الى الدكتور بهجت سليمان اذكر يا سيدي انك ذات يوم، وكنت في المشفى الطبي الجراحي اثر جراحة في ساقي، قدمت لي باقات من الزهور. تنوعها، اريجها وعددها انعش الجناح الذي كنت فيه. وعندما تمكنت من الامساك بالقلم والكتابة، بعثت اليك برسالة شكر، وقلت: اعتبر هديتك الفاخرة بمثابة بداية حوار بين جيلين يفصل بينهما ما يقارب نصف قرن. ولكن من المفيد للأجيال الحاكمة او المرشحة للحكم ان تفيد من خبرة الاجيال السابقة. وكلنا من خدام هذا الوطن العزيز الذي اوجدنا الله تعالى فيه لنبنيه معاً. ازعم انا انني مثقف احتل مكاناً له تأثيره في الحقل الثقافي، فحديثي اليك استمده من تجربتي في هذا الحقل. وشخصياً اؤثر الاحداث على النظريات لأنها ابلغ من كل كلام. وهاك واحدة من الاحداث التي استأثرت باهتمامي طوال حوالى سنة ونصف سنة ومعي مديرية التأليف والترجمة التي كانت في عهدتي: طلب القسم الثقافي في القيادة القطرية من وزارة الثقافة مراقبة مخطوطاتنا قبل ان تُرسل الى المطبعة. ويحال الطلب عليّ وكان امامي 12 مخطوطة رزمتها في شكل يجعلها قابلة للنقل، فأرسلتها كما هي الى القيادة القطرية، ويبلغني بعد اسبوع رئىس القسم الثقافي في القيادة المذكورة - وكانت العلاقة بيني وبينه ودية - اسفه لأن المخطوطات كلها رفضت. وأقصده بعد يومين بناء على موعد لأعرف السبب، فألاحظ بعد مناقشة سريعة انه سلمها الى قراء وضعوا خطوطاً تحت بعض العبارات بالحبر الأسود واقترحوا الرفض. ولجنة القراءة عندهم سرية فليس ثمة مجال للمناقشة. وأعود بعد ستة اشهر فأصطدم بالعقبة ذاتها. وتمضي الايام ستة اشهر، سنة، سنة ونصف السنة ومواقف اصحاب المخطوطات تنهال عليّ من كل الجهات وأنا متأكد من خبرة قرائي، وأنا لا اوافق على قبول مخطوطة قبل ان اراجع القسم الاعظم منها، ويصدف ان يمر رئىس القسم الثقافي في القيادة القطرية بمدينة حمص ويلقاه مصادفة ايضاً احد اساتذته القدامى وله واحدة بين المخطوطات فيسأله معاتباً فيجيبه: قل لمدير التأليف والترجمة ان يفرج عن مخطوطتك. فيتصل بي وأنا بدوري اتصل بوزيرة الثقافة وأقول لها: ارجوك ان تتولي انت الموضوع: فإما ان نفرج عن كل المخطوطات او لا شيء، الجواب افرجوا عن الكل. وترسل المخطوطات للمطبعة وتنشر وتنفد نسخها من دون اي اعتراض من اي انسان على مضمونها. الذي حدث بعد رفض مخطوطاتنا ان الاتحاد السوفياتي كان قد انهار، وانهياره اعطانا الصك بالقبول. قلت: بعد عقدة الاستعمار، عقدة الايديولوجيا التقدمية. هذا الوضع العالمي - المحلي ارتكس عندنا على اللغة العربية. اذكر بالمناسبة انني اشتركت في اجتماع ضم حوالى 50 مدرساً جامعياً وثانوياً برئاسة الدكتور شاكر فحام وموضوعه تأليف كتب للسنتين الجامعيتين الاوليين بكل فروع الجامعة تكمل ثقافة الطالب باللغة العربية. وهي بدعة لا اعرف لها مثيلاً في العالم. فالمفترض ان حامل الشهادة الثانوية الذي يكون قد قضى 12 سنة دراسية من موادها الاكثر اساسية اللغة العربية، صرفها ونحوها وقدرتها التعبيرية، ولا ادري بالمناسبة لماذا اختارتني وزارة الثقافة انا الذي لم ازعم يوماً انني ممن يجيدون اللغة العربية وقواعدها، ولهذا اقتصرت على الاستماع الى ما يقوله أهل العلم. ويدهشني إجماعهم على ان طلاب الاجازة ليسانس قد يخطئون في قواعد اللغة. وهذا ما جعل السلطات التربوية تواصل تدريس اللغة العربية في الجامعة حتى لطلاب الطب والرياضيات وغيرها. ويفاجئني الدكتور شاكر فحام - وهو في المناسبة صديقي منذ سنوات - بسؤال محرج: وأنت ما رأيك يا استاذ انطون؟ فأرتبك وأعتذر وأتردد وأفكر ثم أواجه السؤال بسؤال: قل لي يا دكتور ما كان عدد ساعات تدريس اللغة العربية عندما كنتَ انت تحضر الشهادة الثانوية؟ قد لا تذكر. ولكن من المؤكد ان هذه الساعات زادت، واذا اضفنا المحاضرات التي يلقيها أساطين لغتنا في الراديو والتلفزيون، تكون قد تضاعفت حتى كأن الانهيار يتناسب عكساً مع عدد الساعات المخصصة للغة. وأي معنى يبقى لتفاخرنا بالعرب والعروبة اذا كنا لا نجيد استخدام قواعد اللغة العربية؟ قال الدكتور: وما السبب؟ قلت: لأن قواعد الاعراب وُضعت يا سيدي على أساس منطقي. فالذي انهار هو الفكر العربي اولاً وتبعه منطقياً انهيار استخدام قواعد اللغة. ويُجمع الحاضرون على اني قلت الصواب. وتُرفع الجلسة وينتقلون الى بلودان لتناول طعام الغداء وفي اليوم التالي تستأنف البحوث والمشاورات في النصوص التي يجب ان يتضمنها كتاب تدريس اللغة العربية في الجامعة وفي من سيكلّف بوضع هذا الكتاب! يذكر زملائي انا كنا ايام البكالوريا الثانية قسم الفلسفة اذا رأينا ان في ورقة الطالب خطيئات تدل على انه ضعيف في الاساس في قواعد الاعراب نرسّبه حتى ولو كانت معالجته للموضوع في حدود المقبول. وهذا نادراً ما كان يقع. اما اليوم فخطيئة الاعراب في الشهادة الثانوية الموحدة تستدعي حزف علامة واحدة من اصل مئة علامة!... الاشكال في الفكر، ولا اقصد الفلسفة. وكنت قد نشرت في صحيفة "السفير" اللبنانية دراسة موجزة بعنوان "طريقنا الى الفلسفة مغلق الى ما شاء الله!". انما اقصد الحس السليم او الفطرة السليمة التي شوهها: 1- هوس التوجيه بأنواعه الاخلاقي والصحي والأدبي... والسياسي في الدرجة الأولى، تجده في كتب التاريخ والجغرافيا والقراءة... وفي الدرجة الأولى في كتب التوجيه القومي حيث لا توجد كلمة واحدة تمت الى الواقع بصلة، بل كله ما يجب ان يكون. فالتلميذ يشعر بأنه دوماً مقصر فيتصرف كأنه باستمرار تحت رحمة المعلم الذي يلقنه واجباته القومية وغيرها. 2- عقلية المعلم الابتدائي الذي يتصرّف كأن التلميذ قاصر يجب وضعه تحت الوصاية حتى ولو كان بمستوى طالب جامعي، ولقد كتبت اكثر من مرة ان الثقافة بانواعها في سورية والوطن العربي على العموم تدار بعقل المعلم الابتدائي حتى ولو كان الوزير المعني من كبار المثقفين لأن العرف العام يجرف الوزير والمدير، والمعلم والمدرس. لقد اشتركت في مناقشة اربع أطروحات ماجستر في كلية الآداب في جامعة دمشق بالحاح من صديقي المرحوم بديع الكسم الذي كان حقاً من مستوى مدرس فلسفة في جامعة أوروبية. قلت بعد المناقشة: غريب! لم أر اي فرق من حيث المستوى الفكري بين طالب الماجستر وطالب الاجازة والتلميذ في الشهادة الثانوية واضيف من دون اقل تردد حامل الدكتوراه من جامعاتنا وجامعات اوروبا الشرقية. السبب - وهذا ثالثاً - الكتاب المدرسي الموحَّد المقرر الذي على التلميذ والطالب - الطالب اكثر من التلميذ - ان يحفظه غيباً، جله ان لم يكن كله كي ينجح في الامتحان. وهو موحد كي يكون ابناء الوطن الواحد موحدين ثقافة وفكراً... وذوقاً... وفكراً سياسياً كأنهم صُبوا في قالب واحد. ويعرف الطلاب والطالبات هذا، فقاعات الدروس شبه فارغة لحساب الكافيتيريا حيث لا يمكنك ان تجد مقعداً فارغاً الا اذا أتيت باكراً جداً. كما تجد الطلاب والطالبات في حديقة الجامعة يتمشون ويتبادلون النكات "ذكراً وأنثى خلقهم الله". ولقد كتب احد المعلقين مشيداً بمعجزة سورية: وطن واحد، زعيم واحد، حزب واحد، ايديولوجيا واحدة، ثقافة واحدة، كتاب مدرسي واحد... قلنا: كمربعات لعبة الداما. وأهم من الوحدات السابقة، وحدة العقيدة. وعقيدة اليسار الشيوعي التقدمي السوفياتي لخصها ستالين في كتيبه الشهير "المادية الجدلية والمادية التاريخية" وله على ما أعلم ثلاث ترجمات الى العربية وهو في الأصل فصل وضعه ستالين من فصول "تاريخ الحركة الشيوعية" الذي وُضع باشراف ستالين. وعقيدتنا نحن هي "بعض المنطلقات النظرية" التي اقرها حزب البعث العربي الاشتراكي بشقيه السوري والعراقي في مؤتمره القومي السادس، تشرين الأول اكتوبر 1963، اذا صدقت ذاكرتي. اذكر اني قلت للرئيس حافظ الأسد في لقاء خاص في حضور العماد مصطفى طلاس، أواسط آب اغسطس 1970، وكان الرئيس اذ ذاك وزيراً للدفاع: أيجوز ان يفرض على سياسيي ومثقفي القطرين الطليعيين نص ضعيف فكرياً ومتناقض كالمنطلقات النظرية على انه الايديولوجيا التي يجب ان نسير كلنا على هديها؟ فالمقدمة التي هي ثلث المنطلقات وأكثر اعاد النظر فيها الاستاذ ميشيل عفلق الذي كان ما يزال يومها امين سر القيادة القومية بشواهد من المقالات التي جمعها تحت اسم في سبيل البعث ليبرهن على ان الايديولوجيا التي اعتمدت يوم التأسيس نيسان/ ابريل 1947 ما تزال هي هي. تلي ثلاثة فصول، الأول للوحدة والثاني للحرية والثالث للاشتراكية واضعها رحمه الله كان اذ ذاك بعثياً شيوعياً في بداية طريقه الى الفكر الماركسي. فهي نصوص شيوعية ضعيفة التأليف. لقد اضيفت الى المنطلقات نصوص اخرى كثيرة منها ما هو خُطب وبيانات رسمية ومنها ما هو دراسات سياسية عقائدية وضعها مثقفون حزبيون ونشرتها صحيفة المناضل الناطقة باسم حزب البعث العربي الاشتراكي. فالمناخ العام للحزب كان وما يزال عقائدياً قومياً وشيوعياً في آن واحد. الذي عناني من هذه النصوص كلها هو مقولة العقيدة التي اذا ترجمت الى الفرنسية او الانكليزية تشير الى العقيدة الدينية. كنت ولا أزال اتساءل عن السبب الذي دفعنا تلقائياً الى جمع فكرنا السياسي في مقولة دينية. وأذكر في جملة ما اذكر عن السبعينات والثمانينات من القرن الفائت ان الشيوعيين كانوا يومها يفاخرون بأن عقيدتهم علمية. وحقائق العلم ثابتة لا يحق لك ان تشك في صحتها. وكذلك من حيث المبدأ عقيدة حزب البعث العربي الاشتراكي. ذلك يرجع الى اننا، نحن العرب، تكوّنا في اطار الأديان السماوية، وتصرفنا، عندما دخلنا الى العمل السياسي القائم على ايديولوجيا سياسية، وكأنا أحللنا العقيدة السياسية محل العقيدة الدينية، أو كأنا نبحث عن دين عصري نزعم انه علمي محل ايمان اجدادنا. هذه النقلة التلقائية هي التي أجدها في أساس سلوكنا السياسي وتسويغنا لهذا السلوك. ان الذي استدعى النظام الثقافي - التربوي الذي حاولت رسم خطوطه الكبرى هو الحكم الشمولي، وله طرق في تنظيم السلطة ومؤسساتها السياسية والثقافية جعلها كلاسيكية الاتحاد السوفياتي. ومعلوم انه هيمن سياسياً وايديولوجياً طوال سبعين عاماً على نحو نصف سكان الكرة الارضية. كان هدف الفكر الماركسي كما بلوره اركانه في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والربع الاول من القرن العشرين هو تكوين حضارة تتجاوب مع الثورة الصناعية الأولى البخار والكهرباء وهي حضارة العمل والانسان العامل البروليتاري. ويشيرون بهذه الكلمة الى العامل المؤهل تقنياً. والانسان في جوهره كائن عامل، بالعمل المنتج يحقق ذاته. فالصراع الاجتماعي يقوم ويجب ان يقوم على نقل رأس المال المنتج الذي هو رصيد الجماعة المادي من البورجوازية التي احتكرته الى الشعب الذي أنتجه فهو صاحبه الشرعي. تلك هي الثورة البروليتارية. والشعب نقاباته ومنظماته المهنية الأخرى. فالماركسية بالأصل نظرية كلية اقصد انها تشمل كلية الإنسان وكلية مجتمعه، والكلي شمولي ديكتاتورية البروليتاريا. فالبروليتاريا بوصفها ثورة يجسدها قائدها لينين العظيم وخليفته ستالين العظيم ايضاً. وبوصفها إدارة ذاتية تتحقق في المجالس الشعبية سوفيات. وبوصفها قوة منتجة هي مزارع جماعية من نوعين: كولخوز وسوفخوز. لقد برهنت الثورة السوفياتية في بداياتها على انها بإمكانها التقدم بسرعة مذهلة في المجال الذي يتم فيه الصراع بين الدول المتقدمة على التحرك والإنتاج والتقدم، اقصد البحث العلمي. أوَلم تتمكن الدولة السوفياتية من اقتحام الفضاء الخارجي قبل اميركا؟! ما من شك في انها دفعت ثمن التقدم غالياً فضحايا ستالين بالملايين، والسؤال الذي يُطرح عندئذ: علامَ بدأت تتقهقر تدريجاً الى ان انتهت يوماً بالتفكك! سؤال خطير تعددت الإجابات عنه، الأمر المؤكد هو ان المجالس الثورية ومنها السوفيات وإدارة الإنتاج تحولت الى بيروقراطية. والبيروقراطية هي نقطة الضعف اليوم ولا شعار آخر في كل نظام اشتراكي. فما بالك اذا كانت الدولة المفترض فيها انها اشتراكية تقوم على بيروقراطية فقيرة مادياً ومعنوياً وفكرياً؟ تضخمت فترهلت وصارت عالة على الوطن المفترض فيها انها تديره وتدبر اموره؟ وإذا كان البحث العلمي الذي هو عامل التقدم في القرن العشرين وبعده ما يزال حتى اليوم في بداية بداياته؟ نحن العرب لم نأخذ نظام الحكم الشمولي عن الاتحاد السوفياتي. فالانقلابات العسكرية التي توالت على دول الوطن العربي وأطلقت كل منها على ذاتها اسم ثورة هي شأن عربي خالص لا نجد له مثيلاً إلا في افريقيا والبلدان المتخلفة الأخرى. إلا إذا استخدمنا النظام الشيوعي كغطاء لانقلاباتنا، والشيء المشترك بيننا وبين الاتحاد السوفياتي ايام حكم بريجنيف وبعده هو القمع المنهجي للحريات. على اي حال فإن للأنظمة الشمولية خصائص مميزة مشتركة بينها كلها هي ثوابتها، وأهمها: 1- حكم الفرد المفترض فيه انه ملهم اياً كانت درجة ذكائه، بيده السلطات كلها العسكرية منها والمدنية فهو مطلق الصلاحية. 2- الأجهزة السرية التي هي عيون الحاكم الفرد وآذانه في كل مكان ترصد حركات الناس ليلاً ونهاراً. 3- انت في نظر هذه الأجهزة مشبوه الى ان يثبت العكس، والإثبات ممتنع. فكأنك مدان، ولكن الحكم الصادر بحقك مؤجل التنفيذ. 4- التربية النمطية او التدجين. فالصحيفة والإذاعة المسموعة والمرئية والكتب المدرسية ومنظمات الشباب ومنها الطلائع وشبيبة الثورة وغيرها والنقابات... يجب ان تقول الشيء ذاته وهو الإيديولوجيا المعتمدة او العقيدة. وبكلمة يجب ألا تكون لك شخصية خاصة، يجب ان تذوب في الجماعة. وتلك حكمة التدجين التي هي وسيلة الحكم الشمولي المفضلة لتدبير امور مواطنين صاروا رعايا. ولكن لم ينتبهوا الى هذه الحقيقة الأساسية وهي انه بمقدار ما ان تغلب الشخصية الجماعية على الشخصية الفردية وفرادتها، بمقدار ما تتلاشى في الإنسان انسانيته التي هي حريته وقدرته على المبادهة. والإنسان الحر هو الذي يربح معركة الحرب ومعركة السلم. وننسى كلنا حكاماً ورعية ان معركتنا نحن العرب مع اسرائيل، مع اميركا... مع الدول العدوة والدول الصديقة هي بالدرجة الأولى معركة حضارية. لننتبه الى هذا الواقع العربي المر حضارياً. إن عددنا اليوم بحدود ال250 مليوناً، وإذا تساءلنا من اين تستمد هذه الملايين من البشر معلوماتها عن الوضع الراهن للعالم؟ أمنَ الإذاعات العربية ام من إذاعة لندن ام من الإنترنت التي صارت بمتناول كل انسان يجيد استخدام الكومبيوتر، والإجادة هذه بمتناول كل انسان. السؤال هذا يستثير اسئلة كثيرة نجد معطياتها في احصاءات اليونيسكو منها على سبيل المثال ما يلي: 1- في كل دولة عربية دائرة لمحو الأمية، وفي احصاءات اليونيسكو ان عدد الأميين في الوطن العربي بحدود ال70 مليوناً جلهم من النساء. والأمية في عصر صار فيه العلم وصارت التكنولوجيا من مستلزمات الحياة اليومية، مرض يجعل من الأمي عضواً اشل في المجتمع. 2 - ومن ثم لقد أشرت الى ان البحث العلمي هو اليوم المحرّك الأقوى والأنجع للتاريخ الإنساني. ودوائر البحث العلمي صارت من المستلزمات الأكثر اساسية للدولة وعنوان اسهامها في تقدم البشرية، فما عدد هذه الدوائر في الوطن العربي؟ وإذا كان ثمة دوائر فما عدد البحوث التي نقدمها نحن العرب للعلم الذي يتطور بسرعة مذهلة؟ هذا العدد بحدود الصفر مع ان عدد الباحثين العرب من ذوي الاختصاصات الرفيعة كبير. لكن كلهم يعملون في اوروبا او في اميركا لأن المجتمع العربي لم يتمكن حتى اليوم من تنظيم ذاته حيث يفيد من هؤلاء المتخصصين. 3- لقد أخفقت المشروعات المشتركة بين العرب ومن جملتها السوق العربية المشتركة ومشروعات الأمن الغذائي وغيرها. وأن اي دائرة للتأليف والترجمة جادة في اي قطر تنتج من الكتب المؤلفة والمترجمة اكثر عدداً وأرفع مستوى مما تنتجه اليونيسكو ألكسو. 4- الواقع هو ان الحاكم العربي يحتقر الثقافة والمثقفين. فلا اعرف وزارة للثقافة في الوطن العربي رسمت خطة للثقافة او إذا شئت لإنتاج الكتب المترجمة او المؤلفة او للمجلات الثقافية. وكل مدير دائرة يرتجل والارتجال هو غالباً آني. 5- لقد تقدم الأدب العربي بشكل ملحوظ في مجالين هما الشعر والرواية. وهذا جانب ايجابي من حياتنا الثقافية. ولكن في المقابل تقهقر الفكر. فعدد الكتب الفكرية التي غالباً ما تأتينا من المغرب العربي والجديرة حقاً بهذا الاسم لا تتجاوز عدد اصابع اليدين. هذا التصور يرتكس على الشعر والأدب... وعلى تصورنا الوحدة العربية التي صارت اكاد أقول اسماً بلا مسمى. وما يمكن ان نسميه السياسة العربية هو مجموعة تسويات تُعقد وتُفك في اطار الجامعة العربية. الأدهى من كل ما تقدم هو ان العديد من اقطارنا يتصرف كأن التاريخ توقف عند الحركة الانقلابية التي صار فيها حاكمها حاكماً. فبالنسبة الى مصر هذا اليوم المشهود هو يوم حركة الضباط الأحرار أزاحت الملك وتسلمت الحكم وبعد سنة بدأ نظام الرئيس جمال عبدالناصر الشمولي الذي صار النموذج الأمثل للحاكم العربي. اما بالنسبة الى القطر العربي السوري فانقلاب آذار مارس 1963 وتصحيح 1970 عندهما توقف التاريخ. فإذا أردت ان تكتب او تفكر او تتصرف سياسياً فعليك ان تستخدم اللغة التي دخلت في التداول مع "المنطلقات النظرية"، مع العلم ان منعطفين كبيرين في تاريخ البشرية حصلا، الواحد 1970 مع الثورة الإلكترونية والمعلوماتية والثاني في 11 ايلول سبتمبر 2001 مع الهجوم على برجي التجارة في نيويورك ووزارة الدفاع في واشنطن، ورد فعل اميركا على هذه النكبة التي اصابتها في عقر دارها ونتائجها المستمرة حتى اليوم وإلى زمن طويل، بدأ القرن الواحد والعشرون. ربما تذكر القارئ اني تقدمت برسالة مفتوحة رفعتها الى مقام سيادة رئيس جمهوريتنا الدكتور بشار الأسد غداة ألقى الخطاب الذي رسم فيه سياسته عشية 17 تموز 2001، ومضمون رسالتي المقتضبة التي وضعتها صبيحة يوم 18 تموز هو ان الانقلابات العسكرية المتوالية على القطر منذ عام 1949 جعلت الشعب ينكفئ على ذاته ويقف موقف الحياد غير الإيجابي من السلطة وقد نتج عنها انهيار في العمل السياسي والاجتماع والثقافي. والانهيار الثقافي هو انهيار انساني. عندما يستيقظ الحاكم لقد قرأت بما امكن من الدقة مقالك يا سيدي في جريدة "السفير" اللبنانية وبعض الردود عليه. استوقفتني منه الفقرة قبل الأخيرة حيث تقول: "في سورية ليس هناك معادون للنظام القائم فيها. وإنما هناك "معارضون" له غير ان معارضتهم هذه لا تندفع الى ما هو ابعد من المطالبة بتحقيق بعض الإصلاحات السياسية والاقتصادية مثل إلغاء حالة الطوارئ وإنهاء الأحكام العرفية وإصدار قانون الأحزاب وترشيد توزيع الثروة الوطنية". وتضيف متداركاً: "غير ان ذلك وإن كان يبعث على الحذر من استغلال دعوى محقة يراد بها باطل... بمعنى استغلال النيات المخلصة لدى الحكم لترسيخ الحال الوطنية بالانفتاح على جميع القوى لأغراض لا تخص الوطن والوطنيين"، وتضيف ايضاً: "على انه ينبغي الاعتراف ايضاً بأن مواقف هؤلاء المعارضين يجب ألا تكون سبباً في النيل من عزيمة الحكم على تمنيع الحالة الوطنية...". فاسمح لي ببعض الملاحظات، 1- من المناسب الاعتراف بادئ ذي بدء بأن الحكم في سورية كما في بقية الأقطار العربية هو حكم شمولي، وفي الحكم الشمولي لا يمكن ان تكون هناك معارضة لسبب بسيط هو انه "شمولي" اي انه يتناول بحكمه كلية الفرد وكلية المجتمع. 2- ان ما تسميه "تحقيق بعض الإصلاحات الاقتصادية والسياسية مثل إلغاء حالة الطوارئ وإنهاء الأحكام العرفية" هو لا اكثر ولا أقل من إبدال الحكم الشمولي بحكم ديموقراطي. 3- فما معنى إذاً لقولك "ترسيخ الحالة الوطنية بالانفتاح على جميع القوى". إن مادة واحدة في الدستور هي النشاز وتحمل الرقم 8 إذ تجعل من حزب البعث العربي الاشتراكي حزباً قائداً للدولة والمجتمع وهذا هو الأصل الدستوري للحكم الشمولي. ان الدستور السوري يضمن الحريات العامة التي تعطّلها الأحكام العرفية وتصير عندئذ اعلى من الدستور. ومع ذلك فعام 1973 الذي وُضع فيه الدستور السوري صار من الماضي البعيد، البعيد جداً، بعد ان كان ما كان من تحولات عالمية نقلتنا مرة وككل مرة من القرن العشرين الى القرن الواحد والعشرين. ان انهيار الاتحاد السوفياتي وضع القطر العربي السوري والأقطار العربية الأخرى في مأزق ايديولوجي خطير، اذ جعل من مقولاتنا السياسية - التقدم، الاشتراكية، الوحدة العربية... - كلمات فارغة من كل محتوى. إن "المجتمع المدني" الذي كان موضوع الخصومة بين المثقفين والحكم هو في أصح تعريفاته الإطار الاجتماعي الطبيعي للوجود الإنساني. والإنسان موجود اجتماعي، وعكسه المجتمع الشمولي الذي هو استثنائي حتى ولو امتد على سنوات وسنوات. وما من شك عندي في ان القنابل التي سقطت على العراق قد أيقظت الحاكم العربي من سباته الطويل، ولكنه عندما استيقظ وجد ذاته امام فراغ هو الذي يربكه الآن. لقد نسي ابلغ درس يلقيه علينا التاريخ المعاصر الذي هو انهيار الاتحاد السوفياتي الذي قتل في الإنسان انسانيته فلم تشفع له إنجازاته التقنية الهائلة. وبكلمة فإن السلطة للإنسان وليس الإنسان للسلطة. * كاتب سوري.