في كتابه "الحرب التي كان بالمستطاع تجنبها"، يروي يفغيني بريماكوف أسرار محادثاته مع صدام حسين يوم ارسله الرئيس ميخائيل غورباتشوف لإقناع الرئيس العراقي بسحب قواته من الكويت. وهو يعترف بأن المهمة كانت صعبة جداً بسبب صلابة موقف صدام حسين، وعدم اكتراثه بمخاطر الأزمة العالمية الناشئة عن الاحتلال. ويقول بريماكوف إنه استغل علاقته القوية السابقة بأركان "حزب البعث" إبان عمله في المنطقة كمراسل ل"البرافدا"، لكي يقدم وساطته من موقع الحرص على حماية النظام وسلامة الجيش. ويذكر في الكتاب تفاصيل النقاش الطويل الذي شارك فيه طارق عزيز قبل أن يوافق الرئيس العراقي على بحث مبدأ الانسحاب عقب ابلاغه بحجم الضربة العسكرية التي تهيئ لها الولاياتالمتحدة. واشترط صدام لتبرير عملية التراجع أن يكون انسحاب قواته من الكويت ثمناً لانسحاب إسرائيل إلى حدود 1967… ولانسحاب سورية من لبنان أيضاً. يذكر بريماكوف أن صدام استعمل مرات عدة تعبير "الانتحار السياسي" في حال أمر قواته بالانكفاء من دون أن يجني مقابل ذلك مكاسب ملموسة على صعيد القضية القومية. وحمل الوسيط الاقتراح العراقي إلى واشنطن متسلحاً بالحل السياسي الذي عرضه جورج بوش الاب على غورباتشوف في مؤتمر هلسنكي. واستغرق اجتماعه بالرئيس بوش مدة ساعتين أحاله بعد ذلك على دينيس روس باعتباره المسؤول عن القضايا المتعلقة بأزمة الشرق الأوسط. ولم يستمر اللقاء أكثر من نصف ساعة لأن روس كان سلبياً في تعامله مع العرض العراقي، وقال إنه يرفض مبدأ المقايضة لئلا يشعر صدام حسين بأن واشنطن تكافئه على عملية الغزو. قبل أن يعود بريماكوف إلى موسكو اتصال به غورباتشوف ليطلب منه التوقف في لندن لعل رئيسة الوزراء مارغريت ثاتشر تكون أكثر ليونة وأشد تجاوباً مع الاقتراح… ويعترف الوسيط أنها خيبت أمله عندما انتقدت تدخل موسكو لئلا يفسد عملها الديبلوماسي قوة الاندفاع التي تستقطب دول التحالف. وأخبرته أنها تتعاون مع الرئيس بوش "لقصم ظهر صدام وتدمير جيشه وترسانته ومصانعه الحربية". ولاحظ أنها كانت منفعلة وهي تتحدث عن النظام العراقي وتهدد بالخيار العسكري لأنه في نظرها، الخيار الوحيد الذي يقنع العراق بالانسحاب من الكويت. في فصل آخر، يشير بريماكوف إلى لجوء بلاده إلى مجلس الأمن كخيار ثالث استخدمته موسكو لمنع الحرب. وفي الأممالمتحدة حاول هو اقناع ممثلي الدول المعنية بأهمية تأجيل تنفيذ القرار 678 الصادر في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر لعل الوسائل الديبلوماسية تنجح في ايجاد تسوية مرضية لمختلف الأطراف. ولكنه فوجئ بحسم الموضوع عسكرياً كأن مناقشات مجلس الأمن لم تكن أكثر من غطاء سياسي استعمل بهدف إطالة الوقت ريثما تستكمل قوات التحالف استعداداتها. ويخلص بريماكوف في كتابه إلى استنتاج مفاده أن قرار الحرب اُتخذ قبل اطلاق المساعي الديبلوماسية، وان الخيار السياسي لم يستنفد يوم قررت واشنطنولندن اعتماد الخيار العسكري! المسرحية الدولية ذاتها تكررت بواسطة جورج بوش الابن وزعيم حزب "العمال" البريطاني توني بلير. والدليل أنهما استخدما جلسات مجلس الأمن طوال فترة زمنية تتعدى الثلاثة أشهر لكي يتسنى لقوات بلديهما الانتشار حول العراق وتأمين نقل الأسلحة والأعتدة الضرورية. ويبدو أن ممثلي الدول المعارضة للحل العسكري مثل فرنسا والمانيا وروسيا وسورية، قد اكتشفوا لعبة التضليل والابتزاز، الأمر الذي دفعهم إلى تعديل صيغة القرار 1441 بطريقة لا تسمح باستخدام القوة المسلحة. ولما جرى التصويت على الصيغة المعدلة خرج سفيرا الولاياتالمتحدةوبريطانيا من القاعة ليواجها الصحافيين ويعلنا خلو القرار من أي نص يجيز الحرب. وهذا ما شجع مندوب سورية ميخائيل وهبة على الموافقة، لأن العراق أعلن الامتثال إلى فرق التفتيش من دون شروط. وكان من المنطقي، كما قال وزير الخارجية فاروق الشرع، أن يؤدي تعاون العراق إلى تجنب استخدام القوة. بل هذا ما أكده الرئيس الفرنسي جاك شيراك الذي تمنى على بغداد مساعدة المفتشين على تنفيذ مهمتهم، معتبراً أن هذا الشرط يجنب العراق والمنطقة حرباً غير معروفة العواقب. إثر فشل واشنطنولندن في الحصول على تسعة أصوات داخل مجلس الأمن، إضافة إلى تهديد فرنسا وروسيا باستخدام حق الفيتو، لمس الرئيسان بوش وبلير أن القرار الثاني يصعب تمريره، لذلك اعتمد الرئيس الأميركي على اجتهادات وزراء إدارته الذين اكتشفوا أن القرارات الصادرة سنة 1991 - وخصوصاً القرار 678 - تسمح باستعمال القوة إذا رفض العراق التقيد بالالتزامات. ولكن هذا التفسير لم يطمئن المحامي توني بلير لأن بلاده موقعة على المحكمة الجنائية الدولية، الأمر الذي يعرضه للمحاكمة في المستقبل. ولكي يتحاشى هذا الاحتمال، طلب من مستشاره القانوني اللورد بيتر غولدسميث اصدار دراسة بهذا الشأن. وجاءت نتيجة الدراسة لتمنح بلير المبرر القانوني بحجة أن العراق خرق الالتزامات المنصوص عليها في القرارات السابقة، وان القرار 1441 لا يجوز تطبيقه بمعزل عن القرار 678. استقالة وزير شؤون الحكومة في مجلس العموم روبن كوك فتحت باب النقاش على صفحات الجرائد بطريقة غير مألوفة. والسبب أن كوك اعطى استقالته أبعاداً سياسية خطيرة وصفها بأنها احتجاج على تجاوز الأممالمتحدة، وعلى التزامات بريطانيا نحو شراكة الحلف الأطلسي، وعلى استخدام القوة من دون قرار دولي. وقال أيضاً إن إسرائيل رفضت تطبيق القرار 242 منذ 35 سنة، وان المجتمع الدولي عجز عن معاقبتها. وتساءل كيف تتعاطى بلاده مع الأزمات بمعيارين ومكيالين. ويتردد في لندن أن توني بلير ارتاح لخروج كوك من حكومته، لأن إسرائيل طالبت باقصائه يوم كان وزيراًَ للخارجية وتعمد الإشادة بياسر عرفات. وردت إسرائيل في حينه على هذا الموقف بإلغاء الحفلة التي كان من المفروض أن تقام على شرفه. وفي مطلق الأحوال، فإن استقالة كوك وزميليه الوزيرين اللورد فيليب هنت وجون دينهام قدمت أفضل الأمثلة على مقاومة قرار الحرب من قبل وزراء في الحكومة وعدد كبير من نواب الحزب الحاكم. وحجتهم ان الحرب غير مبررة أخلاقياً وقانونياً لأن الصيغة اللغوية للكلمات المُنتقاة في القرار 1441 اختيرت بدقة وعناية لكي تضمن موافقة اجماع الأصوات في مجلس الأمن. وكان من الصعب الحصول على الاجماع لو أن القصد من عبارة "كل الوسائل الضرورية" يعني استخدام القوة المسلحة. والجدير بالملاحظة أن الولاياتالمتحدةوبريطانيا أجريتا بعض التعديل على نص القرار الثاني، بحيث يخدم قرار الحرب. والمسودة المعدلة تقول إن العراق فشل في اقتناص الفرصة الأخيرة التي وفرها له القرار 1441. لكن التقرير الذي قدمه بليكس يوم الثلثاء الماضي يناقض هذا المنطق ويؤكد نجاح مهمة فرق التفتيش. في ضوء هذه الخلفية، تظهر عملية شن الحرب ضد العراق كمغامرة عسكرية لا تملك شرعية مجلس الأمن ولا المبررات الأخلاقية والمعنوية والقانونية الضرورية لتغطية قرار الاعتداء. والمؤكد أن الرئيس بوش لم يكن يتوقع أن يحدث استهتاره بالأممالمتحدة ردود فعل غاضبة بحجم الردود التي عبر عنها البابا واسقف كانتربري وكوفي أنان وجاك شيراك وفلاديمير بوتين وغيرهارد شرودر، خصوصاً أن المنطق الدي استخدمه بوش لضرب العراق مستمد من المنطق الذي استعمله مناحيم بيغن لضرب المفاعل النووي العراقي سنة 1981، أي اللجوء إلى الضربة الوقائية الاستباقية للحؤول دون وقوع ضرر قد يحدث. وهذا ما عناه في خطابه الأخير عندما قال إنه يرسل جنوده إلى العراق لمحاربة شر موجود قبل أن تضطر الشرطة إلى محاربته في شوارع المدن الأميركية. ويرى الرئيس الفرنسي في هذا المقياس السياسي خروجاً على القوانين الدولية وعودة إلى نزاع عصابات "المافيا" التي أرعبت المدن الأميركية في الثلاثينات والأربعينات. يعترف الرئيس جورج بوش أن حربه الاستباقية على العراق لا تهدف إلى الهيمنة على الثروة النفطية، بل إلى بناء شرق أوسط جديد خالٍ من الأنظمة الديكتاتورية، ومؤيد للتحديث والديموقراطية. وكي يحقق هذا الهدف لا بد من إعلان حرب تطهير تزيح صدام حسين وأعوانه بالقوة، ثم تستبدلهم بعناصر قادرة على إعادة ترتيب أوضاع المنطقة على نحو ترضى عنه إسرائيل. ويبدو أن الرئيس بوش مقتنع بأن مقتل صدام حسين سينهي الحرب ويمهد لانقلاب وعدت بإجرائه كوادر حزبية داخلية. وبناء على تعليمات هذه الكوادر، اطلقت القوات الأميركية أول صواريخها على موقع قيل ان صدام حسين يأوي إليه. وسرت إثر هذه العملية اشاعات تفيد أن صدام قتل. وربما كان القصد من وراء نشر مثل هذا الخبر اطلاق الذعر والفوضى بحيث تؤدي حال الهيجان إلى زعزعة الأمن داخل بغداد. من هنا شددت نشرات الأخبار صباح الخميس على التشكيك بشخصية صدام، معتبرة أن الذي قرأ الخطاب هو بديل الرئيس العراقي، وان البيان سجل في السابق. وواضح من اعتماد اسلوب القصف خلال ساعات العتمة، أن القيادة المشتركة تتحاشى سقوط ضحايا مدنيين لئلا يستغلهم النظام في حربه الإعلامية، ويحرض الشارع العربي والإسلامي على التظاهر والاحتجاج. ومن المتوقع أن يلاقي هذا التدخل السياسي في القرار العسكري بعض الاعتراض لدى الضباط الذين يطالبون بالحسم خلال الأيام الأربعة الأولى، ولو أدى ذلك إلى سقوط عدد كبير من الأبرياء، وحجتهم أن الاعراض عن اتباع اسلوب القصف المدمر، سيطيل أمد المعركة ويجعل من ثلاثمئة ألف جندي عناصر مشلولة موزعة في الصحراء اللاهبة. وإضافة إلى هذا الشلل العسكري، ستستغل القوى المعارضة في أوروبا وآسيا والعواصم العربية هذا الوضع المتقلقل لاستنفار المتظاهرين وإثارة موجة اعتراض عارمة يصعب على بوش وبلير مقاومتها. عندئذ يتدخل جاك شيراك لإنقاذ جورج بوش، تماماً كما تدخل الرئيس شارل ديغول عام 1961 لإنقاذ الرئيس جون كينيدي من ورطة كوبا! * كاتب وصحافي لبناني.