ثمة ثلاث حقائق مبدئية يجب ان تؤخذ في الاعتبار عند الكلام عن سياسة القطر العربي السوري، اليوم وغداً كما بالأمس، او عن محاولة استشراف الآفاق المستقبلية لهذه السياسة: الاولى، هي ان معنى العروبة ولد في سورية الطبيعية وفيها ترعرع ونما ومنها انتقل فور ولادته الى العراق وعم منطقة الهلال الخصيب ثم انتشر تدريجياً في الاقطار العربية الاخرى ... وفي المغرب حيث قاموا بتسوية توفق بين الاسلام الذين قاوموا الاستعمار تحت لوائه وبين العروبة التي رأوا فيها بعداً من ابعاد هويتهم ... فقالوا ان حضارتنا عربية - اسلامية. وتعجب هذه التسوية البعض فيتبنونها. فالسوري، وان كان قد تبنى الهوية - التسوية هذه فهو يعتقد في قرارة نفسه انه القيم على معنى العروبة وهو المسؤول عنها. اولاً، ان معنى العروبة، ومنذ نشوئه مع بدايات النص الثاني من القرن التاسع عشر، وخلال تاريخه الطويل نسبياً مر بمراحل صعود وهبوط كثيرة، ادهاها هبوطه بعد حرب الخليج الثانية الذي جعله يحاذي درجة الصفر، ويعرف ايضاً انه سيمضي زمن طويل قبل ان يستعيد هذا المعنى بعضاً من عافيته المفقودة. والمثقف السوري، وان كان يعطي لنفسه في مجالسه الخاصة الحق بالهزاء من معنى العروبة، فحذار ايها الغريب ان تمس حتى بتلميحة عابرة معنى سيبقى لزمن طويل جداً مقدساً عندنا: لا نسامحك ولن نسمح لك ان تأتي بشيء يمسه. والمثقف السوري المتتبع للاحداث يعرف ان تاريخ القطر هو سلسلة تسويات، كلها كانت على حساب الوحدة التي هي حقيقة العروبة، التسويات هذه بدأت مع بدايات استقلال القطر، يوم قبل فيصل الهاشمي وقبل معه قادتنا اذ ذاك بمملكة شبه وهمية على جزء من سورية، وكان ما كان ... وتبنينا رسمياً قبول سورية المتبورة هذه في دستور المرحوم فوزي العزبي عام 1929، كما سلمت الكتلة الوطنية بسلخ الاقضية الخمسة عن سورية المتبورة اياها حتى يكون ثمة لبنان كبير لم يكن بالأصل سوى واحدة من متصرفيات سورية العثمانية. يومها طرح الشعار - الحجة الذي لا يزال معمولاً به الى اليوم وهو: خذ وطالب. ويكرس هذا القسم من سورية دولة ذات سيادة عندما انتسبنا الى هيئة الامم فور تأسيسها عام 1945 مع ان المساومات على وجودنا ذاته كانت لم تنته بعد ولن تنتهي، هذا اذا كان انتهت، الا مع الوحدة الهشة مع مصر وبعدها. أذكر ان جيلاً من المثقفين بين الحربين كان يرفض سورية هذه. وجيلنا، جيل الاربعينات والخمسينات، اوجد عبارة قطر عربي سوري تأكيداً منه ان سورية لا وجود لها الا في اطار الدولة العربية الواحدة. ولطالما تساءلت : علام لا نقول القطر العربي الاسلامي السوري او القطر العربي الاسلامي المغربي؟ عام 1994 سيكون كعام 1993 وأكثر منه عام التسويات. فما رصيدنا في هذه التسويات؟ ما الاوراق المستورة والمكشوفة التي سنلعبها؟ انحن في موقع قوة؟ هل ستكون العروبة من جملة هذه الارصدة والاوراق؟ فالتسوية تسويات. فاسنأخذ حقاً موقف الند للند مع اطراف التسويات الاخرى المتكاثرة؟ تلكم هي الاسئلة التي يطرحها السؤال عن سياسة القطر عام 1944. اضيف اليها سؤالاً آخر لا يقل اهمية عما سبق وهو: أسيكون اتفاق غزة - أريحا هو ايضاً ورقة من جملة الاوراق التي ستطرح على بساط البحث عند التسوية عام 1994؟ أقول سلفاً - بلى - وبلا تردد. ويبقى في خلفية كل سياسي سوري، كل مثقف، كل انسان واع ... معنى العروبة فوق كل اعتبار منه يستمد المفاوض السوري اضافية، وان كان لا يزال وسيقى لزمن طويل رصيداً وهمياً كالنقد الذي فقد تغطيته. الحقيقة المبدئية الثانية: قلت وأقول وسأقول ان اسرائيل هي في الاستراتيجية العامة لأميركا وفي تصور اميركا لموازين القوى وحركتها على الصعيد العالمي هي الدولة الواحدة والخمسون من الدول المنتمية الى الاتحاد الاميركي USA. فخلافاتها مع الدولة الفيديرالية، وان كانت تأخذ احياناً شكلاً حاداً لأسباب معروفة منها طبيعة مشكلات الشرق الاوسط المعقدة وبعد اسرائيل عن المركز الذي يرغمها على اتخاذ قرارات انية ... فهي تحدث وتصغر ضمن الاسرة الواحدة وبوسائل اسروية، وبعد فإن اليهودي عتيق في هذا العالم، وككل انسان عتيق مناور صاحب حيلة لا تعنيه في الواقع مملكة سيدنا داوود ولا حكم سيدنا سليمان ولا توراة سيدنا موسى. فهذه عند السياسي المحترف محفوظات للمتاحف وأرصدة وهمية يمكن استخدامها لاستثارة سواد الشعب او يتركها للاهوتيين المحترفين وللمثقفين المتحذلقين يلهون بها كما يلهون بالأساطير الاخرى. فالسياسي يعرف ان رهان سياسة الشرق الاوسط اضخم بكثير من احلام التوراة. بل ان اللعبة تعددت ابعادها واوجهها بشكل لم يكن ليخطر ببال جماعة مؤتمر بازل ومؤسسي الصهيونية فالثورة العلمية - التقنية وانجازاتها العملاقة وكذلك زيادة سكان الارض المتسارعة وتزايد حاجاتهم المطرد ... كل هذه وأسباب اخرى ما يترتب عليها من نتائج بدلت وتبدل بسرعة مذهلة المعطيات التي قامت عليها السياسة العالمية في الماضي القريب ذاته كما بدلت الطرق التي كان تستخدمها هذه السياسة بحيث صارت تبدو لنا الطرق التقليدية وكأنها من الماضي البعيد. هذا الانقلاب السريع في المنظورات السياسية يحيلنا الى الحقيقة المبدئية الثالثة وهي الوضع العالمي بجملته من حيث انه الاطار الذي تتم ضمنه المناورات السياسية وهو على العموم محكوم بها. أقول بالمناسبة اني استبعدت عبارة نظام عالمي جديد لانها صارت مدعاة للالتباس، فهي بحاجة الى دراسة مطولة لا مجال لها هنا. لقد كشفت الثورتان، الصناعية أوائل القرن التاسع عشر والعلمية - التقنية اوائل النصف الثاني من القرن العشرين عن حقيقة اساسية طالما حجبتها عنا المفهومات السياسية الساكنة وهي ان العالم مجموعة قوى سياسية - اقتصادية - ثقافية. قوى ومتحولات له الهيمنة في وقت من الاوقات. وهذا يعني: أولاً، ان الاستعمار اختفى، ولكن اختفى معه الاستقلال، فالعالم نظام من التبعيات المتبادلة، موقعك منه يحدده رصيدك، بالأحرى قدرتك على توظيف هذا الرصيد. ثانياً، ان الاستعمار والاستقلال نسبيان كالحرب والسلم والنظم السياسية والايديولوجيات وبقية الشؤون الانسانية العادية. فأنت بمعنى ما حجر واع له مبادهته ضمن حدود، وان كانت معدة سلفاً فبوسعك توسيعها، بوسعك تعميق موقعك بين المواقع الاخرى وترسيخه فيها. فحريتك مرتبطة بقدرتك على الرؤية هنا ليست بالأمر السهل فنظام العالم شديد التعقيد، عناصره ممتدة على الفسحة الارضية كلها، والى جانب تداخلها مع بعضها فهي جملة قوى هدفها التوازن. ولكن ما ان يبدأ هذا التوازن بالتحقق حتى تأتي مبادهة او مبادهات فتعطله. بالفعل فإن الصراع على القمة كان البارحة بين قطبين هما الدول المتحدة الاميركية والاتحاد السوفياتي رحم الله أيام زمان!. اما اليوم وبعد ان ردت اميركا اوروبا وعلى رأسها المانيا المرتبة الثانية لأسباب كثيرة اقتصر منها على اثنين: كونها ربحت معركة الغات GAT وفي الوقت ذاته كونها انشأت سوقاً اقتصادية هي اليوم، ولاشعار آخر، الاكبر بين الاسواق الاقتصادية هي اليوم، ولاشعار آخر، الاكبر بين الاسواق الاقتصادية المشتركة المعروفة لأنها تضم الى جانب كندا والمكسيك رقعة سوف تتسع فتشمل شطراً لا يستهان به من دول اميركا اللاتينية. قال: ودول الشرق الاقصى؟ فالصين تتحدى اميركا بلا وجل. واليابان تناور من موقع قوة. وكوريا الجنوبية صاعدة كالسهم، ففي غضون حوالي ربع قرن انتقلت من الدرجات الدنيا للتخلف الى الطليعة بمعدل تنمية قلما يتحقق في تاريخ النمو الاقتصادي هو 12$ اضف الدول الآسيوية المحيطة بالباسيفيكي. فنحن امام صراع على القمة يحمل طابع سكان الشرق الاقصى، أقصد الصبر، الادخار والعمل الدؤوب. قلت: الحاسم هو ان يتوحد الباسيفيكي في مواجهة الاطلسي. فالخلافات بين دول الباسيفيكي لا تزال كثيرة والاحقاد اكثر. اعود الى حدثينا الأول والاساسي فأقول: ان السياسي الكبير هو الذي يحقق وبسرعة الشرطين الاساسيين المتكاملين من شروط الفعل السياسي. اقصد أولاً الرؤية الاوسع ثم للتو يعيد التأليف بين القوى لحسابه كلما اختل توازنها الشرط الثاني هو ان يجد دوماً بسرعة، الوقت المناسب ليزج رصيده كله او بعضه في مغامرة هي لعبة قمار بحجم سكان الكرة الارضيه. قال: او تظن ان السياسي صار سياسياً لانه حفظ درس السوسيولوجيا هذا الذي تلقيه علينا؟ قلت: انه هو الذي يملي علينا درساً تمليه عليه غريزته السياسية. قال: أو تعتقد ان لدينا سياسياً عربياً له مثل هذه القدرة على الرؤية والتحقيق؟ قلت: ان العربي بطبعه رائي متميز. ولكنه ابتلى عند اصطدامه بالحضارة الحديثة بمرض الخوف الذي قد يضيق الى حد الاختناق حقل الرؤية عنده. وقد يشل حركته عند التنفيذ. فعوضاً عن ان يرى بعين عربية يؤثر ان يرى بعين اقليمية. قال: وماذا عن المفاوضات التي ستقرر في العامين المقبلين 1994 و1995 مصيرنا كلنا نحن العرب؟ قلت: مصيرنا كلنا؟ كلمة كبيرة، فبعضنا اعتذر وهو يقف موقف المراقب مما يجري ويؤجل الجواب الى ان تحدد المصائر. قال: والبعض الآخر؟ قلت: قد يكون العربي أبرع من الغربي في عملية الكر والفر التي هي المرحلة الاولى من المفاوضات منذ مدريد الى اليوم. ولكن عندما عرض علينا ان ننتقل الى مرحلة التنفيذ، اقتصرنا في اوسلو على أريحا - غزة في نص غامض ومتناقض تفسيره مطروح اليوم. والفلسطيني مع الاسف في موقع ضعف لأسباب نعرفها كلنا ونتجاهلها ونعارض. أقول بشكل آخر وأوضح انهم التقطوا منذ زمن طويل النقطة الاقوى في وجودنا وهي العروبة، وما زالوا بالاعلام والندوات، في هيئة الامم وفي الصحف، في السر والخفاء، بالحرب والسلم، بالسياسة والقروض الاجنبية ينهالون عليها العروبة حتى فتنوها وجعلوا منها دولاً متناحرة على البقاء. قال: او تعتقد ان سورية يمكن ا ن تقع في الفخ؟ قلت: ان سورية اختارت الصخرة الأصلب لتقف عليها وحتى اليوم لم تتزحزح عنها، تأمل ان لا تتزحزح ابداً، أقصد القرارين الشهيرين 242 و338 الصادرين عن مجلس الامن واللذين قرر الدول المتحدة الاميركية اقامة مفاوضات السلام عليهما، وعلى تفسيرهما الاعم والاصح: الارض مقابل السلام. قال: ما الأرض؟ ما السلام؟ قلت: الارض هي البقعة الجغرافية التي كانت قد رسمت عليها الحدود الفاصلة بيننا وبين اسرائيل حتى حزيران يونيو 1967. قال: ان أرض السياسي شيء آخر: هي مواقع استراتيجية قد تتمركز فيها أساطيل جوية وبحرية وبرية كما جرى قبل حرب الخليج الثانية وبعدها والى ما شاء الله. والذي يقف على هذه الارض بأساطيله له نصف احتياطي بترول العالم وأكثر. الارض ايضاً هي الحدود المفتوحة والاسواق والممرات الجوية والبرية والبحرية. الارض تعاون اقتصادي - علمي - ثقافي، تبادل خبرات، مشاريع مشتركة. الارض ايضاً وايضاً هي اشعارك انك مهدد باستمرار من قبل دولتين مجاورتين فعليك ان تفتح سوقاً لشراء الاسلحة لا تشبع ومع الاسلحة مستلزمات من خبراء وقطع غير ومعاهدات صداقة وحماية متبادلة... هذه أرض لم تخطر ببال القدامى، فالارض ارضان والسلام سلامات ان جاز التعبير. وكذلك الحرب. فإذا ضربت السلام بالارض والسلام والارض بالحرب حصلت على ما لا نهاية له من انواع الوجود الانساني المضطرب والمبعثر. ثمة سلام هو استسلام لانه غير متكافئ الاطراف غزة - أريحا مثلا، وسلام اخر يتعايش مع الحرب الارض المحتلة اليوم. وايضاً حالات لا حرب ولا سلام فالمناوشات والاعتداءات على الحدود لا تنتهي هناك حروب معلنة وحروب بلا اعلان. حروب جيوش وحروب عصابات. تأمل هذه المسافات الشاسعة التي تمتد على مساحات شاسعة في آسيا وافريقيا واوروبا الشرقية واحياناً في اميركا الوسطى تكاد تشغل اكثر من ثلث المعمورة، حيث قوافل من الشعوب المشردة فيها المهاجر والمهجر، الهارب والملاحق، الجائع يطلب خبزاً ومأوى والى جواره المهرب وعصابات النهب والسلب. هناك المتمرد والثائر، والمطالب بحق انتزعوه منه. طوائف تنازع طوائف، قبائل تصارع قبائل وأقليات تناضل من اجل استعادة هويتها. جيوش محلية واخرى دولية. واحات امان صغيرة والى جانبها جبال ووديان تهدأ فيها الحرب يوماً وتستعر أياماً. فبأي سحر نميز بين الحرب والسلم بين صاحب الارض ومغتصبها؟ المؤكد هو البؤس وامتهان انسانية الانسان بوسائل جهنمية. هذه اوضاع نعرفها لأن منها الكثير حولنا وبجوارنا، منكوبوها عندنا وبعضهم في ديارنا. ان نسبية نظام التبعيات تمتد الى الهويات الاجتماعية والقومية. ففي روسيا الاتحادية وحدها ثمانون اقلية اثنية، اذا ضعفت موسكو صارت قوميات. وماذا بقي من التتار وغيرهم من الاقليات القومية التي شردها ستالين؟ قل: ما القاسم المشترك بين قبائل افغانستان بحيث نجعل منهم أمة؟ وفي لبنان لا تزعم اليوم كل طائفة انها هي التي تمثل لبنان؟... قلت هذا صحيح، فالتفتت بلغ حداً ضاهى الانفراط في يوغوسلافيا والاتحاد السوفياتي المرحوم وغيرهما بحيث صارت الهويات تتداخل مع بعضها. ولكن قل لي: ماذا يبقى من انواع السلم والحرب التي ذكرت والتي لم تذكر، أو من الهويات الباقية او المرشحة للبقاء اذا حذفنا البقعة الجغرافية المتنازع عليها؟ فمن حق سورية الا تفاوض قبل الخروج من الارض المحتلة. وهذا هو المقابل الفعلي للقرار 242. فسورية وقفت وتقف وستقف عام 1994 وبعده الى هذه الارض الصلبة: أعيدوا الارض وخذوا السلام. قال: أو يستمد الوقوف هذا، او الصمود اذا شئت، قيمته الاستراتيجية من ذاته او من دواعيه ومن العوامل التي تجعله ممكناً؟ فاللعبة السياسية هنا، وان كان رهانها الاخير هو الارض المحتلة، وأقله في المفاوضات الراهنة، فديناميكية هذه اللعبة تستمدها من الاوراق - الارصدة التي بيد كل طرف من أطراف المفاوضات ومن قدرة زج كل طرف الورقة المناسبة في الوقت المناسب بحيث تعطي المفعول الاقوى. وهذه "وسائل الضغط" في المصطلح السياسي. انها من أركان سياسة اميركا والدول المتقدمة وأشكالها كثيرة: الوعد بالقروض او بالهبات، الاتهام بالارهاب او بمخالفة حقوق الانسان، حجب التكنولوجيا المتقدمة عند البلد المتهم. وأقوى هذه الضغوط سياسياً هو الادانة في مجلس الامن، وما ينجم عنها من انواع الأجر الكثيرة والقاسية. قلت: أو تظن ان سورية فقيرة بالأرصدة والاوراق؟ ان لدينا منها الشيء الكثير وفي كافة مجالات المساومة، السياسية منها والاجتماعية، الاقتصادية والتجارية والثقافية وغيرها، منها على سبيل المثال التقارب مع اصدقاء اميركا في المنطقة او التحالف مع اعدائها، ايضاً احتضان المعارضة الاسلامية او تشجيع تجمعات المعارضة الفلسطينية الاخرى وتسهيل حصولها على السلاح او امدادها به. درجة ونوع نقد اتفاق غزة - أريحاً، وقد تستخدم سورية الوسائل هذه كلها دفعة واحدة. هناك ايضاً براءات التفتيش عن البترول او تلزيم المشروعات الكبرى الصناعية منها والتجارية، التأثير على حركة رؤوس الاموال بحيث يتكون لدينا رأسمالية كبيرة قد تؤثر في سوق النقد العالمية، اللعب والتلاعب بالاقليات الكثيرة المتواجدة بجوار القطر او على اطرافه. أضف الى ذلك الحرب الاعلامية وتوجيه الرأي العام. فالنعت هنا له قيمته والكلمة المضخمة ايضاً وكذلك التكرار وما شاكل من وسائل الاعلام التي صارت كلاسيكية. قال: لا تنس غياب الاتحادالسوفياتي والكتلة الشرقية الذي افقد سورية سنداً كبيراً جداً على الصعيد الدولي كما افقدها مصدراً اساسياً من مصادر حصولها على الاسلحة. قلت: صحيح في المباشر. اما على المدى البعيد فسورية تعرف منذ استقلالها انها من منطقة الهيمنة فيها للغرب بزعامة اميركا. أفنجعل من بلدنا كوبا الشرق الاوسط؟ لقد كان ذلك ممكناً لو لم يخفق النموذج الستاليني للاشتراكية عندهم وعندنا. ولكن، وبعد ان كان ما كان، فإن رؤيتنا للوضع العالمي اليوم اوضح بكثير مما كانت عليه في الماضي. اذ تمكنا بسرعة من التحرر في مجالات كثيرة، منها الايديولوجيا التي لم تعد عقيدة، بل صارت وسيلة ضغط، وايضاً وبالدرجة الاولى من النموذج الستاليني للاشتراكية ذي السمة العلمية المزعومة. فبوسعنا تبني ما نشاء من الانظمة الاقتصادية. ان المفاوضات اليوم كما بالأمس، واليوم اكثر من الأمس، هي اشبه شيء بلعبة كرة القدم، يوماً تدفع الى الحلبة هذا اللاعب ويوماً لاعباً آخر. ولسورية رئيس لم يعرف له الوطن العربي شبيهاً في المقدرة على الاحاطة بالوضع العالمي في حركيته المستمرة. وهذا ما يمكنه من اللعب بأرصدته كما يشاء او من اقتناص الموقع الانسب لبلده. انه رائي متميز ولاعب على المستوى الدولي أميز. قال: اذا كانت اسرائيل هي الدولة الواحدة والخمسون كما تزعم، فإن مفاوضاتنا اليوم وغداً كما بالأمس هي مع الدولة الفيديرالية. فهل بوسع قطر بحجم سورية ان يصمد على طول في وجه امبراطورية هي اليوم ولإشعار آخر، المرجع الاول والاخير للسياسة العالمية والمركز الاقوى لتوازن القوى الدولية الرجراج؟ قلت: ولم لا؟ ففي موقف كوريا الصلب من اميركا على المستوى الاقتصادي نموذج يحتذى. قال: ان موقع كوريا في الاستراتيجية العالمية هامشي بالقياس الى سورية التي هي في قلب حلبة السباق اللاهث على البترول. هذا من جهة، ومن جهة اخرى فهل بوسع سورية ان تربح الرهان على النحو المتسارع الذي ضربت فيه كوريا الجنوبية الرقم القياسي كما سبق وقلنا؟ قلت: ان الدولة التي يتجاوز دخلها انفاقها، التي تنتج ما تستهلك وفائضاً تدخره لمراكمة رأس مال اضافي للتنمية، الدولة التي هي بغنى عن القروض الاجنبية، واذا استدانت سددت دينها في الفترة المحددة، الدولة التي لاتحتاج الى مساعدات اجنبية، هذه بوسعها الصمود امام قوى الارض كلها. قال: ان جبهة الصمود جبهات، كل جبهة رصيد، ورقة يمكن ان تلعب في الوقت المناسب. فالجبهة الاقتصادية التي يشددون عليها اليوم بحق وبدون حق والتي تفترض فائضاً في الميزان التجاري لصالحها، تفترض ايضاً قبل كل شيء الشفاء من داء ايدز المتخلفين أقصد المجتمع الاستهلاكي الذي يبتلع الانتاج وفائض الانتاج. فهل فكرت سورية في مكافحة هذا الداء. وما يفترضه من تفاوت في توزيع الثروة يذل الفقير الذي هو سوار الناس ويغذي في نفسه الحقد على الغني؟ ومن ثم فإن الجبهة الاقتصادية هي بدون شك الاخطر شأناً على المدى القريب. اما على المدى الأبعد، فالأولوية للجبهة الثقافية، أقصد الانسانية. فوحده يصمد الانسان الذي استكمل الى حد ما نموه العلمي والادبي، الفكري والعاطفي، او في طريقه الى استكمال هذا النمو. أجل وحده يصمد الانسان الواثق من نفسه ومن مجتمعه ومن حكومته. فهل تمكن انساننا من تحقيق شيء ما من هذا المثل الاعلى؟ اسمح لي ان أشك بذلك! قلت: هذه معركة المستقبل. الا ان المواطن السوري يعرف ان معركتنا هي اليوم مع عدو يملك الاسلحة كلها. ولكنه لا يستطيع الاستمرار في الوجود بيننا اذا كنا نرفضه. وموقفه هذا، هو الذي دفع الدولة الفيديرالية الى طي صفحة الماضي الى حد ما مع ان اساطيلها تحيط بنا من كل الجهات والى فتح صفحة جديدة من تاريخ المنطقة. المستقبل فيها للسلام وللتعايش السلمي. وفي ظرف كهذا يقف المواطنون حقاً صفاً واحداً مع حكومتهم اياً كان رأيهم فيها. قال: أو تعتقد ان التطبيع آت؟ قلت: ان عام 1994 هو عام الرهان على الانسحاب من الارض المحتلة كاملة ثم يلي السلام والتطبيع. قال: او سيسقط اذاً اتفاق غزة - أريحا؟ قلت: سيتجاوزه الزمن. قال: والمدينة المقدسة؟ قلت: لا يمكن للعربي مسلماً كان ام مسيحياً ام ملحداً ان يرضى بديلاً عنها. فهي عقدة العقد في المفاوضات. كيف ستحل؟ كيف ستكون المساومات حولها والتسويات والحلول المتوسطة؟ تلك امور رهن بالمفاوضين وبقدرتهم على المساومة. قال: سبق وقلت ان الاساطير التوراتية تجاوزها الزمن. قلت: القدس ومقدساتها ليست اسطورة فقد ارتبط بها الشرف العربي وهي اليوم وغداً في نقطة المحور من الوطن العربي. فهل ستوقظ فينا المساومات حولها هذا الاعتقاد الذي نكاد نفقده والذي رأى فيه جيلنا المرر لوجوده الا وهو ان تكون ثمة امة عربية واحدة او لا تكون؟ والسؤال الوجودي هذا يطرح اليوم من أفق بعد اوسع. فاذا كانت روسيا الاتحاد السوفياتي خسرت معركة دعمتها بكل قوى الاتحاد العسكرية والانسانية وحتى الاقتصادية، فلأنها، وعوضاً عن ان تراهن من لينين على الانسان، راهنت بعد ستالين على التفوق الاقتصادي. ورهاننا اليوم هو على الانسان العربي. فمعركة هذا الانسان تطرح اليوم على المستوى الاعلى اقصد مستوى الحضارة الانسانية. قال: أفتقد التقدم العلمي والتكنولوجي؟ قلت: أبداً. فالعلم والتقنية لا وجود لهما الا بالانسان على المستويين الفردي والاجتماعي. والانسان ينهض كلاً او يتقهقر كلاً. الانسان عقل وعاطفة وخيال، الانسان علم وفن وشعر، سياسة واقتصاد وآلة. الانسان انتماء الى كتلة انسانية والى حضارة هي مستقبل الانسان انتماء الى كتلة انسانية والى حضارة هي مستقبل الانسان فسورية اليوم مبتورة من الهلال الخصيب والهلال الخصيب من الامة العربية. فإذا لم نتمكن من طرح مستقبلنا على المستويين الاعلى، اقصد المستوى العربي، ومستوى حضارة العالم في القرن الواحد والعشرين فسنخسر على المدى البعيد القدس وفلسطين وذاتنا. ان الفكر العالمي كما يتكون اليوم وسيتكون غداً يدعو الانسان العربي ان يكون بمستواه اشدد: الانسان العربي لا السوري. فأين نحن من فكر المستقبل. فكر الكتل الانسانية الكبرى التي تدخل التاريخ كلاً؟ ذلك هو السؤال الذي علينا ان نضع ضمن اطاره كل سؤال عن سياستنا، نحن العرب السوريين، عام 1994 وبعده وبعده..؟ لأن سورية هي اليوم، والى اشعار آخر، وحدها حلقة الصمود العربية في وجه امبراطورية العم سام. ذلك هو التحدي الكبير: ان نكون عرباً بمقياس الفكر العالمي او لا نكون. * كاتب ومفكر سوري.