خلال السنوات الأخيرة الماضية برز في مشهدنا الروائي المحلي الكثير من المغامرات السردية النسائية المسكونة بهاجس تحدي التابو والمساس بالمقدس، وتفكيك بنية الصورة الطوباوية للمجتمع المحلي، وفضح ازدواجية القيم والمعايير التي تحكم منطق العلاقات فيه. ويلاحظ في كثير من تلك التجارب السردية إلحاح شديد على مراودة المناطق المعتمة، وعلى قول ما لا ينبغي أن يقال أو يفصح عنه، وعلى هاجس التعرية والفضح. وبطبيعة الحال فإن تلك التجارب تتفاوت في درجة مساسها بالتابو من جهة، وفي طاقاتها الفنية والجمالية، وتمكنها من أدواتها الإبداعية من جهة أخرى. يمكن اختبار هذه الملاحظات من خلال النظر في عدد من النصوص التي برزت فيها هذه التيمة... فثمة نصوص يتأسس بناؤها ومشروع الكتابة فيها على مجرد الرغبة في تسمية مظاهر الخلل وتعيين القصور بقدر كبير من الوضوح والجرأة. حتى كأن قيمة النص تتحدد فقط بمقدار ما يتماس مع التابوات ويكشف من مستورات. دون تعويل كبير على تقنيات السرد وجمالياته. ولعل روايات زينب حفني: الرقص على الدفوف، لم أعد أبكي، ملامح، تمثل هذا التوجه المبني على مقصدية التحفيز على تغيير الوضعيات المختلة الراهنة وتجاوز الأنساق والمنظومات التقليدية. على أن نبرة الفضح والبوح والمواجهة مع التابو تتصاعد في بعض النصوص لتصل إلى درجة التحدي النضالي والاشتباك العنيف مع الثوابت والمقدسات بما يحول النص في مجمله إلى خطاب أيديولوجي زاعق مجرد من أي عناصر جمالية. وتمثل رواية القران المقدس لطيف الحلاج مع التجاوز في وصفها نصاً روائياً شاهداً صارخاً على هذا التوجه في التماس المباشر والفج مع التابو. وبلغة خطابية انفعالية، وإقحام للأفكار واعتساف المواقف:"ليلى الآن ابنة الثانية والعشرين، فتاة سمراء جميلة ذات وجه مستدير وأنف شامخ، وعينان عربيتان... لكنها مثل سائر نساء هذا البلد، العباءة السوداء والأوشحة المنسدلة على وجهها تجعل من الصعب التعرف عليها، فحالها كحال الأخريات من بنات جنسها ما هي سوى واحدة من الأسراب السوداء المتحركة، مجهولات بلا وجه ولا هوية، ودون أي دلالة على أنهن بشر. منذ نعومة أظفار الإناث إلى حد خشونتهن يعشن حياتهن خلف الأسوار والسواد، والكثير منهن لا يعرفن أن هناك حياة في الخارج". ص 11. على هذه الشاكلة، وعلى امتداد النص، تتحول المواجهة مع التابو الديني والسياسي والجنسي إلى مجرد تيمات وعناصر دلالية غير وظيفية، لا تخدم النص إلا بالقدر الذي يتوقف عند التماس بها. في المقابل... يتحول حضور التابو في بعض النصوص إلى عنصر دلالي وظيفي يسهم في البناء الفكري للعمل السردي بقدر ما يسهم في بنائه الجمالي. وبما يتجاوز مجرد الرغبة في إحداث الصدمة واستفزاز حس المتلقي. تحت هذا التوجه تندرج العديد من النصوص السردية، مثل الفردوس اليباب، وجاهلية لليلى الجهني، ووجهة البوصلة لنورة الغامدي، وسرديات رجاء عالم بما لها من خصوصية في توظيف العناصر التيماتية واللغوية. على أن النص الذي بلغ غاية بعيدة في توظيف حضور التابو هو نص"الآخرون"لصبا الحرز. وهو نص لا يخفي قصديته المبيتة في الاستفزاز، وصدم المتلقي بجرعات مكثفة من التماس بالمقدس بمختلف تمظهراته، كما لا يخفي مقصدية الوعي التدميري الذي يوجه فعل الكتابة. إلا أنه في ذات الوقت يسعى لتوظيف تلك العناصر ودمجها في خطاب فكري جمالي واسع الأفق الدلالي، متنوع المرجعيات، ومولد لتأويلات غنية لا تكاد تحد. تعرض الحكاية المركزية في النص لرحلة ذات أنثوية يصطدم وعيها الحديث بأسوار ثقافة قمعية ضاغضة، فتنخرط في سلسلة علاقات جسدية مثلية يغدو الجسد عبرها ممراً لاكتشاف الذات المعذبة بوعيها.. والممزقة بين رغباتها وبين الممنوعات والمحرمات التي تحاصرها، وتحول سداً منيعاً دون حريتها وخياراتها الوجودية. على أن هذه التيمة تتجاوز حضورها الظاهري الصادم والمستفز لتعبر عن ذلك الوجدان الشقي المعذب، الوعي الذي يدرك أن الإنسان كلما اقترب من خطاياه وتجرأ على التحديق فيها كلما أصبح أكثر قرباً من معاني إنسانيته، وأكثر قدرة على التحرر من الإحساس الثقيل والمبهظ بالإثم. الوعي الذي يتعالى على شقائه لينخرط في مساءلة للثقافة التي ينتمي إليها ويسعى لتجاوزها"وكم كان إثمي هائلاً في مقابل سطوة تراكم أخلاقي، يضع في قوانينه الأولى جسدي معياراً لتقويمي، وكنت أمام حلين لأعيد توائمي معي وأسترد ثنائية الكائن الذي هو أنا، الحتمية والمتوافقة، جسده وروحه: أن أستغفر ذنبي وأعيش تحت مظلة إنكار ما فعلت، ليس ما فعلت وحسب، بل الفكرة المؤذية والكامنة خلف ذلك والمفضية إلى كوني شاذة عن النسق الطبيعي..."على امتداد النص يظل هذا السؤال هاجساً تدخل الساردة من خلاله في حوار تفكيكي مع ثقافة الذات وثقافة الآخر، وإلى جانب العديد من التيمات الصادمة، يتحول حضور التابو في الآخرين إلى صيغة صادمة للتحاور مع كل عناصر الثقافة السائدة الساعية لاحتواء كل ذات فردية تجهر بوعيها واختلافها. يجمع بين هذه النصوص، على تنوعها وتباين غاياتها وجمالياتها، وعي الكاتبات بمأزق الذات الأنثوية التي تضعها الثقافة السائدة أبداً في رتبة الآخر الأدنى منزلة والأحط قدراً... وإن كانت هذه الثقافة قد تصدعت وتفككت نظمها، إلا أن ثمة قوى تعمل على تعطيل إعادة بنائها وفق شروط العصر ومعطيات الراهن الكوني. وبالتالي فإن هذه الكتابات تسعى لإحداث تراكم في البنى المعرفية عبر الانفتاح على هوامش تحوي دلالات مغايرة وعتبات نصية معتمة، وعندها يغدو ممكناً التحرر من الشرط الثقافي المهيمن، لإحداث التغيير الذي يسبقه الإدراك"إدراك وجود هوامش حول الدائرة المهيمنة والنظر إلى محتواها برؤية محايدة... في محاولة لإدخالها على المتن الرئيسي الثقافي". غايات المساس بالتابو تلتقي أخيراً عند الرغبة في تفكيك البنى الاجتماعية والثقافية، وإعادة موضعة الذات والآخر، وتصويب الخلل القائم في العلاقات الإنسانية التي يلح الخطاب المهيمن على عاديتها وسويتها.