أصبح السيد عبدالحميد مهري أمين عام جبهة التحرير الوطني منذ بضعة أشهر، أبغض مسؤول حزبي على الإطلاق لدى السلطة وامتداداتها السياسية والاعلامية، فمساعي السلطة المباشرة وغير المباشرة تصب كلها في اتجاه واحد: الإطاحة بهذا الرجل من على رأس جبهة التحرير الوطني وهي المسؤولية التي أسندت إليه غداة أحداث تشرين الأول اكتوبر 1988 واستطاع ان يحتفظ بها رغم كل "الزوابع والأعاصير". وقد تجاوز التحرش بمهري "حدود اللياقة السياسية"، اثناء وبعد ملتقى روما الذي احتضن أهم أحزاب المعارضة الجزائرية يومي 21 و22 تشرين الثاني نوفمبر الماضي بمبادرة من جمعية "سانت ابجيديو" الكاثوليكية. لقد جندت السلطة ترسانتها الاعلامية، العامة والخاصة، كما جندت بعض رجالاتها - يتقدمهم السيدان عبدالحق بن حمودة أمين عام النقابة الوحيدة في الجزائر والشيخ أحمد حماني رئيس المجلس الاسلامي الأعلى - ليتهم الجميع وبصوت واحد السيد مهري "بالعمالة" و"الخيانة" و"العمل من اجل تدويل القضية الجزائرية"! ترى لماذا كل هذه التجاوزات اللفظية؟ وهل ضعفت حجة السلطة في مواجهة مهري الى هذا الحد؟! ان ملتقى روما لم يكرس فقط ظهور المعارضة الجزائرية لأول مرة بحجمها الحقيقي الهام على الصعيد الدولي، بل كرس أمراً آخر لا يقل اهمية: طلاق جبهة التحرير نهائياً مع الجهاز العسكري - الاداري الذي ما انفك يحكم البلاد منذ فجر الاستقلال سنة 1962. الخطوة الأولى في هذا الطلاق كانت أثناء "انتفاضة اكتوبر" 1988 وبعدها عندما بادر الجهاز العسكري - الاداري الحاكم الفعلي، بتحميل الجهاز السياسي المتمثل في جبهة التحرير، تبعات سنوات من الفساد وسوء التسيير والمظالم الاجتماعية، هذا الخليط الخطير الذي أدى الى "الانتفاضة" المذكورة. الطلاق بين الحزب والجيش وكان إقرار التعددية الحزبية بموجب المادة 40 من دستور 1989 التي تنص على حرية تكوين الجمعيات ذات الطابع السياسي، بداية فعلية لعملية الطلاق، تحت شعار "ابتعاد العسكر عن التحزب" و"حياد الجهاز الإداري". وقد تم تجسيد هذين الشعارين رمزياً في مناسبتين: الأولى، كانت سنة 1989 بانسحاب ممثلي الجيش من اللجنة المركزية لجبهة التحرير بحجة التفرغ للمهام العسكرية التقليدية المؤكدة في نص الدستور الجديد. الثانية كانت في ربيع 1990 عندما قرر رئيس الحكومة آنذاك السيد مولود حمروش وعدد من وزرائه الانسحاب من المكتب السياسي للجبهة. غير ان هذه التحولات راحت تدريجاً تكتسي دلالتين متباينتين: الدلالة الأولى وتترجم تحركات التيارات "اليسارية - البربرية" ذات النفوذ الواسع في اجهزة السلطة الفعلية وامتداداتها على الساحة الاعلامية والثقافية. ويمكن قراءتها على النحو التالي: إبعاد جبهة التحرير واستبدالها بتكتل "يساري - بربري" أكثر انسجاماً مع "السلطة الفعلية"، الممثلة اساساً في الجهاز العسكري - الإداري. الدلالة الثانية وتترجم رد فعل التيارات الوطنية على التحركات السابقة بقيادة السيد عبدالحميد مهري، وموافقة صهره الرئيس بن جديد ضمنياً. ويمكن قراءتها على النحو التالي: تحرير الدولة من هيمنة الجيش والادارة بواسطة الاحتكام الى الشعب الذي سيحقق التوافق بين السلطة الشرعية المنبثقة من صناديق الاقتراع والاجهزة التنفيذية المكلفة تنفيذ برنامج هذه السلطة. ومن نتائج هذا التحول، الفصل الحقيقي بين السلطات وإبعاد العسكر عن السياسة. تطورات فاجأت العسكر وجاءت التطورات اللاحقة للوضعية السياسية عموماً بمتغيرات ومستجدات معاكسة لتوقعات "السلطة الفعلية" الممثلة في الجهاز العسكري - الاداري. ويمكن رصد ذلك من خلال عمليتي الانتخابات و"الحوار الوطني". لقد كشفت الانتخابات المحلية في حزيران يونيو 1990 خطأ الرهان على التيارات "اليسارية - البربرية"، ووجود ظاهرة سياسية اسمها "الجبهة الاسلامية للانقاذ" التي ألحقت هزيمة فادحة بهذه التيارات، وبالواجهة السياسية القديمة للنظام وهي جبهة التحرير الوطني التي اكتفت بالمرتبة الثانية وبنصف النتائج التي حصل عليها "الاسلاميون". وتحولت الانتخابات التشريعية الى مواجهة مكشوفة بين جبهة التحرير والجهاز العسكري - الاداري لأول مرة منذ الاستقلال. فقد استدرج رئيس الحكومة آنذاك السيد أحمد غزالي - مدعوماً بالسيد علي كافي أمين عام منظمة المجاهدين - جهاز الحكم الى الرهان على قائمة "المرشحين الأحرار"، فكانت الكارثة الثانية بعد كارثة التيارات "اليسارية - البربرية" قبل سنة ونصف. لقد فاز الاحرار في الدور الأول من الانتخابات التشريعية 26 - 12 - 91 ب 3 مقاعد مقابل 188 لپ"الانقاذ" و25 لجبهة آيت احمد ممثل الجناح البربري المناصر لانسحاب الجيش من اللعبة السياسية و16 لجبهة التحرير الوطني. وكانت النتيجة السياسية لهذه الانتخابات بروز "الجبهات الثلاث" المناوئة للجهاز العسكري - الاداري الحاكم. أما النتيجة السياسية المهمة للحوار الوطني، على مستوى التحالفات، فتتمثل في ظاهرتين سلبيتين بالنسبة لجهاز الحكم: الأولى: انفصال التيارات "اليسارية - البربرية" عنه، بعد ان خيب آمال سعيد سعدي في الوصول الى رئاسة الحكومة، وبصفة خاصة بعد ان كشف عن بعض الاستعداد لمحاورة "الأصوليين الظلاميين" أمثال عباسي مدني وبلحاج. الثانية: تكتل الاحزاب الكبيرة المهمة ضده وفي مقدمتها "الجبهات الثلاث"، وهذا ما ظهر بجلاء في "ملتقى روما" الأخير. قنبلة مهري لكن لماذا أثارت مشاركة جبهة التحرير بالذات في هذا الملتقى غضب السلطة ونقمة وسائل اعلامها على مهري ورفاقه؟ السبب الأساسي ان مهري اختار روما ليعلن للرأي العام الدولي طلاق جبهة التحرير العلني مع الجهاز العسكري الاداري الحاكم الفعلي منذ الاستقلال. وتأتي هذه المفاجأة، غير السارة طبعاً، في وقت كان هذا الجهاز يحاول استعادة نفوذه على جبهة التحرير بطريقة أو بأخرى، بعد ان أصبح مجرداً من أي تغطية سياسية، وبعد ان أعلن عن رهان الانتخابات الرئاسية التي يعتزم اجراءها قبل نهاية العام المقبل. لقد التحق مهري بكل من جبهة الانقاذ وجبهة القوى الاشتراكية - وكلتاهما تنشط منذ مدة طويلة على الصعيد الدولي - ليقول للعالم "إن هناك بديلاً للسياسة المتبعة في الجزائر منذ مطلع 1992 والتي أدت الى تفاقم الأزمة السياسية التي تعيشها البلاد منذ "انتفاضة" تشرين الأول اكتوبر 1988. وقد أكد مهري مواقف حزبه بقوة في ندوة صحافية عقدها في فندق "الجزائر" في 29 - 11 - 94 وفي اطلالة تلفزيونية. فقد جدد رفض جبهة التحرير "لسياسة المواجهة بين الجزائريين" التي تتبعها السلطة القائمة منذ وقف المسار الانتخابي حاكماً عليها "بالفشل ولو هبت الأحزاب مجتمعة لنجدة السلطة فيها". كما جدد تعلق حزبه بالحوار كوسيلة وحيدة لتجاوز سياسة "أثبتت الاحداث فشلها"، ووضع "سياسة بديلة تتفق عليها أطراف الحوار وتلتزم تطبيقها". واعتبر الحوار في هذا الصدد "ضرورة وطنية وليس صدقة من السلطة". ووقف أمين عام جبهة التحرير طويلاً عند طبيعة الاحداث التي تهز الجزائر منذ ثلاث سنوات"، فالأزمة في رأيه "جد معقدة وليست مجرد ظاهرة إرهابية، واصفاً الظاهرة "بعنف سياسي يحظى بدعم جزء من المواطنين". ومن ثمة فالظاهرة "تتطلب حلاً سياسياً لا علاجاً أمنياً فقط". وتساءل مهري في هذا السياق: "لماذا تصر السلطة على جر الاحزاب لإدانة الإرهاب؟" ليجيب على ذلك: "لتقول للعالم انه ليست لدينا أزمة بل مجرد ظاهرة إرهابية... تستدعي تجنيد كل الترسانة الدولية لمساندة السلطة في محاربتها". ويشير مهري هنا بصفة خاصة الى الاجتماع المقبل الذي دعا اليه وزير الداخلية الفرنسي - بطلب من زميله الجزائري - والذي من المنتظر ان يجمع بين وزراء الداخلية لبلدان الحوض الغربي للمتوسط الأوروبية والمغاربية. وهل يمكن تطويق ظاهرة "العنف السياسي" لو هبت فرنسا - مثلاً - لنجدة السلطة في الجزائر؟ وبعد ان يحذر مهري من مخاطر تدويل الأزمة الجزائرية تحت غطاء "الكفاح الدولي ضد الارهاب"، يقول ان الدولة تملك من وسائل القتل والدمار ما يجعلها تلحق أفدح الخسائر بالخارجين عليها، "لكن هل هذا هو الحل"؟ ويجيب مهري: "إننا لا نؤمن بهذا الحل ولم نؤمن به من قبل، واذا استمر العنف سنواصل معارضتنا لذلك". ويقترح مهري مرة اخرى "معالجة سياسية للأزمة... باحترام دستور 1989 وتطبيقه وبالعودة الى الانتخابات بعد ذلك". الجبهات الثلاث والتحالف؟ والسؤال المهم الذي يطرح نفسه بعد "ملتقى روما" هو: هل هناك بداية تحالف بين "الجبهات الثلاث" الفائزة بانتخابات 26-12-91؟ وكان جواب مهري على ذلك، انه من السابق لأوانه الحديث عن تحالف، مستدركاً في الوقت نفسه: "لكن نلاحظ ان هناك تقارباً في وجهات النظر حول عدد من القضايا بين عدد من الأحزاب". مقدراً ان هذا التقارب شيء إيجابي "خاصة بعد رسالة عباسي مدني والمواقف التي سمعناها في روما من هدام وكبير". ويشير مهري ضمناً الى وجود ما يشبه التنسيق بين الاحزاب المهمة قائلاً: "نعتقد ان هناك تحركاًَ ايجابياً نحو ما نعتبره نحن الحل الدستوري والديموقراطي، ونرجو ان يستمر ذلك". إن رفض مهري لوصاية الجهاز العسكري - الاداري على جبهة التحرير، كان وما يزال مصدر ضغوط كبيرة على الجبهة وأعضائها وعلى أمينها العام شخصياً، وقد اشار مهري أخيراً الى ذلك بقوله: "يراد اسكاتنا في الداخل بحجز جرائدنا وفي الخارج بالافتاء بأننا نحاول جلب الخطر الصليبي للجزائر". ويعتقد المراقبون في العاصمة الجزائرية ان هذه الضغوط ستزداد في الأشهر المقبلة مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية وبحث السلطة عن حزب أو تجمع يقبل حمل راية مرشحها فيها! وهذه الضغوط ليست غريبة على "هجرة" جبهة التحرير بحثاً عن متنفس لها بدءاً بروما طبعاً! لأن باريس تفضل السلطة أو سعيد سعدي. وقد اعتبر بعض المراقبين ملتقى روما نقطة تحول في تطور المعارضة وفي مسار الأزمة الجزائرية تبعاً لذلك. وكلما أوغلت السلطة في ازدراء المعارضة ومحاولة تسخيفها أو نفيها باختصار، كلما سعت هذه الاخيرة الى التقارب في ما بينها وربما الى تجذير مواقفها تجاه السلطة القائمة.