نشرت "الحياة" في 9 شباط فبراير 2000 مقالاً لهشام الدجاني في عنوان "اصوات الرأي العام السوري… والصمت العجيب تجاه قضية السلام"، كسر القشرة وخرج من الشرنقة وظهر لنا الكاتب من جديد، حالة من العصيان والتمرد على اللغة والمفردات والقيم التي سكنت وعي ووجدان الاجيال التي عايشت المشروع القومي. فما الذي قاله الكاتب حين خرج عن صمته؟ قال: "إننا لا نستطيع استرجاع الارض المحتلة من دون قيد او شرط. ولا بد بالتالي من تقديم بعض التنازلات على صعيد المياه والترتيبات الامنية وتطبيع العلاقات مع الاسرائيليين". و: "ان مصر العربية حين فاوضت وأبرمت اتفاق كامب ديفيد وأقامت علاقات ديبلوماسية لم يُنتَقص من مكانتها شيء". و: "نحن بدورنا نستطيع ان نحاور المثقفين الاسرائيليين الذين يؤيدون قضية السلام والذين يخشون الحوار مع الاسرائيليين يفتقرون الى الاصالة والثقة بالنفس". و: "ان رافضي التطبيع مع اسرائيل ينصّبون من انفسهم اوصياء على الثقافة ويمارسون الارهاب ضد غيرهم. ونحن لا ننكر عليهم حقهم في الرفض. وليس من حقهم ان ينكروا علينا حرية التعبير". قبل عام تقريباً دار بيني وبين الكاتب سجال على صفحات "الحياة" حول الاصلاح الاداري والاقتصادي ومواجهة الفساد ومستقبل القطاع العام. واليوم اجد نفسي مضطراً لمعاودة السجال معه من موقع مغاير بصورة جذرية لنمط التفكير والاصطفاف السياسي والثقافي: كثيرون مثل جيمس روبن الناطق الرسمي لوزارة الخارجية الاميركية يظنون او يعتقدون بأن المجتمع السوري مجتمع حكومي مغلق. زوت فيه الثقافة وغاب عنه الحوار. ولكن سرعان ما يعدلون عن هذه الآراء عند اول زيارة لهم للعاصمة السورية. فلقد سمعت مثل تلك الآراء من مثقفين عرب بارزين ولكن سرعان ما تخلّوا عنها عندما أُتيحت لهم المشاركة في نشاطات ثقافية سورية. وتعرّفوا عن قرب على الجسم الثقافي. ورأوا بأم عينهم حالة الثقافة والمثقفين. فليس من الضروري ان تأخذ الديموقراطية شكلاً واحداً ووحيداً يتماهى مع النموذج الليبرالي الغربي. فالتجربة الثقافية في سورية والحوارات التي تدور بصورة واسعة تشكل نوعاً من التناول الديموقراطي لمجمل المسائل المطروحة، والمجتمع السوري طوّر اسلوباً خاصاً يتمثل في معالجة القضايا السياسية والاقتصادية انطلاقاً من التناول الثقافي لتلك المسائل فالسياسي والاقتصادي يتم التعبير عنه من خلال ما هو ثقافي. والمثقفون السوريون يدلون بآرائهم، وهي مسموعة ومحترمة، ويعرف الدجاني ان كبار المسؤولين يشاركون في الندوات الثقافية، فثمة فرق واضح بين الصمت وبين الصراخ. ثمة خلط بين مفهوم السلام الشامل والعادل وبين مفهوم التسوية، فالسلام الشامل ينطلق اساساً من الاعتراف بالحقوق التاريخية للعرب. جميع الحقوق التي تنطبق فيها الحدود الجغرافية على الحدود السياسية، اما التسوية فهي محاولة لاحتواء حالة معينة وضبطها انطلاقاً من موازين القوى وبعض الاعتبارات والمصالح. وانطلاقاً من هذا الفهم فان الجانب الاسرائيلي هو الذي يقوم بتدمير عملية السلام، ويحاول ان يفرض على العرب تسوية الامر الواقع وتوقيع صك الهزيمة. اذن، فالقضية ليست قضية تفاؤل وتشاؤم كما يراها الكاتب، بل هي قضية رؤية سياسية ووطنية، فهناك من يرى الحقائق واضحة من غير لبس وهناك من اصيب بالعمى السياسي وغياب الحس التاريخي، او من ارتضى ان يندمج طواعية بالمشروع الصهيوني. وبالتالي فان مثل هذا المقال كان ينبغي ان يتوجه به الكاتب للاسرائيليين بصورة عامة ولمثقفيهم بصورة خاصة ليقتنعوا هم اولاً بضرورة السلام، وليدركوا بأن لا مستقبل لهم من دون الاعتراف بحقوق العرب التاريخية والاندماج بالمنطقة وثقافتها والتخلي عن المشروع القائم على العدوان والتوسع والاجلاء والهيمنة. اذا اردنا ان ننظر الى السلام من منظور تاريخي وايديولوجي فاننا نستطيع ان نقول ان المنطقة العربية لا تتسع لمشروعين في آن واحد: المشروع القومي العربي، والمشروع الصهيوني. وفي المقابل عندما نتحدث عن قضية السلام انطلاقاً من منظور سياسي واقعي وعملي يجب الا يغيب عن بالنا ايضاً بأن الطرفين المتفاوضين اليوم يحاول كل منهما، عبر المفاوضات، تحقيق الاهداف السياسية التي لم يستطع تحقيقها عبر الصراعات والحروب القديمة، وهذا يعني ان المفاوضات هي شكل من اشكال الصراع يمليه ميزان القوى والوضع الاقليمي والدولي، وربما يكون الشكل الاكثر صعوبة وتعقيداً من الاشكال الاخرى. ففي الوقت الذي نلاحظ تمسك الجانب السوري بهذا البعد لقضية المفاوضات تاركاً الابواب والامكانيات مفتوحة للاجيال القادمة لمواصلة ذلك الصراع التاريخي بالاشكال المواتية والممكنة، نلاحظ في المقابل التصميم الاسرائيلي على ان تكون المفاوضات والاتفاقيات المدخل والبوابة التي تفضي الى تصفية ذلك الصراع بصورة نهائية وبالشروط الاسرائيلية والاميركية. ومن دون التأسيس الحقيقي لسلام شامل وعادل ينطلق اساساً من تنفيذ قرارات الاممالمتحدة والانسحاب من جميع الاراضي العربية المحتلة، والاعتراف بالحقوق التاريخية للعرب. ومكونات القوة في الموقف السياسي السوري تتجلى اولاً بوضوح الموقف وعدم قابليته للاجتهاد والتفسير وعدم قدرة الاسرائيليين على استجرار المفاوض السوري الى ساحة الابتزاز والتنازل كما فعلوا ويفعلون على المسارات الاخرى. وعلى ارتكاز الموقف على قرارات الاممالمتحدة والشرعية الدولية ومنطق الحق والعدل المدعوم بورقة المقاومة الوطنية اللبنانية في الجنوب المحتل، والتذكير بخطورة وامكانية تطوير وتوسيع هذا الخطاب الاستشهادي والمعرفة العميقة لاهمية الموقع الجيوسياسي لسورية والذي اسهم في بلورة قناعات اقليمية ودولية مفادها بأن لا سلام حقيقياً في المنطقة من دون سورية وفي المقابل فان السلام معها مدخل للسلام مع كل العرب…! لكن المكوّن الابرز في تلك العناصر ان سورية كانت وما زالت تعتبر كيانها الوطني القطري هو كيان موقت، ومنذ الاحتلال العثماني والاحتلال الفرنسي في ما بعد كان نزوع سورية الى الاستقلال يعني النزوع الى الوحدة. وقد بنت استراتيجيتها على انها دولة الامة سواء في اطار المشروع السوري الكبير او في اطار المشروع القومي العربي الأعم والأشمل. وهي المدافع عن المصالح الوطنية والقومية وهي الآن المعقل الاخير في الدفاع عن النظام العربي لانها تعتقد بأن السلام العادل والشامل لا يمكن ان يتحقق من خارج النظام العربي. ولعل احد اهم دواعي قيام "الحركة التصحيحية" في العام 1970 هو ردّ الاعتبار لهذه الاستراتيجية واعطاء الاولوية للقضية الوطنية. ان قبول سورية الدخول للمفاوضات لا يمكن ان يعني مسّ هذه الحقيقة او التفريط فيها، فقد سبق ان عرضت عليها تلك المقايضة اعادة الجولان مقابل الخروج من النظام العربي ولم تقبل بذلك، وهي تدرك اليوم وهي تدخل المفاوضات ان الجانب الاسرائيلي يسعى الى نسف هذه الحقيقة والى اختراق البنية السياسية السورية واحتوائها والحاقها بالنظام الدولي الجديد ودمجها في البنية الاميركية الاسرائيلية المهيمنة على ذلك النظام. تنظر سورية الى المفاوضات والتسوية بوصفها فعلاً من افعال السيادة. وبالتالي ليس من حق احد على الاطلاق الزامها بتوقيع اي اتفاق ينتقص من مفهوم السيادة، وانطلاقاً من ذلك فان سقف ما يمكن ان يقدمه المفاوض السوري هو انهاء حال الحرب فقط وما عدا ذلك يمكن قبوله او رفضه من جانب واحد هو الجانب السوري "وفي اطار الحالة الاعتيادية في العلاقات بين الدول" ومن دون ان يكون في صلب اتفاق السلام، في حين يصرّ الجانب الاسرائيلي على ان تقدم سورية التنازلات. واعطاء الاولوية للقضايا المتصلة بالمياه والترتيبات الامنية وعلاقات ما بعد السلام كالتطبيع والعلاقات الديبلوماسية، وبصورة تنتقص وتمسّ من مفهوم السيادة.، ويصرّ على تكريس كل ذلك في صلب الاتفاق! ويمثل "حزب البعث العربي الاشتراكي" المرجعية الفكرية والعقائدية للنظام السياسي في سورية وبالتالي فان من حقه فقط ان يعيد النظر في بعض افكاره وبرامجه في اطار فهمه للمتغيرات المحلية والدولية، وفي اطار اعادة انتاج الوعي المناسب للاستحقاقات والمتطلبات المستجدة، وهذه المسألة تخصه وحده، كتعبيره عن الارادة الوطنية، والخيارات المستقلة. وبالتالي فهو الذي يحدد ويقرر الكيفية التي يتجدد فيها وآفاق التطور السياسي والايديولوجي ومنظومة الثوابت، ولا يمكن ان تُفرض عليه من الخارج. ولعل من نافلة القول ان المفاوض السوري يحرص اشد الحرص على عدم المساس بهذه المرجعية علماً ان هذه الثوابت ليست فقط ثوابت "البعث" بل هي ثوابت الحركة الوطنية السورية بكل تعبيراتها سواء كانت داخل السلطة او خارجها. في حين نلاحظ ان الجانب الاسرائيلي لا يخفي مطالبه وذرائعه ويسعى لأن يتضمن اتفاق السلام بنوداً تهدد بنسف هذا الغطاء الايديولوجي. في الوقت الذ يمعن فيه في تعصبه القومي واصوليته الدينية وتطرفه العنصري. وتدخل سورية المفاوضات في مسعى لاستعادة الجولان والعودة الى حدود 4 حزيران يونيو 1967 وهذا يعني ان ليس لديها ما تقدمه سوى انهاء حالة الحرب كما اشرت سابقاً لانها الطرف المُعتَدَى عليه. ولأن قرارات الاممالمتحدة ايضاً لا يمكن ان تخضع لمنطق المساومة لكي لا تتحول من قرارات دولية يطالب بتنفيذها المجتمع الدولي الى قرارات اسرائيلية يعبث بها كما يريد. ولا يعقل ان يقدم المعتدى عليه مكافأة للمعتدي كما يقترح هشام الدجاني ويطالب ب"تقديم التنازلات على صعيد المياه والترتيبات الامنية والتطبيع". ان الجانب الاسرائيلي هو من ينبغي عليه ان يدفع ثمن احتلاله لأراضي الغير بالقوة وثمن سياسته العدوانية التوسعية. والواجب الوطني يدفعنا للتعاطي مع قضية السلام كمن يتجرع كأساً من السم، وان الكرامة الوطنية التي يشير اليها الدجاني لا تتصل باعادة الجولان بالشروط التي يقترحها، لأنها ربما تفضي من حيث النتيجة الى استعادة الجولان ولكن بثمن قد يفوق قيمة الجولان نفسه. كان من المتوقع من الدجاني في ضوء التجربة السورية الخاصة التي تعالج ما هو سياسي واقتصادي انطلاقاً مما هو ثقافي، ان يدعو المثقفين السوريين وغيرهم الى تكوين فرق عمل متخصصة يكون همها منصباً على استكشاف الاساليب والمناهج التي من شأنها ان تشكل آليات دفاع يستند اليها المفاوض السوري وهو يحاول ان ينجز تسوية بأقل الخسائر مع الجانب الاسرائيلي. ومن الممكن لهذه الفرق ان تنتج آليات دفاع مناسبة في شتى الميادين، ابتداءً من خلق معادل اعلامي حقيقي للموقف السياسي قادر على مواجهة الاعلام المضاد الذي يتمثل في بعض نقاطه بالدعوة الى انخراط المثقفين في حوار مع المثقفين الاسرائيليين بدلاً من الدعوة الى الحوار بين المثقفين في سورية وخارجها وكذلك ايضاً بالنسبة لآليات الدفاع النفسية والاجتماعية والاقتصادية والحضارية بصفة عامة آخذين بعين الاعتبار وضع البدائل المناسبة في حال تعثر وفشل التسوية. هذا ما كان ينبغي ان يدعو اليه الكاتب لا الدعوة السافرة الى "الحوار والتطبيع وتقديم التنازلات". * كاتب. نائب سابق في مجلس الشعب في سورية