من شاهد فيلم "الارهابي" من بطولة عادل إمام ويسرا، سيجد أن حبكة مسرحية "الجنزير" للكاتب المسرحي محمد سلماوي لا تحمل جديداً بالنسبة إليه، على الرغم من كونها رأت النور، كنص مكتوب، في العام 1992 ونشرت في مجلة "القاهرة" قبل أن تصدر في كتاب خلال العام نفسه. أمّا فيلم "الارهابي" فأنجز في العام 1993 وكتب قصته المسرحي لينين الرملي، وتبودلت الاتهامات بشأنه بين سلماوي والرملي، فكلّ منهما يدّعي أنه صاحب فكرة السيناريو. وها هو نصّ سلماوي الذي يدور حول الصراع بين الحضارة، ممثلة في زهرة اللوتس، والارهاب، ممثلاً في الجنزير، يتجسّد أخيراً على الخشبة بفضل المخرج جلال الشرقاوي. ويشرح المؤلّف سبب تحوّل العنوان من "الزهرة والجنزير" إلى "الجنزير" كالآتي: "أقنعني الاصدقاء أن اسم الجنزير وحده سيوحي بالخطورة، وهذا هو المطلوب في هذه القضية". تنطلق حدوتة المسرحية من ارهابي يحتجز أسرة في منزلها، تنفيذاً لأوامر جماعته التي يريد الانضمام إليها، ويتّخذهم رهينة للافراج عن معتقلين من الجماعة على ذمة احدى القضايا الارهابية. وعند اندماجه مع الأسرة نكتشف أنه ضحية للتفكك الأسري، وأنه بدأ يشعر شيئاً فشيئاً بالتردد بين ايمانه بقضية نشر الدين بالعنف والانضمام إلى احدى جماعات العنف، واقتناعه بأن الأسرة التي يحتجزها أسرة طيبة: الجدّ عاش ثورة 1919 وتظاهر ضد الانكليز. والأب الغائب شارك في بناء السد العالي ابان الفترة الناصرية يخفي الكاتب الترميز المرحلي إلى حركة الزمن فلا يشير إلى حرب تشرين الاول/ أكتوبر. والأم تترأس إحدى الجمعيات الخيرية. أما الأبناء فأحدهم مدمن يهرب من واقعه، والبنت تدرس الآثار والحضارة المصرية القديمة وتهتم اهتماماً خاصاً بزهرة اللوتس. ولكن النص والمخرج لن يمنحاها قدراً كافياً على المستوى الدرامي والزمني لتلعب دور المعادل الموضوعي الموازن لفعل العنف لدى الارهابي، إذا استثنينا المشهد الوحيد الذي جمعهما معاً. وتتصاعد الأحداث عندما ترفض الشرطة الافراج عن الارهابيين، فتقرر الجماعة التخلص من الأسرة. وهنا يدخل الارهابي مرحلة الوعي والتردد القصوى بين العنف والوفاء إلى الأسرة حيث أنه فقد أسرته منذ طفولته. وهنا يقرر عدم الانصياع لأوامر الجماعة، والانتصار للأسرة وقيمها. ويسجّل لمحمّد سلماوي ابتعاده عن المبالغة في الفيلم الذي حوّل الارهابي إلى شاب مستهتر. في المسرحيّة يدخل الارهابيون ويغتالون البطل، وتقع مواجهة صراع مع الشرطة، ومع ذبول زهرة اللوتس تصرخ الام: "بلدي". نصّ ظلمه الزمن والنص الذي ظلمه الزمن، والتزمه الاخراج بحرفيّته، يتمحور حول الصالون الذي احتجز فيه المؤلف كل أبطاله. هكذا لم يبقَ أمام جلال الشرقاوي على قدرات الممثلين في نقل المشاعر. ونجح عبدالمنعم مدبولي في نقل احساسات الجد الغائب، ممزّقاً بين عظمة الماضي وهشاشة الحاضر. لكنّ الزمنين يتصالحان حين يموت فداءً عن الآخرين. أما وائل نور الذي يؤدّي بنجاح شخصيّة الابن المدمن، فيضيع مع ذلك بين ترنّح السكير وغيبوبة المدمن. وجاءت محاولات ماجدة الخطيب مفتعلة إلى حد ما في نقل احساسات الأم التي تغمر الارهابي بأمومتها بغية انتشاله من ضياعه، باعتباره ضحية وفي عمر ابنائها. ولم تفلح عزة بهاء في تأمين الثقل المطلوب بما يعادل حضور خالد النبوي، ربما لأن الحيّز الدرامي انحاز إلى الارهابي، وغابت عنه زهرة اللوتس التي وردت في مشهد واحد، بدلاً من استخدامها كرمز ضد القبح، ووسيلة للتعارف بين الابنة والارهابي الذي بدأ يشعر بها كانسان. كما أن بعض عناصر الاخراج حكمتها الظروف المادية لمسرح الدولة: في النص مثلاً يحطم الارهابي جهاز التلفزيون باعتباره كفراً. أما على الخشبة، ف "يصعب ذلك إذ أنّ الايراد اليومي للمسرحيّة هو 4100 جنيه، ولا يكفي ذلك لتحطيم جهاز تلفزيون، ولا حتى شاشة زجاجية"، بتعبير سامي خشبة مدير "البيت الفني المصري". الباز طالب بالمزيد وإذا استثنينا بعض المقطوعات الموسيقية القديمة والجاهزة التي رافقت لحظات استرجاع الماضي، فإن موسيقى العرض فشلت في اضفاء المناخات التي تتناسب مع المواقف المسرحية. كأن الشرقاوي اكتفى بتوتر خالد النبوي المبالغ، لاصراره على التعبير باللوم كما يحدث في السينما، وتجاوب ماجدة الخطيب مع هذا التوتّر بما يعادله. جذبت "الجنزير" جمهوراً لم يعتده مسرح الدولة منذ فترة لا بأس بها، وبين مشاهدي المسرحيّة أسامة الباز مستشار الرئيس المصري مبارك الذي أثنى على النص والاخراج والاداء، وطالب ب "المزيد من الاعمال الفنية التي تعالج قضية الارهاب من كل الوجوه". وتجدر الاشارة إلى أن نهاية المسرحيّة تشير إلى نظام التعليم الذي أدركه الخراب، والتفكك الأسري في الطبقة الوسطى في لحظة التحول الاقتصادي في السبعينات والثمانينات، وانتشار الادمان والظلم الاجتماعي، إضافة إلى آفة استغلال الدين من قبل الجماعات المتطرّفة، لتجنيد المواطنين السذّج. ولم تحاول المسرحية، المكتوبة في العام 1992، أن تدخل في قلب الجماعات مشرّحةً مفاهيمهم. بل تركت الأسئلة مفتوحة مع حركة النهاية وذبول زهرة اللوتس، رمز الحضارة المصرية التي صمدت لأعاصير الزمن 7 آلاف سنة، وتتعرض الآن للموت بسبب الارهاب. كأننا بمؤلف المسرحية يسأل: متى يستيقظ المجتمع، وتخرج "الاسرة" المصرية من ثباتها لتستردّ دورها وتدافع عن قيمها الأصيلة.