دخل الصراع على كرسي رئاسة الجمهورية في الجزائر مرحلة متقدمة من الصراع والمواجهة بين مؤيدي الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة وأنصار قيادة جبهة التحرير الوطني، حزب الغالبية البرلمانية، التي يتزعمها رئيس الحكومة السابق ومرشحها الى الانتخابات الرئاسية المقبلة علي بن فليس. وعلى رغم قرار القضاء الجزائري الذي جمد نشاط حزب الجبهة في المجالس المنتخبة على المستوى والمحلي والوطني، إلا أن الصراع المستمر بعد انقضاء ثمانية أشهر على تنحي بن فليس من رئاسة الحكومة لم يحسم بعد في شقه السياسي. ويرى المراقبون أن الإعلان عن ميلاد "جبهة وطنية" تضم شخصيات وطنية وأحزاباً سياسية وفعاليات المجتمع المدني بهدف "إنقاذ الجمهورية"، بحسب البيان الأخير الصادر عن جبهة التحرير الوطني، قد يؤسس لمرحلة جديدة من المواجهة يشترك فيها أكثر من طرف رافض لطبيعة نظام الحكم الحالي ويدعو إلى ان يشمل "الحياد" كل مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية. وتتفق قيادة جبهة التحرير مع عدد من الأحزاب الأخرى مثل حركة الإصلاح الوطني التي يتزعمها الشيخ عبدالله جاب الله وحزب التجديد الجزائري وبعض الشخصيات الوطنية مثل الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي، على وصف حكم الرئيس بوتفليقة ب"التسلطي" إنطلاقاً من معاينة مشتركة تشمل أساساً: 1- خضوع السلطة القضائية في شكل كامل لإملاءات الحكومة سواء من خلال قضية الحكم الصادر في "جنح الظلام" أو من خلال تدخل القضاء في المنازعات السياسية للمرة الأولى منذ إقرار التعددية عام 1989 على رغم أن الغرفة الإدارية لمجلس قضاء العاصمة نفسها كانت أصدرت عام 1990 حكماً ب"عدم الإختصاص" في شكوى رفعتها وزارة الداخلية ضد الحزب الإجتماعي الديموقراطي الذي كان يواجه أزمة مماثلة لتلك التي عرفها حزب جبهة التحرير الوطني. وأدى قرار سابق لمجلس الدولة، أعلى هيئة طعن للقضاء الإداري، ب"عدم الإختصاص" في قضية إلغاء المؤتمر الإستثنائي لجبهة التحرير الوطني الذي رشح علي بن فليس للانتخابات إلى تحرك الرئيس بوتفليقة لتنحية أبرز قضاة المجلس وهما أحمد بليل الرئيس السابق لمجلس الدولة والقاضي عيسى يعلاوي لأنهما أصدرا القرار الذي أغضب رئيس الجمهورية عندما كان في زيارة رسمية لإيران. كما أن قبول القضاء في مناطق القبائل، الأسبوع الماضي، طلب رئيس الحكومة أحمد أويحيى رفع العقوبات عن ناشطي حركة العروش البربرية تمهيداً للحوار ينظر إليه على أنه تأكيد للتداخل الحاصل بين السلطة القضائية والجهاز الحكومي. 2 - وفرت وزارة الداخلية منذ مطلع حزيران يونيو الماضي الغطاء القانوني لمؤيدي الرئيس بوتفليقة للتحرك والنشاط السياسي بإسم جمعيات ثقافية وعلمية، وتحولت هذه التجمعات إلى ما يشبه حركة مناهضة لقيادة جبهة التحرير الوطني وتجتمع باسمها من دون حصولها على ترخيص من الحزب وهو ما تسبب في مواجهات دامية كانت العاصمة ومناطق في شرق البلاد وغربها مسرحاً لها طيلة الصيف الماضي قبل أن يعلن في الرابع أيلول سبتمبر الماضي ميلاد "الحركة التصحيحية" التي تضم مؤيدي بوتفليقة داخل حزب الغالبية. ومنذ الخريف الماضي تشكو أحزاب سياسية وتنظيمات من المجتمع المدني من تدخل وزير الداخلية يزيد زرهوني، وهو عقيد سابق في جهاز الإستخبارات العسكرية، في صلاحياتها. وقد مست هذه "الحركة التصحيحية"، أو "الإنقلابية" بحسب تعبير الأوساط الإعلامية، عدداً من التنظيمات منها الإتحاد الوطني للشبيبة الجزائرية والإتحاد الوطني للطلبة الجزائريين. وقبل يومين استنكرت قيادة حزب التجديد الجزائري ممثلة بنور الدين بوكروح وزير التجارة في الحكومة الحالية تصرف وزير الداخلية الذي أعطى "بصفة غير شرعية رخصة لمؤيدي الرئيس بوتفليقة للتجمع وإتخاذ قرار تزكية ترشيحه لعهدة ولاية ثانية بإسم قيادة الحزب ومؤسساته". 3- فقدت الحكومة الحالية التي يقودها أويحيى الغالبية البرلمانية التي كانت ممثلة فيها بعد قرار جبهة التحرير الوطني سحب وزرائها من الحكومة إثر صدور قرار "جنح الظلام" مطلع تشرين الأول أكتوبر الماضي والذي كان يهدف أساساً إلى منع الحزب من عقد مؤتمره الإستثنائي الذي زكى فيه ترشيح أمينه العام بن فليس الى الانتخابات الرئاسية. وعلى رغم تعيين الرئيس بوتفليقة أكثر من 18 وزيراً مؤيداًً له ضمن مناضلي حزب جبهة التحرير الوطني، إلا أن نسبة تمثيل هؤلاء في البرلمان لا تتجاوز في أحسن الأحوال 27 مقعداً مثلما تشير إلى ذلك مصادر سياسية وإعلامية متطابقة، ما يعني أن الحكومة الحالية تضم في صفوفها مؤيدي الرئيس الجزائري وهو ما دفع الكثير من الأحزاب والشخصيات الوطنية إلى إطلاق وصف "حكومة مساندة" عليها. وعمقت التنقلات المستمرة للوزراء في الولايات لإصدار بيانات مساندة من تنظيمات المجتمع المدني أو إطارات القطاعات الوزارية من الشكوك في إمكان حدوث تزوير شامل في الانتخابات. وفي ضوء هذا الوضع تعتقد أبرز القوى السياسية والشخصيات الوطنية بأن "التعددية السياسية والمسار الديموقراطي مهددان" وهو ما دفع هذه الشخصيات إلى عقد تحالفات "خارج الطبيعة" لتشكيل "جبهة وطنية" هدفها الأساس عزل الإدارة عن بوتفليقة "الرئيس - المرشح" والذي أجل الإعلان صراحة عن ترشحه حتى إستجماع كل المعطيات التي تضمن له الفوز بولاية رئاسية ثانية خلال الإستحقاقات المقبلة. ورقة الجيش وتتم كل التحالفات القائمة خارج حسابات المؤسسة العسكرية التي أعلن قائدها الفريق محمد العماري "الحياد" في الإستحقاق الرئاسي. وبدا هذا الحياد واضحاً خلال المواجهات التي عرفها حزب جبهة التحرير الوطني على رغم المخاطر التي كانت تحدق بالبلد. غير أن تسارع التطورات قد يبطل هذا الحياد لإعتبارات عدة أبرزها: 1- إعلان أهم التشكيلات السياسية والشخصيات الوطنية المعارضة لتدخل الجيش الجزائري في الشأن السياسي تراجعها عن هذا المطلب صراحة الأسبوع الماضي من خلال دعوتها إلى أن يكون طرفاً ضامناً في نزاهة الانتخابات. اذ طالب رئيس حركة الإصلاح الوطني ومرشحها الشيخ عبدالله جاب الله، وهو أحد المطالبين بإنسحاب الجيش من الساحة السياسية، صراحة بتدخل المؤسسة العسكرية واستغرب جدوى حيادها في هذه الإستحقاقات خصوصاً بعد تجميد نشاط حزب جبهة التحرير الوطني، وتساءل في بيان عن "لزوم مؤسسات الدولة الحياد في الإستحقاقات السياسية المقبلة"، مشيراً الى "أن قرار تجميد نشاط حزب الغالبية البرلمانية يزيد في تعميق حال عدم ثقة الشعب في مؤسسات الدولة ويشكل خطراً حقيقياً على مستقبل التعددية السياسية وحرية الأحزاب وإستقلاليتها. كذلك استنكر مولود حمروش أحد المرشحين إنسحاب الجيش ودعا المؤسسة العسكرية الى أن تكون طرفاً ضامناً في الانتخابات المقبلة. وهو التوجه نفسه الذي تبناه كل من الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي وعدد من الشخصيات والأحزاب. ولم تستثن جبهة التحرير الوطني في ندائها الأخير إلى "التعبئة العامة لإنقاذ الجمهورية" مؤسسة الجيش، ما يعني أن موضوع تدخلها في إدارة الانتخابات المقبلة أضحى مطلباً عاماً. وهذا ما كان لمح اليه العقيد السابق في الإستخبارات العسكرية محمد شفيق مصباح عندما تحدث في ملتقى حول "متطلبات الحكم الراشد" حين ذكر بأن إنسحاب الجيش الجزائري من الساحة السياسية "لن يتم في صورة مفاجئة وعشوائية" مشيراً إلى أن المؤسسة العسكرية قد توافق على المطالب التي تدعوها إلى ممارسة مهمات إضافية للحفاظ على المؤسسات الدستورية شرط "ألا يعني ذلك أن المؤسسة العسكرية تخترق الحقل السياسي لتكسب الأصوات لمصلحة الأحزاب". 2- لم تكن المؤسسة العسكرية بمعزل عن صناعة القرار السياسي منذ فجر الثورة التحريرية سنة 1954 وطوال مرحلة الإستقلال وبناء الدولة الحديثة وحتى وقف المسار الإنتخابي. ويكشف الكتاب الذي أصدره وزير الدفاع السابق اللواء المتقاعد خالد نزار جانباً من هذا الدور عندما قدم رواية كاملة لقصة عرض تولي الرئاسة على السيد عبدالعزيز بوتفليقة عام 1994 ثم عام 1998 ما يعني أن الجيش لم يكن في معزل عن أهم الأحداث. 3- إذاً كان مؤكداً اليوم أن الجيش لا يرغب البتة في بقاء الرئيس بوتفليقة لأسباب عدة قد يكشف عنها أصحابها في المستقبل، فإن المؤكد أن الإشكال القائم هو في كيفية رحيل الرئيس بوتفليقة وهي المسألة التي تلقى إجماع قيادات أركان المؤسسة العسكرية بكاملها. وتتحدث أوساط سياسية وإعلامية عن ثلاثة سيناريوات أساسية ترتكز الى معطيات واقعية أبرزها: أ - مواصلة العمل مع الرئيس بوتفليقة إلى نهاية الولاية في آذار مارس المقبل مع قطع الطريق أمام كل محاولات تأجيلها من خلال تغذية التوجه نحو نقل الصراع من المؤسسات إلى الشارع مثلما تسعى بعض الدوائر الرسمية إلى الدفع بجبهة التحرير إلى المواجهة في الشارع قصد إعطاء الرئيس بوتفليقة الورقة لإعلان تأجيل الانتخابات "لأن الوضع الأمني غير مناسب". ولا يختلف الأمر، في هذه الحال، سواء ترشح الرئيس أم لم يترشح لولاية ثانية ما دام أمر ولايته مفصولاً فيه سلفاً نظراً إلى أن موقف المؤسسة العسكرية له ثقله في حشد الأتباع والمؤيدين للرئيس بوتفليقة مثلما حصل عام 1999 حيث فاز الرئيس بصعوبة في السباق الرئاسي على رغم انسحاب ستة مرشحين منافسين له في السباق. كما أن تدخل الجيش في هذه الحال سيكون بمثابة تحمل للمسؤولية بما أن الجيش كان وراء تولي بوتفليقة الرئاسة مثلما كشف عنه اللواء خالد نزار. ب - سيناريو المواجهة ويرتكز أساساً الى ما صدر أخيراً من تصريحات منسوبة إلى الرئيس الجزائري عبر السعيد بوتفليقة، شقيقه الأصغر ومستشاره في رئاسة الجمهورية، "جاء بي الجيش إلى رئاسة الجمهورية وعليه هو وحده أن يخلعني إن إراد ذلك ... ولن أرحل بالصناديق الإنتخابية كما يريدون. وحتى وإن لم يتسنَ تأكيد هذا من طرف مصادر مستقلة أو من الرئيس بوتفليقة ذاته إلا أن هذه التسريبات التي يعمد إليها محيط الرئيس الجزائري تؤكد وجود رغبة، على الأقل من جانب الرئيس، في عدم التنحي طواعية من كرسي الرئاسة، وهو ما يعني أن إمكان اللجوء إلى مرحلة إنتقالية يبقى أمراً وراداً خصوصاً في حال تزايد مطالب الطبقة السياسية لدى الجيش بالتدخل لدى الرئيس بوتفليقة لضمان الشفافية والنزاهة. وقد يكون الجيش في هذه الحال مجبراً على الرمي بكامل ثقله في إتجاه الرئاسة، خصوصاً على مستوى مدير الديوان الجنرال العربي بلخير الذي كان وراء "جلب بوتفليقة إلى قيادة أركان الجيش" في أيلول 1998 وهو ما قد يدفع الرئيس الحالي إلى الإنسحاب من الحكم طواعية وتعيين رئيس مجلس الأمة "الغرفة الثانية للبرلمان" لتنظيم الإنتخابات الرئاسية مثلما يشير إلى ذلك الدستور الجزائري. ج - سيناريو "لا غالب ولا مغلوب" ويرتكز الى إقرار طرفي الصراع على ضرورة توفير كل الضمانات شرط عدم تدخل أي طرف في شأن الطرف الآخر قصد تجنب القفز إلى المجهول. ويعني هذا السيناريو على الأقل رحيل الحكومة الحالية بما في ذلك العقيد السابق في الإستخبارات العسكرية يزيد زرهوني الذي يعد الساعد الأيمن للرئيس بوتفليقة، وبالتالي فإن هذا الإتفاق سيحرم الرئيس من أدوات إدارة الصراع والفوز بمعركة الرئاسيات ويجعل السباق مفتوحاً أمام كل الإحتمالات. وهو سيناريو يرتكز أساساً الى محاذير العودة مجدداً إلى "شبح إلغاء المسار الإنتخابي" الذي اضطر الجيش الجزائري إليه مطلع 1992 بعد فوز جبهة الإنقاذ المحظورة بالغالبية البرلمانية، وهو ما دفع أوساط في الجيش والأحزاب الديموقراطية واليسارية إلى إطلاق إشارات تحذير من تحول الجزائر إلى نظام حكم أفغاني أو إيراني بالمفهوم الخميني. فترة الحسم المؤكد أن كل الإحتمالات تشير إلى أن طريق ليّْ الذراع لا يزال مستمراً على الأقل إلى غاية إستدعاء الهيئة الإنتخابية المقرر بين 18 كانون الثاني يناير الجاري والثامن من الشهر المقبل، وهو ما يعني أن الحسم في أحد هذه السيناريوات سيكون بالضرورة قبل هذه الفترة حيث سيرتب فيها الرئيس بوتفليقة أوراقه مع الجيش الجزائري. وهي الفترة أيضاً التي ستستعرض فيها الطبقة السياسية عضلاتها أمام الطرفين للحصول على أكبر قدر من الضمانات لتكون الانتخابات الرئاسية المقبلة "الأكثر نزاهة" في تاريخ البلاد منذ الإستقلال سنة 1962.