عقب احتلال القوات العراقيةالكويت في آب أغسطس عام 1990 وفيما كانت الولاياتالمتحدة منهمكة في صياغة "تحالف دولي" لاخراج الجيش العراقي من الدولة الخليجية المجاورة، زار يفغيني بريماكوف بغداد لاقناع الرئيس صدام حسين بالخروج من الكويت لقطع الطريق على الحرب. وكان بريماكوف آنذاك يستند الى الإرث السياسي للاتحاد السوفياتي السابق وتحالفاته الاستراتيجية في الشرق الأوسط. لذلك كان عليه المرور في دمشق للتشاور مع "الحليف الاستراتيجي" لموسكو قبل السفر الى بغداد. وخلال لقائه الرئيس حافظ الأسد في دمشق، فوجئ بريماكوف بالرئيس الراحل يقول: "قل للرئيس صدام ان الضربة قادمة لا محالة في حال بقي في الكويت، لذلك يجب عليه ان ينسحب ونحن نتكفل حفظ ماء الوجه للعراق. وفي حال ضرب الجيش العراقي لدى انسحابه فإننا سنكون مع العراق في خندق واحد". لم يصدق المسؤول الروسي هذا الكلام، ومع انه يتكلم العربية بطلاقه وعاش طويلاً في الشرق الأوسط قبل ان يصبح رئيساً لجهاز الاستخبارات في موسكو ورئيساً للوزراء، أعاد على المترجم ما سمعه للتأكد من أنه فهم بدقة ما كان يقوله الرئيس الأسد وتضامنه مع غريمه السياسي صدام حسين، ثم عاد الرئيس السوري الراحل وكرر شيئاً مماثلاً في خطاب علني وجهه الى الشعبين السوري والعراقي قبل "عاصفة الصحراء" مطلع عام 1991. لم تكن الرسالة السورية الوحيدة التي لم تصل الى بغداد، بل ان رسائل عربية عدة وأخرى من حلفاء العراق قابلها النظام العراقي بالإهمال لعدم ادراكه بدقة المتغيرات السياسية الدولية والاسقاطات الاقليمية لها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي والكتلة الشرقية وبداية ترؤس الولاياتالمتحدة ل"نظام عالمي جديد". في المقابل كان النظام السوري أكثر حنكة في قراءة ما حصل وتصرف بمنتهى الديبلوماسية لمواجهة رياح التغيير التي هبت على حلفاء الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية. فبدأ يبحث عن مكاسب سياسية في الانخراط في أي "حلف دولي" تصيغه الولاياتالمتحدة. وخلال لقائه الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الأب، تمكن الأسد من الحصول على ضمانات قبل ارسال قوات سورية الى الكويت للمشاركة في تحريرها. وحسب المعلومات المتوافرة، فإن الرئيس الأسد أبلغ نظيره الأميركي لدى لقائهما في جنيف: "نريد ضمانات لوحدة العراق وسيادته على أراضيه. ونريد تأكيدات ان ما يجري هو لتحرير الكويت فقط وليس لغزو العراق". وبالفعل هذا ما حصل لاحقاً عندما توقفت القوات الدولية عن اجتياح العراق بعد اخراج الجيش العراقي من الكويت، وعندما رفضت القوات السورية دخول الأراضي العراقية. ويعتقد خبراء ان الانخراط السوري حقق: أولاً، دعم الولاياتالمتحدة للوجود السوري في لبنان و"ضوءاً أخضر" للقضاء على العماد ميشال عون الذي أعلن "حرب تحرير" ضد سورية. وثانياً، الحصول على وعد من الإدارة الأميركية بإطلاق عملية سلمية بين العرب والاسرائيليين على أساس مبدأ "الأرض مقابل السلام" والقرارين 242 و338، الأمر الذي حصل في مؤتمر مدريد للسلام في نهاية 1991. وثالثاً، ضمان الدعم الأميركي وتجنيب دمشق مخاطر التغييرات التي حصلت في دول أوروبا الشرقية. ومن حيث الشكل تبدو تلك الحقبة مماثلة لهذه المرحلة: أولاً، الولاياتالمتحدة تتزعم العالم وتريد فرض هيمنتها والانتقام لأحداث 11 أيلول سبتمبر الارهابية. وهناك متغيرات دولية كبيرة ناتجة عن ذلك. ثانياً، ان مفاوضات السلام السورية - الاسرائيلية مجمدة نهائياً وعملية السلام ماتت بما في ذلك اتفاق أوسلو وليد مؤتمر مدريد للسلام. ثالثاً، هناك دعوات لبنانية تمثلت في مؤتمر عقد في لوس انجيليس ضد الوجود السوري. لذلك، فإن السؤال يطرح: هل تميل سورية للعاصفة وتكون براغماتية كما كانت في بداية العقد الماضي؟ أي هل تغير موقفها في اللحظة الأخيرة بعد كل هذا التصعيد لدعم العراق؟ الجواب هو: لا. ولكن لماذا؟ أحد الأسباب يتعلق بتركيبة الإدارة الأميركية ذاتها التي لا يبدو انها تملك "الرؤية" العملية وليس الكلامية لتقديم مبادرة في الشرق الأوسط تضمن دعم الأطراف العربية واسرائيل للدخول في مفاوضات على أساس مبدأ "الأرض مقابل السلام" والبناء على ما تحقق في عقد من المفاوضات. ولا تبدو ادارة بوش الابن في صدد ممارسة الضغط على رئيس الوزراء الاسرائيلي اليميني آرييل شاورن، كما فعل بوش الأب عندما مارس الضغط على رئيس الوزراء اليميني اسحق شامير للدخول في علمية السلام. كما ان "الحرب الأميركية على العراق" المنتظرة لا تحظى بدعم دولي من قبل الدول الكبرى في العالم. وفيما تنوي موسكو توقيع اتفاق اقتصادي بقيمة 40 بليون دولار ليكون "صفقة العمر"، يواجه رئيس الوزراء البريطاني توني بلير صعوبات داخلية للحصول على دعم لموقفه المؤيد لضرب العراق. وهذا يعرقل الحصول على شرعية دولية في مجلس الأمن للعمليات الأميركية المتوقعة. يضاف الى ذلك، ان العلاقات السورية - العراقية ليست بالجمود نفسه الذي كانت عليه قبل 12 عاماً. إذ ان هناك الآن شبه "تحالف استراتيجي" يشمل التعاون الاقتصادي والأمني والسياسي والتجاري ويخدم مصالح البلدين. كما ان التقارب الذي بدأ عام 1997، جاء الرئيس السوري بشار الأسد ليحوله الى تعاون أعمق متجاوزاً الخلافات العقائدية بين جناحي "البعث" الحاكم في بغدادودمشق و"الكره" بين أجهزة في الطرفين والإرث الشخصي بين مسؤولين في البلدين، اضافة الى تعاطف سوري كبير مع معاناة الشعب العراقي التي تتزامن مع معاناة مؤلمة للشعب الفلسطيني. كانت سورية تشعر انها مستهدفة في بداية التسعينات لذلك لجأت الى التحالف مع الولاياتالمتحدة. وهي تشعر الآن انها مستهدفة ويعتقد خبراء انها ربما تكون الهدف الثاني بعد العراق. وكي تتجنب الضغط لجأت الى أسلوبين: الأول، تبادل المعلومات الأمنية مع الاستخبارات الأميركية ضد ارهاب تنظيم "القاعدة" الذي يعتبر تاريخياً عدواً أساسياً للنظام السوري في اطار معاداة التطرف الديني - الإسلامي، وحسب المسؤولين السوريين والأميركيين، فإن هذا التعاون أحبط عمليات ارهابية كانت ستستهدف مواقع عسكرية أميركية في الخليج. وفي الأسلوب الثاني وسعت قاعدة تحالفها السياسي مع العراق والقوى المعارضة للولايات المتحدة مثل "حزب الله" والمنظمات الفلسطينية المقاومة. كما انها باركت الموقفين السعودي والمصري المعارضين للضربة الأميركية للعراق. وأعلنت تضامنها مع هاتين الدولتين في مواجهة الضغوط الأميركية. وهناك قناعة سورية كبيرة بأن المخطط الأميركي أكبر من تغيير نظام صدام ليصل الى مستوى اقامة "نظام اقليمي أمني وسياسي" كبير في الشرق الأوسط، إذ قال وزير الإعلام عدنان عمران ان "الوطن العربي مستهدف. ولو أمكن لأعلنوا العودة الى الاستعمار الذي ساد في النصف الأول من القرن الماضي للسيطرة على ثروات المنطقة". وسواء كان ذلك سيتضمن اقامة دولة كردية في شمال العراق أو اقامة نظام حليف لواشنطن في بغداد فإنه يدخل في المصالح الاستراتيجية لسورية ما يؤكد صعوبة أو استحالة "الانقلاب" في اللحظة الأخيرة.