تحديات "الصناعة والتعدين" على طاولة الخريف بهيئة الصحفيين السعوديين بمكة اليوم    ارتفاع أسعار الذهب إلى 2719.19 دولارا للأوقية    القيادة تهنئ رئيس جمهورية سورينام بذكرى استقلال بلاده    استمرار هطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    مدينة الأمير عبدالله بن جلوي الرياضية تستضيف ختام منافسات الدرفت    البريد السعودي يصدر طابعاً بريدياً بمناسبة اليوم العالمي للطفل    أمير الشرقية يفتتح أعمال مؤتمر الفن الإسلامي بنسخته الثانية في مركز "إثراء"    الدفاع المدني يحذر من الاقتراب من تجمعات السيول وعبور الأودية    الاتحاد يخطف صدارة «روشن»    دربي حائل يسرق الأضواء.. والفيصلي يقابل الصفا    تهديدات قانونية تلاحق نتنياهو.. ومحاكمة في قضية الرشوة    لبنان: اشتداد قصف الجنوب.. وتسارع العملية البرية في الخيام    مذكرة تفاهم بين إمارة القصيم ومحمية تركي بن عبدالله    بركان دوكونو في إندونيسيا يقذف عمود رماد يصل إلى 3000 متر    «التراث» تفتتح الأسبوع السعودي الدولي للحِرف اليدوية بالرياض    المنتدى السعودي للإعلام يفتح باب التسجيل في جائزته السنوية    جامعة الملك عبدالعزيز تحقق المركز ال32 عالميًا    «العقاري»: إيداع 1.19 مليار ريال لمستفيدي «سكني» في نوفمبر    16.8 % ارتفاع صادرات السعودية غير النفطية في الربع الثالث    «التعليم»: السماح بنقل معلمي العقود المكانية داخل نطاق الإدارات    لندن تتصدر حوادث سرقات الهواتف المحمولة عالمياً    صفعة لتاريخ عمرو دياب.. معجب في مواجهة الهضبة «من يكسب» ؟    «الإحصاء» قرعت جرس الإنذار: 40 % ارتفاع معدلات السمنة.. و«طبيب أسرة» يحذر    5 فوائد رائعة لشاي الماتشا    في الجولة الخامسة من دوري أبطال آسيا للنخبة.. الأهلي ضيفًا على العين.. والنصر على الغرافة    في الجولة 11 من دوري يلو.. ديربي ساخن في حائل.. والنجمة يواجه الحزم    السجل العقاري: بدء تسجيل 227,778 قطعة في الشرقية    السودان.. في زمن النسيان    لبنان.. بين فيليب حبيب وهوكشتاين !    مصر: انهيار صخري ينهي حياة 5 بمحافظة الوادي الجديد    «واتساب» يغير طريقة إظهار شريط التفاعلات    اقتراحات لمرور جدة حول حالات الازدحام الخانقة    أمير نجران: القيادة حريصة على الاهتمام بقطاع التعليم    أمر ملكي بتعيين 125 عضواً بمرتبة مُلازم بالنيابة العامة    ترحيب عربي بقرار المحكمة الجنائية الصادر باعتقال نتنياهو    تحت رعاية سمو ولي العهد .. المملكة تستضيف مؤتمر الاستثمار العالمي.. تسخير التحول الرقمي والنمو المستدام بتوسيع فرص الاستثمار    محافظ جدة يطلع على خطط خدمة الاستثمار التعديني    الإنجاز الأهم وزهو التكريم    نهاية الطفرة الصينية !    أسبوع الحرف اليدوية    مايك تايسون، وشجاعة السعي وراء ما تؤمن بأنه صحيح    ال«ثريد» من جديد    الأهل والأقارب أولاً    اطلعوا على مراحل طباعة المصحف الشريف.. ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة يزورون المواقع التاريخية    أمير المنطقة الشرقية يرعى ملتقى "الممارسات الوقفية 2024"    «كل البيعة خربانة»    مشاكل اللاعب السعودي!!    انطلق بلا قيود    تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين ونيابة عنه.. أمير الرياض يفتتح فعاليات المؤتمر الدولي للتوائم الملتصقة    مسؤولة سويدية تخاف من الموز    السلفية والسلفية المعاصرة    دمتم مترابطين مثل الجسد الواحد    شفاعة ⁧‫أمير الحدود الشمالية‬⁩ تُثمر عن عتق رقبة مواطن من القصاص    أمير الرياض يكلف الغملاس محافظا للمزاحمية    اكثر من مائة رياضيا يتنافسون في بطولة بادل بجازان    محمية الأمير محمد بن سلمان تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش    "الحياة الفطرية" تطلق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    قرار التعليم رسم البسمة على محيا المعلمين والمعلمات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الرأي الآخر والكلمات الفارغة . تأملات في السياسة العربية منذ اوائل القرن العشرين حتى أيامنا وفي المستقبل المنظور 1 من 2
نشر في الحياة يوم 20 - 12 - 2000

الرأي الآخر هو هنا آخر بالنسبة للرأي الرسمي، أقصد ايديولوجيا الحاكم، أو مجموعة المفاهيم التي توجه سياسة الحكم، وأصنفها من وجهة النظر العربية في ثلاث زمر.
1 - الشعب، ارادته وحقوقه.
2 - الوحدة وسيادة العربي على أرضه.
3 - الثورة والتحرر فالحرية.
هل تلخصها ثلاثية "البعث" وحدة حرية اشتراكية؟ ممكن ولكن مع الشرح والتفسير. أما أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة فخاصة بسورية، وتُذكِّز بإيديولوجيا النازية، وكانت ما تزال حتى أواسط الأربعينات وبعدها تسيطر على عقول كثيرين من المثقفين والسياسيين العرب، يعتمدونها بتنظيم حركاتهم السياسية. أضف مفهوم العروبة وهو القاسم المشترك بيننا الأرسخ والأمتن، من حيث انَّا نتكلم لغة واحدة ونشترك في تاريخ واحد وتراث واحد.
ولا بد لي بادئ ذي بدء من ايراد ثلاث ملاحظات يجدر بنا أخذها في الاعتبار عند التأمل في السياسة العربية منذ أوائل القرن العشرين حتى أيامنا وفي المستقبل المنظور:
الأولى، ان فسحة السياسة العربية كانت في البداية تكاد تكون مقتصرة على مصر والهلال الخصيب، وتتسع بُعيد الحرب العالمية الثانية فتشمل من جهة الجزيرة العربية ومن جهة أخرى المغرب العربي من الخليج الى المحيط مما سيبدل باستمرار توازن القوى على الساحة العربية.
الثانية هي ان منطقة الهلال الخصيب ذات قيمة استراتيجية دولياً هائلة، أوَلا تشكل مند القدم ممراً وفسحة لقاء للتجارة العالمية وللجيوش التي تحميها، ثم ان في جوفها احتياطياً بترولياً لا يستهان به، إذا أضيف اليه احتياطي ليبيا وشبه الجزيرة العربية، تُشكل عندئذ البلاد العربية أكثر من نصف احتياطي بترول العالم.
ولهذا - وهذا ثالثاً - كانت خريطتنا ما تزال وستبقى لزمن طويل موضوع تسويات بين الدول العظمى، لكل منها حصة تتناسب، في ظرف معين، مع رصيدها المالي والعسكري والإعلامي وأيضاً مع مستلزمات التوازن بين دول حوض البحر الأبيض المتوسط، فمنطقة الهلال الخصيب بشكلها الراهن حصيلة اقتطاعات والحاقات بدّلت معالمها وهوياتها أكثر من مرة. مثال سورية، فبعيد الحرب العالمية الثانية أخذت منها منطقة ماردين وديار بكر وألحِقت بتركيا الكمالية لتدعيم دولتها الناشئة، كما ان تشرشل جعل من شرق الأردن الذي هو امتداد لسورية، كما يقول في مذكراته، ثكنة لجيش من البدو يؤطره ويدربه ضباط بريطانيون، كي يشكِل خطاً ثنائياً للدفاع عن الترعة أي قناة السويس إذا هُدِّدت جدياً. وكانت إذ ذاك الخط البحري الرئيسي للتجارة العالمية. وتقتطع فرنسا من سورية بين الحربين أقضية خمسة حاصبيا، راشيا، مرجعيون، البقاع وطرابلس تلحقها بلبنان كي يصير قابلاً للحياة بفعل قوته الذاتية، وأطلق عليه يومها اسم لبنان الكبير. ويقدم الحلفاء عام 1938 لواء الاسكندرونة هدية، أقله كي تقف على الحياد في الصراع الملحمي الآتي بلا ريب.
ثمة دول تُستحدث بقرار سياسي. فتشرشل اياه يعلن بلا مواربة: "حيث توجد بئر بترولية سأقيم دولة". وفي المقابل فثمة اتنيات وأقليات قومية تطمس معالمها وتُلحق بغيرها أو تُخترق من الداخل فتتفاقم مشكلاتها ويزيد شتاتها، فلا تطالب بجمع شملها في دولة واحدة، هذا الوضع غير المستقر ينسحب على الأمم المتخلفة تقريباً كلها، ويطرح على كل منها مسألة هويتها. ما من شك في ان قبول دولة في عضوية هيئة الأمم يمنحها هوية سياسية، سياسية وحسب. الهوية القومية ينشئها تلقائياً الشعب عندما يستيقظ، أيضاً تلقائياً، الى ذاته، فرادته، تاريخه، موقعه من العالم... ويشكل أحزابه، جمعياته، مؤسساته الاجتماعية وغيرها... ودولة ترسم له خط سيره نحو المستقبل، الشعب تاريخه قبل كل شيء، فالهوية يجب أن تكون سياسية تاريخية، وتلك كانت وما تزال وستبقى لزمن طويل مشكلة الأمم المتخلفة: انها أمم موزعة كل منها على دول. فالدولة عاجزة عن صهر الأقليات والاتنيات والأعراق والطوائف... التي تتألف منها.
السوري يردد عفوياً منذ الأربعينات على ما أذكر: أنا عربي سوري، يقصد انه عربي قبل أن يكون سورياً. هذه في الواقع تمنياته وتمنيات دول الهلال الخصيب: ان نكون عرباً، أما في جواز سفري وفي نظر القانون الدولي فأنا سوري، سوري وحسب.
ان عمر الدولة السورية يكاد يناهز نصف قرن ونيف 1945 - 2000 خلالها حدثت تبدلات في الوضع السياسي والسكاني والدولي عندنا وحولنا. في البداية كان نضالنا نحن واخوتنا في العراق من أجل الاستقلال. تلاه بعد الاستقلال معركة داخلية مع كبار الملاكين والاقطاعيين، هذه حرَّضتها الأحزاب السياسية في القطرين البعث، الحزب الشيوعي وبالدرجة الأولى الحزب العربي الاشتراكي. رهان المعركة كان بادئ ذي بدء من أجل الحصة من الناتج الزراعي التي يمنحها القانون لكل من الفلاح والاقطاعيين، وهذا يعني الغاء الإتاوات والخدمات الكثيرة التي كان يقدمها الفلاح مجاناً للاقطاعي. المعركة هذه بدأ يربحها الفلاح في بعض القرى من منطقة حمص، يلي مبدئياً الكفاح من أجل ملكية الأرض.
المعركة هذه لم تهدأ، أوقفتها الانقلابات العسكرية التي توالت في القطرين، لكل انقلاب ظروفه، خصوصياته وزعيمه وقيادته... وكانت كأنها بمثابة تمهيد، بروفات أولى لنموذجها الأمثل الذي هو انقلاب الضباط الأحرار في مصر بقيادة محمد نجيب ومن ثم بعده بسنة بقيادة جمال عبدالناصر.
في أواسط الأربعينات بدأت تتشكل في سورية بورجوازية رأسمالية بطيئة الحركة، أرعبتها الانقلابات فلن تغامر بكل رؤوس أموالها، أما في مصر فقد بدأت تتشكل بورجوازية مع هجرة كبار الملاكين من الريف الى المدينة، أوائل القرن التاسع عشر. فتنمو فتشكل مع الوفد بعيد الحرب العالمية الأولى دولة برلمانية على الطريقة الغربية، هذه أوقفتها حركة الضباط الأحرار.
منعطف جمال عبدالناصر
لا شك في ان الرئيس جمال عبدالناصر هو أول قائد ظهر في العالم العربي من مستوى عالمي بعد صلاح الدين والظاهر بيبرس. فالمعارك التي خاضها - تأميم القنال، أول وحدة عربية، بناء السد العالي وغيرها. أهّلته لأن يشترك مع نهرو، تيتو، شوان لي في تأسيس حركة عدم الانحياز التي شغلت أكثر من نصف العالم، بهذا صار من قادة القرن العشرين وبُناته.
بادئ ذي بدء جمّع في مصر بيده السلطات والمؤسسات كلها، السياسية منها والاقتصادية والثقافية والاعلامية وغيرها، فهو الدولة والدولة هو، وكان على درجة من قوة الشخصية وجاذبية لا تُرَد مكَّنته من ايقاظ اعماق شعوب العالم العربي كلها - من الخليج الى المحيط - وربطها بشخصه فهي هو وهو هي، أذكر اني قضية عشرة أيام 1957 في الأطلس المتوسط للاشتراك في مؤتمر تربوي عالمي احتفالاً بمرور عام على استقلال المغرب، وكنا نأوي ليلاً الى قرية ازرو نستريح الليل فيها، وأَدهش عند زيارتي الصباحية للمرة الأولى بسوق القرية كيف تجمَّع الناس حولي شام شريف واعتقادهم الجازم الذي لم يكن بوسعي الا ان أوافق عليه، وخلاصته ان عبدالناصر يجنِّد جيشاً مصرياً سورياً يحررهم من الفقر ويزيل الفارق بينهم وبين العرب إذ كانوا من البربر، يتكلمون العربية بصعوبة، كما انه سيحرر الإسلام، فلا عجب إذا كان عبدالناصر قد أعدم زعماء الاخوان المسلمين ليجعل زعامة الإسلام بيده وحده. كما ان انقلابه الذي جعل منه ثورة يجمِّع فيه الانقلابات، والثورات بما فيها الثورة الجزائرية في ثورته هو، ثم يحاول توحيد العرب كلهم ليقيم وحدة شاملة هي وحدته هو.
انه كستالين أبو الشعب، أوَلم يتوجه يوماً الى المصريين ليقول "من أين أجبلكم 90 مليون رغيف كل يوم" وكان عدد سكان مصر إذ ذاك 30 مليون نسمة. فبيده وحده فقر الشعب وغناه.
أوَليس هو أول مَن وزَّع بشكل منهجي شامل أراضي الاقطاعيين وكبار الملاَّكين في مصر وسورية على الفلاحين؟ وأمَّم الصحف وبدأ، ان لم يكن بتأميم الورشات الصناعية، فباخضاعها لإشراف الدولة المباشر.
عندما بدأت الأفكار
تصير كلمات فارغة
قلت: علامَ اخفقت أول وحدة عربية بين مصر وسورية 1958 مع ان الجماهير من الخليج الى المحيط هلَّلت لها ووقفت بجانبها؟ الأن التجار السوريين الذين تضرَّرت مصالحهم تآمروا مع بعض الضباط عليها؟ أم لأن عبدالناصر جعل من سورية محمية مصرية مرتبطة جسداً وروحاً بشخصه كما كانت عليه الحال في مصر.
ولقد كان واضحاً من المحادثات التي تمت في القاهرة بعيد الثامن من آذار مارس 1963 ان البعثيين يحرصون حرصاً لا حد له على استقلالهم، العراقيون في العراق والسوريون في سورية.
كما ان الحركة العربية الموحدة التي أعلنها عبدالناصر في تموز يوليو 1963 بدت منذ خطواتها الأولى انها غير قابلة للحياة حتى ولو ان عبدالناصر رمى بكل ثقله لدعمها، إذ لا سبيل للتوفيق بين فريقين وحدويين متعارضين على طول الخط: الاخوان المسلمين من جهة وأنصار الخط الشيوعي من جهة ثانية.
لقد حرَّر عبدالناصر اليمن من طغيان الأئمة ولكنه دفع الثمن باهظاً جداً بالمال والأرواح.
والواقع ان عبدالناصر كان في الحالات السابقة وغيرها يصطدم بحدود حكمه الانقلابي وقد ظنَّه ثورة لا حد لها. فالمملكة العربية السعودية لم تكن لترضى ولو بشكل من الأشكال قيام امبراطورية لعبدالناصر على حدودها.
الأخطر شأناً من كل ما تقدم هو انه عندما كنا نهلِّل ونصفِّق كان ينادينا "يا جماهير شعبنا العظيم"، وما نزال حتى اليوم نردد هذا النداء، لم ننتبه الى ان الرئيس كان يلغي الشعب لحساب الجماهير، هذه كتلة انفعالية صمَّاء تحركها انفعالاتها وغرائزها عندما يعرف الزعيم كيف يستثيرها، والغريزة قاصرة والانفعال لا يدوم أكثر من ساعات محدودة عدداً.
ما من شك عندي في ان انهيار مصر وسورية المُروِّع في حرب الأيام الستة هو لغز من ألغاز سياسة الشرق الأوسط التي لن تفك في المستقبل المنظور، ولكن أليس من أسبابه أيضاً أن حكامنا اعتمدوا على الجيوش لا على الشعب، وكانت أميركا قد زوَّدت اسرائيل بعتاد حربي يكفي لمواجهة الجيوش العربية كلها منذ العام 1956 وقبله.
كما ان مصادرة أملاك الاقطاعيين وتوزيعها على الفلاحين كما أشرت الى ذلك للتو أو حرق المراحل خرَق الشعب لأنه سلَّم ادارة هذا الاجراء حيث وجد لحزبي سرعان ما تحوَّل الى اقطاعي جشع سانده مع الزمن فريق من المنتفعين صار مع مرور الزمن هو الحاكم الحقيقي، وهذا شأن آخر.
وبكلمة فإن الثورة التي يقوم بها جيش بقرار سياسي تقضي في المهد على قدرة الشعب وعلى الثورة.
الانقلاب للجيش وقد تكون له فوائده، الثورة للشعب.
وهدا ما يأبى الحاكم العربي الاعتراف به لسبب بسيط هو انه أتى الى الحكم بشكل من أشكال الانقلاب.
لم تقم في الوطن العربي سوى ثورة واحدة، ثمنها أكثر من مليون شهيد هي الثورة الجزائرية، فعلامَ تحوَّلت بعد انتصارها الى انقلاب أزاح زعماء الثورة، شرَّدهم وأحل محلهم كبار الضباط؟ لأن الشعوب المتخلفة تعتقد عفوياً ان الجيش له من القوة الضاربة ما يمكِّنه من الدفاع عنها وجعلها تتجاوز تخلفها مع الزمن؟ إذا صحَّت هذه الفرضية فهي خطأ تاريخي قاتل، أم لأنها لم تتمكن كل منها من توحيد ذاتها بصهر الأقليات والاتنيات والأعراق في كيانها؟ أم لأنها حائرة بين ثلاث هويات: القطرية والعربية والدينية، تتجاذبها كل منها في وقت من الأوقات. فهي مرة هذه الهوية ومرة تلك، أم أخيراً لأن ثمة دولاً أوجدها الأجنبي من العدم كي تضمن كل منها مصالحه ربما لهذه الأسباب كلها.
وتدركنا الثورة الصناعية الثانية أو الالكترونية ونحن على هذه الحال من الشتات والتخلف.
كانت قد بدأت في مصر والعالم العربي قبل انقلاب الضباط الأحرار تبدلات سكانية واقتصادية وما تزال أنظمتها السياسية متخلفة عن التطور. أهم هذه التبدلات هي:
أولاً - تزايد السكان المتسارع وانتقالهم من الريف الى المدينة حيث تحوَّل كبار الملاَّكين الى تجار وصناعيين وأصحاب مصارف. فثمة طبقة بورجوازية رأسمالية في النصف الأول من القرن التاسع عشر ولن يكون مثيلاً لها في الأقطار العربية الأخرى إلا في القرن العشرين وبين الحربين.
ثانياً - تزايد وعي الناس وتزايد حاجاتهم الحياتية والمترفة، وها هو المجتمع الاستهلاكي يبدأ بغزو أسواقنا.
ثالثاً - بداية ظهور الإعلام الجماهيري وسيطرته على الرأي العام. وتسارع المواصلات في الوقت ذاته، وقد نتج عنه تزايد اتصال البشر ببعضهم، المتخلف منهم والمتقدم على حد سواء.
رابعاً - وأخطر شأناً مما تقدم اكتشاف ان الأرض العربية تنطوي على ثروات جوفية هائلة منها البترول، هذا المخزون من الطاقات الطبيعية الهائلة بدَّل وما يزال يبدِّل توازن القوى اقليمياً وعالمياً وهو الصراع الصعب بين الدول الكبرى على هذه الطاقات الجوفية.
فلم يعد في الإمكان في وضع متفجر كهذا الاحتفاظ بأسرة مالكة متعاونة وأحياناً متآمرة مع الأجنبي حفاظاً على مصالحها، ولا الاحتفاظ بديموقراطية الوفد البرلمانية وقد شاخت وانتزعت منها بريطانيا خلال الحرب العالمية الثانية ما بقي لها من استقلال في تدبير شؤونها فتعيِّن بالقوة رئيس الوزارة الذي يضع بلاده في خدمة جيوش غرضها الوحيد الوقوف في وجه جحافل نازية كانوا يعتقدون ان هجومها على مصر والمشرق العربي صار وشيكاً.
ولكن، أكان من الضروري تسليم الشعب، دولة ومؤسسات جسداً وروحاً لزعيم جبار مستبد من مستوى عالمي سريع التحرك وجعله الثقافة اعلاماً يمجده ليلاً نهاراً. الوسيط بينه وبين الناس أجهزة سرية ممتدة كالاخطبوط على طول فسحة البلاد وعرضها. كل انسان في نظرها مشبوه الى أن يُثبت العكس... كي تقف على قدميها مصر وبقية بلدان البلاد العربية لتنتقل الى قلب القرن العشرين؟
ولكن ألم تكن تلك سنة ستالين حددها في كرَّاس نشره عام 1930 صار بمثابة انجيل الشيوعيين والاشتراكيين في العالم كله، وتنتقل مع الانجيل هذا سُنة ستالين هي كما هي الى البلاد المتخلفة. فكل بلد كان يوفر في بلاده المناخ اللازم لاستنبات الأفكار الستالينية، ويمكن تلخيصها في أربع قضايا رئيسية الأولى فرضية لا يقوم عليها دليل مقنع ان الحزب الشيوعي طبعاً ولكن لِمَ لا يكون كذلك حزب الحاكم؟ ينبثق من قلب الشعب فبوسعه التعبير عن حقيقة هذا الشعب وعن تطلعاته ويصير بسرعة الحزب هو الشعب والشعب هو الحزب.
الثانية، يفرز الحزب من صفوفه لجنة مركزية هي السلطة التنفيذية مبدئياً في البلد المعني. وتنتخب هذه من صفوفها أمين سر هو حكماً رئيس مجلس الوزراء بيده السلطات كلها التنفيذية منها والتشريعية والقضائية وغيرها، بالإضافة الى قيادة الجيش والقوات المسلحة. وهو يعين الوزراء ويقيلهم متى شاء وهم مسؤولون أمامه وحده. رئيس الجمهورية إما ان يكون رئيس مجلس الوزراء ذاته أو يصير منصباً شكلياً.
الثالثة، امتداد الحزب الى كل فئات الشعب بشكل نقابات، جمعيات... وطلائع من أجل الأطفال.
الرابعة، الخطيط المركزي الشامل تسهر على حسن تطبيقه وحسن سير المنظمات... أجهزة سرية تحصي على الناس أنفاسهم وكل انسان في نظرها مشبوه الى ان يثبت العكس.
ولقد كان لستالين من القوة الشخصية والقدرة الخارقة على الاحاطة بالقوى الفاعلة في بلاده وفي العالم ما مكنته هو وعوامل أخرى من الوقوف في مواجهة أميركا موقف الند للند، بالنسبة اليهما الأمم والجماعات والدول حجارة على رقعة شطرنج هي العالم كله بانتظار العولمة.
الخطأ القاتل: محاكاة الستالينية
وتنتهي الحرب لمصلحة الحلفاء وتدخل جيوش ستالين برلين، ويجتمع الثلاثة لكبار روزفلت، ستالين، تشرشل في يالطة 1945 لاقتسام العالم في ما بينهم كأنه ملك آبائهم وأجدادهم، لقد صار النظام الشيوعي مشروعاً يحق لستالين نشره في البلاد العربية والعالم، كما ان أوروبا الشرقية سُلِّمت روحاً وجسداً الى الاتحاد السوفياتي، وها هو ستالين يُدخِل على التنظيم المركزي لامبراطوريته تعديلاً يمكنه من وضع يده على حصته من العالم وجعلها تمشي في ركابه، هو الجبهة الوطنية التقدمية. تضم أحزاب كل دولة بزعامة حزب قائد هو الحزب الشيوعي الماركسي اللينيني. ويطلق ستالين على النظام المعدَّل اسساً فيه الكثير من السخرية المرَّة هو ديموقراطية شعبية حيث لا ديموقراطية ولا شعب، تماماً كما في الاتحاد السوفياتي.
في حين ان أميركا قائدة المعسكر الرأسمالي تؤثر تكوين رأسماليات اقليمية في كل بلد اقتصاده رأسمالي بقيادة زعيم فرد لكل بلد، سيَّان عندها عسكرياً كان أم مدنياً. المهم هو ان يضمن لرأسمال بلده حرية الحركة في اطار سوق تصير عالمياً مرتبطة بالمصارف الكبرى.
ما من شك في ان ستالين كان في بادئ الأمر أبرع من الرأسماليين في نشر أفكاره. وبالفعل ها هي عدوى النموذج السوفياتي تنتقل بسرعة بعد ستالينغراد 1943 الى الأمم المتخلفة كلها تقريباً لاعتقادهم ان النظام الذي ردَّ جحافل النازيين على أعقابها، وحرَّر شعوب امبراطورية القياصرة من استبدال النبلاء والاقطاعيين، جعل منهم اتحاداً قوياً وصنّفه بسرعة جعلته يكاد يضاهي تصنيع أميركا، وعمَّا قريب سيتفوق عليه... النظام هذا بوسعه وحده تحرير المتخلفين وجعلهم متقدمين وخلاصته:
أولاً: سيطرة الدولة التي يجب أن تكون كاملة على مرافق الحياة كلها، السياسية منها والاقتصادية والصناعية، وكل حياد على هذا الخط مشبوه يُلغى أو يعلَّق نشاطه الى أجل غير مسمَّى.
ثانياً، الاشتراكية على النمط السوفياتي: الغاء الاقطاع، تأميم الملكيات الزراعية وتوزيعها على الفلاحين، وجعل المعامل والمصانع وكل نشاط اقتصادي حتى ولو كان حُرفة عادية ملك للدولة، وحدها لها الحق بالتجارة، تلك كانت، كما قيل عنها، رأسمالية الدولة.
ثالثاً، التخطيط المركزي والخطط الخمسية تُنفِّذها بيروقراطية رتبوية المفترض فيها انها تقنية، هي امتداد السلطة المركزية الى قطَّاعات الحياة الاجتماعية كلها.
ويبدأ التحول عندنا نحو النظام السياسي الاجتماعي الذي ساد في النصف الثاني من القرن العشرين مع الرئيس جمال عبدالناصر، كرَّست زعامته الاقليمية تأميمه القنال واشتراكه على قدم المساواة مع رؤساء عدم الانحياز، كما أشرنا الى ذلك.
وكان جديراً بهذا المنصب. شخصية قوية لها جاذبية لا تُقاوَم، وقدرة خارقة على استقطاب الجماهير، ايقاظ خلفياتها - أقليات، اتنيات، طوائف، مجموعات لسانية. يلعب بورقة كل منها في الوقت المناسب من دون أي رادع أخلاقي أو انساني.
لم يكن ولا يمكن أن يكون لرئيس من مقياس جمال عبدالناصر ذرية تواصل دربه. الناصرية حركة سياسية اعتقدت ان عبدالناصر وحده كان وحدوياً بين زعماء العرب. وهذا صحيح، شريطة ان ترتبط الدول المتحدة بشخصه كما كانت عليه الحال أيام الوحدة المصرية - السورية، ولكن كان ثمة تركة سياسية اختلط فيها خط ستالين مع خط عبدالناصر، هي التي اعتمدتها الدول العربية كل منها لحسابها وعلى طريقتها تستخدمها لأمور شتى منها تحقيق اشتراكية ما أو عدالة اجتماعية، الذي استمر حتى اليوم من هذه التركة هو مفهوم الزعامة، وكل رئيس دولة زعيم.
وحدها سورية اعتقد قادتها في النصف الثاني من الستينات وبكثير من السذاجة وحسن النية تنظيم دولتهم وُفق النموذج الذي رأوه في الاتحاد السوفياتي وفي المانيا الشرقية الديموقراطية جداً، حزب واحد قيادته القطرية هي سلطته التنفيذية وتنبثق من لجنة مركزية أو مجلس لقيادة الثورة، أمين السر تتجمَّع فيه السلطات كلها. وكذلك العراق، يضاف الى هذا التنظيم في سورية بُعيد السبعينات جبهة وطنية تقدمية هي شكلاً المرجع الأعلى للحكم. وينسون ان الشكل لا يستدعي المضمون بالضرورة، فالاتحاد السوفياتي وُرِث عن روسيا القيصرية اياها رصيداً من العلماء والتقنيين والإداريين وكبار المثقفين والأدباء والفنانين، مَن بقي منهم في الاتحاد السوفياتي، بعد هجرة الكثيرين، كان كافياً لتأسيس بيروقراطية تنفِّذ ما أمكن من الدقة الخطط المركزية.
أما سورية فقد كان الانتداب قد نقل من الأصل المؤسسات التي أنشأ السياسية منها والاقتصادية والثقافية وغيرها الى بيروت ليجعل منها دوائر في ادراة المفوض السامي الحاكم الحقيقي لسورية ولبنان. كما ان الجيش الذي تكوَّن اعتبر جزءاً لا يتجزأ من الجيش الفرنسي المحتل، فكان على سورية بُعيد انحسار السلطة المنتدبة ان ترتجل وزارة خارجية وجيشاً وطُرقاً أخرى لتوسيع المؤسسات المالية والتربوية وغيرها كي تغطي حاجاتها الأساسية.
ومن المؤسف انا ما نزال نرتجل حتى اليوم، فثمة بيروقراطية فضفاضة جاهلة اتكالية، عدد لا يستهان به من أفرادها محسوب على هذا المتنفِّذ أو ذاك. كما تسرَّب الى دوائر الدولة العليا بوسائل ملتوية شخصيات جشعة من صغار النفوس.
* كاتب سوري.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.