"لن ترتوي الأرض إلا بالدم، ستتحول الأنهار الى قطران، ويصير تراب البلاد كبريتاً وأديمها زفتاً، ستشتعل فيها النيران ليلاً ونهاراً، ويصعد منها الدخان الى أبد الآبدين.. سيرثها القنفد والكركي، والغربان.. ستسعى فيها الأفاعي وينعق فيها البوم.. ستجف مياه الأمطار والأنهار والآبار..".. انها نبوءة سالومي. تلك الكلمات التي حملت كراهية مطلقة للحياة، قالتها سالومي الأسطورية، التي اغتصبت عرش زوج الأم بتآمرها معها، بعد قتل النبي "يوحنا المعمدان".. في ذلك العرض المسرحي "رقصة سالومي الأخيرة" التي تعرض على خشبة المسرح القومي في القاهرة. ولعل هذا العرض قد يعيد للكثيرين من محبي المسرح الجاد فن الفنون الكثير من ذكرياتهم عن ليالي المسرح القومي التي خبت قبل سنوات، عندما كان للمسرح في مصر جمهور شديد التميز، يتذوقه، ويتابع عروضه، ويتفاعل مع قضاياه وممثليه، إبان عرض روائع مسرحية لكبار كتاب المسرح في مصر والعالم. والمؤكد أن عرض "رقصة سالومي الأخيرة" تأليف محمد سلماوي وإخراج هناء عبدالفتاح يعود بالمسرح المصري ثانية هذه الأيام، بعد أن جذبت القضايا الكبرى مبدعاً متميزاً محمد سلماوي وقد استغرقته من قبل قضايا الواقع الآني في مسرحيات مثل "الزهرة والجنزير" التي عرضت باسم "الجنزير"، ووجهت بشكل مباشر ضد الارهاب، وقبل ذلك مسرحية "اللي بعده"، ومسرحية "فوت علينا بكرة". وربما ذلك ما يجعلنا نشعر عندما نشاهد "رقصة سالومي الأخيرة" أنها تمثل امتداداً موضوعياً لمسرحيته السابقة "سالومي"، وهو ما أدركه المخرج هناء عبدالفتاح بعد أن وجد في النص فرصة مناسبة لإبراز قدراته التي شملت كل عناصر العرض، من ديكور، وموسيقى، وحركة ممثلين، وإضاءة. ولعل أهم عنصر من عناصر الجمال في العرض يتمثل في الممثلة الرائعة سهير المرشدي التي لعبت شخصية سالومي الشديدة التعقيد والتي امتزجت فيها الجاذبية بالصبا والأنوثة المتفجرة، والخبرة بالدهاء مع قدرة بارزة على وعي الدور والتعبير عنه. ولا يفوت المشاهد ذلك الخطاب المسرحي الذي قدمه الكاتب ويتمثل في أن النتيجة المحتمة للفساد والاستبداد تتمثل في ثورة المقهورين، وهو ما جرى عندما زاد القحط على المملكة فلسطين حيث اندفع المقهورون من كل جوانب المسرح مهاجمين القصر، والملكة التي كانت تسعى الى حتفها وفق قدرها من دون أن تستطيع التوقف عند نقطة معينة. عندها تقدم "سالومي" - سهير المرشدي - رقصتها الأخيرة بنفسها من دون الاستعانة براقصة أخرى. وكان عبدالمنعم مدبولي الملك المعزول هيرود يجسد ذلك القهر الذي وقع على الجميع، فكان يعبر عن رفضه على رغم أنه مسجون ومعزول ومتهم بالجنون. والملاحظ ان العرض أشاع نوعاً من الإبهار بين نفوس المشاهدين تبعاً للجانب الاستمتاعي للعرض عبر الفرجة والمعايشة لكل ما يدور لا على خشبة المسرح فقط وإنما في كل جوانبه. وتمثل ذلك في إجادة الممثلين وخاصة الوصيفات، وقد أبرز العرض الإمكانات المسرحية للفنان يوسف داود في دور رئيس مجلس الوزراء لاشين. ولا تفوتنا الإشادة بالموسيقى التي تخللت العرض، والتي أعدها الفنان المبدع راجح داود، كذلك الديكور الذي تلاءم مع زمن المسرحية العصر الروماني الذي جرت فيه الأحداث. ولا بد من التوقف قليلاً عند رؤية المخرج التي كانت تنضح في كل لحظات العرض، وبرزت في مواقف مختلفة، مثل استبعاده لكل ما هو مباشر وآني في النص، كما حدث في مشهد قذف الحجارة التي أراد منه المؤلف في النص الإشادة بثورة الحجارة. فالمشهد هذا يرتبط بالآني عند كتابة النص. والآني دائماً ما يتغير، وذلك هو ما وعيه المخرج، فتجاوز المباشرة، مما يؤكد أهمية رؤيته عند الإعداد للعرض، لاستكمال كل عناصره المناسبة. وفي ذلك نوع من تعميم العرض في الزمان والمكان، وهذا ممّا لا بد أن يأخذه في الاعتبار.