي اتخذته سورية إبان أزمة الخليج من أكثر المواقف العربية والدولية اثارة للاهتمام. فعلى رغم التحفظات المبدئية التي كانت لدمشق على فكرة انتشار قوات أميركية ودولية في المنطقة، والقتال ضد دولة عربية أخرى، بمعزل عن الموقف من القيادة السياسية الحاكمة في تلك الدولة، فإن الموقف السوري كان حازماً في تحديده لأسباب الأزمة ولهوية المتسببين فيها. من هذا المنطلق، شددت سورية منذ البداية على مسؤولية النظام العراقي، وصدام بالذات، وتحميله وطأة العواقب الوخيمة لخطوته حيال الكويت ورفضه الانسحاب منها قبل فوات الأوان، ما أدى في نظر دمشق الى زج المنطقة العربية برمتها في أتون كارثة سياسية واستراتيجية واقتصادية كبرى، وأضعف الموقف العربي الشامل خصوصاً في مواجهة اسرائيل، وأزاح الاهتمام بما تعتبرها القيادة السورية "قضية العرب الأولى". وفي هذا الاطار لم تتردد دمشق في دعوة صدام مراراً الى الانسحاب وتجنيب المنطقة الحرب. لكنها لم تتردد، في المقابل، في الانضمام الى التحالف العربي والدولي والمشاركة الفعالة في تحرير الكويت بعدما أيقنت أن صدام لا ينوي سحب قواته سلمياً. وزير الدفاع السوري العماد مصطفى طلاس شرح ل "الوسط" الطريقة التي قوّمت بها سورية الموقف: "إذا انسحب صدام حسين من الكويت قبل اندلاع الحرب من دون أي شروط، لأربك خطط الادارة الأميركية التي كانت تريد السيطرة على الثروات النفطية في الخليج باعتبار ذلك هدفاً استراتيجياً يأتي عندها في المرتبة الأولى. كما ان أميركا كانت تريد، من خلال توجيه الضربة الى القوات العراقية في الكويت، ان تُفهم حلفاءها، خصوصاً المانيا واليابان، انها تجاوزت عقدة فيتنام، وانها صاحبة القرار في العالم في مرحلة ما بعد الحرب الباردة وبداية تفكك الاتحاد السوفياتي. وتأكيداً لما ذكرت، فإن أميركا أبقت على نظام صدام في بغداد مع أن قواتها كانت قادرة على اطاحته عندما وصلت الى منطقة السماوة داخل العراق، وأصبح وصولها الى بغداد من هناك قاب قوسين أو أدنى. لكن التعليمات جاءت من واشنطن بوقف التقدم والإبقاء على صدام في السلطة ليظل العراق ضعيفاً ومحاصراً ولتظل المنطقة مهددة. ونحن نعتبر ان الفرصة كانت موجودة ومتاحة لصدام لأن ينسحب بشرف. وأتته مثل هذه الفرصة على طبق من فضة في الرسالة التاريخية التي وجهها اليه الرئيس حافظ الأسد في 12 كانون الثاني يناير 1991 ودعاه فيها الى الانسحاب من الكويت فوراً، وانه إذا نفذ هذا القرار فإن القوات السورية ستكون الى جانبه، وستقاتل كل من يحاول أن يمس سيادة العراق على ترابه الوطني. لكن صدام أخذته العزة بالإثم، وبدلاً من أن يستمع الى النصيحة مضى في طريق الضلال حتى كسر ظهر الأمة العربية في "أم المعارك". ولا بد من التنويه بفن ادارة الأزمات الذي تمتع به الرئيس الأميركي السابق بوش الذي كان يبدو أنه يعرف سلفاً ردود فعل صدام على أي موقف، وكان يدفعه من حيث لا يدري الى اتخاذ القرار الخاطئ. لذلك جاءت ردود فعل صدام سلسلة من الأخطاء القاتلة التي جعلت العراق يعيش هذه المأساة التي تدمي قلب كل عربي. وعوضاً عن عراق قوي يكون ظهيرنا في مواجهة اعدائنا، حوّل صدام العراق كياناً ضعيفاً مهدداً بالتقسيم والتفكك عندما تسمح الظروف الاقليمية والدولية بذلك". عبدالمجيد: لا تعليق! الى جانب المملكة العربية السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي وسورية، كانت مصر بدورها ركناً أساسياً في التحالف العربي والدولي الذي وقف بوجه الغزو العراقي. وركز الموقف المصري منذ بدايات الازمة على التحذير من مخاطر الخطوة العراقية والمآسي التي ستترتب عنها، ووجه دعوات متكررة الى ضرورة انسحاب صدام من الكويت تلافياً للكارثة، مع تشديده في المقابل على اخراج القوات العراقية بشتى الوسائل في حال انتفاء امكانات التسوية السياسية، وهو ما حصل في نهاية المطاف. لكن الدكتور عصمت عبدالمجيد ألأمين العام للجامعة العربية الذي كان وزيراً للخارجية المصرية إبان الأزمة فضّل عدم الاجابة عن السؤال الذي طرحته عليه "الوسط"، واكتفى بالقول "هذا سؤال افتراضي، وأنا لا أحب أن أجيب عن اسئلة تفترض حدوث أمور لم تحدث في الواقع". النسور: موقف الأردن إذا كانت الدول العربية والاسلامية التي حزمت أمرها واتخذت ابان الأزمة قرارها التاريخي بالمشاركة في التحالف لاخراج العراق من الكويت، واضحة في نظرتها الى ما كان ينبغي عمله آنذاك، وحاسمة في موقفها الذي اعتبر أن صدام هو المسؤول الأول والأخير عن أزمة الخليج والعواقب التي نجمت عنها، فإن الموقف الأردني ظل في المقابل على امتداد مراحل تلك الأزمة وفي أعقابها يثير كثيرا من التساؤلات. وفيما تحرص المصادر الأردنية الرسمية على التأكيد أن عمّان كانت ضد الغزو العراقي للكويت من حيث المبدأ، وان جوهر سياستها في تلك الفترة كان يتركز على ضرورة تجنب اللجوء الى استخدام القوة والتوصل الى مخرج سياسي من المأزق، ساد شعور في كثير من عواصم التحالف بأن موقف الأردن كان مؤيداً لبغداد وأن قراره عدم الانضمام الى التحالف، بل توجيه الانتقادات اليه والى أهدافه، دليل على ذلك. ولكن هل كانت عمّان مقتنعة في ذلك الوقت بأنه كانت هناك فرصة لم تستغل لانسحاب عراقي من الكويت؟ وما الذي حملها على الاعتقاد بذلك؟ وماذا كان سيحدث - في نظر الأردن - إذا أقدمت بغداد على تلك الخطوة؟ "الوسط" طرحت هذه التساؤلات على الدكتور عبدالله النسور الذي تولى وزارة الخارجية الأردنية خلال الفترة ما بين نهاية حرب الخليج ومؤتمر مدريد للسلام في تشرين الثاني نوفمبر 1991، ثم أصبح رئيساً للجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأردني حتى عيِّن الاسبوع الماضي وزيراً للتعليم العالي في الحكومة الأردنية الجديدة. فأجاب: "لم تكن حرب الخليج لتقع لو انسحب الجيش العراقي من الكويت قبل المهلة المحددة. وهذا الرأي ليس مبنياً على تخمين أو حدس، بل على شواهد عدة نملكها اليوم ولم نكن نملكها من قبل. آخرها حديث الرئيس الأميركي السابق جورج بوش في الذكرى الخامسة لاندلاع الحرب، والذي قال فيه انه كان متخوفاً من انفراط عقد التحالف الدولي لو تابعت قوات التحالف تقدمها باتجاه بغداد، وأيده كل من وزير خارجيته جيمس بيكر في مذكراته، ورئيس الأركان الأميركي السابق الجنرال كولين باول. المسألة الثانية التي تبرر هذا الاقتناع التململ الذي كان سيشعر به الاتحاد السوفياتي قبل انفراطه فيما لو شن التحالف الحرب على رغم انسحاب العراق. اما السبب الثالث فهو في نظري ان الدول العربية لن تجد مبرراً المواجهة مع العراق حال انسحابه من الكويت. وكانت هناك مبادرات وعروض عدة، كان من شأنها الحيلولة دون الحرب، لكن القيادة العراقية رفضتها. أبرزها المبادرة الفرنسية التي تطورت في الأيام الأخيرة عشية نهاية المهلة المحددة آنذاك، والجولات التي قام بها العاهل الأردني الملك حسين خلال تلك الفترة في أوروبا الغربية والمغرب العربي وعاد بعدها مقتنعاً بأن الحرب لن تقع إذا قبل العراق عروض الانسحاب. وناشد الملك حسين بغداد قبول مبدأ الانسحاب لحل الأزمة سلمياً لكنها لم تفعل، فكان ما كان. وشن التحالف الحرب التي أدت الى اخراج العراق من الكويت بالقوة".