أقام الكاتب السعودي يحيى أمقاسم روايته الثانية «رجل الشتاء: أيام كثيرة صغيرة» (دار التنوير 2017)على اقتراح روائي مغاير، لغة وبُنية وشكلاً. أدرج في نصه مقولات ثلاثاً: الزمن الذي «يأكل» الأشياء جميعاً، مخلّفاً وعياً أسيان يؤرق الذاكرة، ووعي الروح بسطوة الزمن التي تجعل حياة الإنسان ماضياً مستمراً. وأخيراً اللغة المركبة التي تقصد «تثبيت» اللحظة الزمنية الهاربة. انتهى إلى رواية تؤكد الكتابة عملية تأملية جمالية شاقة، وتجعل القراءة متعة ومساءلة في آن واحد. توزّعت الرواية على مراكز متعددة: السارد العليم الذي يحوّل تجربة «العشق» إلى تجربة في معايشة الزمن، ومدينة باريس المتكاثرة في مدن حدودها الجمال والحرمان، فالروائي اتخذ من باريس فضاء روائياً، ساحراً وجليلاً، وهناك، ثالثاً، بشر لهم حكاياتهم اليومية، تفتنهم «مدينة النور» وتعدهم بذكريات كثيرة. بنى العلاقات الثلاث بلغة سردية، شعرية، نظرية تبرهن أن نهاية الروائية من بدايتها، وأن البداية والنهاية حوار بين الزمن واللغة. يتمثّل الزمن المهيمن في إشارات متوالدة، تتضمن العنوان وفواصل تتلوه عناوينها: «الأيام» و «الاختفاء الأخير الموقت»، و «الفَقْد أو الشغف الذي عاشه الإنسان يوماً»، اللذان يخلّفان حسرة دامعة، وأحوال الحياة القائمة، على «العابر والمتنامي والمنطفئ والأيام الصغيرة التي تؤكل بعضها». سار الروائي وراء حوار الوعي والزمن، الذي يجبر السارد على أن يقول في النهاية «أنا كالوقت مطارد بلا مخبأ». وكما أن روح المكان من الأشياء الموزّعة فيه، فإن أطياف الزمن من المكان الذي يلتبس به والمتمثّل، روائياً، بمدينة باريس القادرة على «دهشات الحياة» والمتكاثرة، جمالاً، من مطلع النهار إلى نهاية الليل. وإذا كان الرومنطيقيون يوحّدون بين الجمال والموت، فإن الروائي السعودي وحّد بين جمال باريس وحياتها اليومية الصاخبة، وتوقف أمام عمرانها الباذخ الممتد من كنيسة مادلين إلى «مقبرة العظماء» البانتيون، من دون أن ينسى الأرصفة والمطاعم ومحطات المترو، ولا «شجن الغريب»، الذي يدرك أن ما يبهج نظره يتحوّل إلى ذكريات. ساوى الروائي، على مستوى المجاز، بين المدينة وأنثى فرنسية، توقظ العشق وتغدق ابتسامتها الجمال على العالم كله. ولهذا تستهل الرواية بموقع من المدينة، كنيسة سان جان بابتيست، وبأنثى «ماتيلد» كاملة الرشاقة، تختصر فيها حقبة من الزمن، يلهو فيها الغرباء، ويتذكرون بغداد المنكوبة، وينتظرون غروباً مقبلاً، ويعيشون انتظاراً يعلن عن «سطو طويل من الذكريات يستمر لأبعد من العمر، وأكثر وفاء من القطارات. ص: 235». يذهب الوفاء إلى جمال المدينة وإلى أنثى من ذهب، يبدو الوجود من دونها ناقصاً. حكايات اليومي نسج الروائي نصه من حكايات تحتفي باليومي ودفء الأصدقاء، وصخب الليل/ وحوارات تستمر إلى آخره، كما لو كانت الكتابة الروائية محاولة دخول إلى القلب الإنساني، الموزّع على الدفء والشقاء، ولهاث وراء الزمن الذي يجسّر المسافة بين انطلاق الرغبات وانطفائها. صيّر مادته الروائية، التي تجمع بين التاريخ والسياسة وأحزان الغرباء العرب، إلى تجريب لغوي، أو إلى هندسة لغوية جميلة المعمار، تعطف جمال باريس على عرب مرّوا بالمدينة مثل: عبد الرحمن منيف ومحمود درويش، أو على غير عرب كتبوا عن المدينة رواية، ذات مرة، حال الأميركي إرنست هيمنغواي، الذي كتب عنها «عيد لا يكفّ عن الحركة». ارتكن الروائي إلى لغة مثقفة، واستدعى بها مثقفين: الشاعر السعودي القصيبي، غرامشي وإدوارد سعيد وجان بول سارتر، الذي كان يكتب في مقهى باريسي، كاد أن يحمل اسمه. حاور، في الحالين، إمكانات اللغة، واشتق لغة شخصية، تلبي مطالب الرواية وتتجاوزها. اقتربت لغة الروائي من «جوامع الكلم»، التي تنوس بين الشعر ومطلب الحكمة، وكان الألماني نيتشه فيها معلماً، كأن نقرأ: «الصداقة تصدّ الخوف من كل الأشياء المعتمة، الصداقة تجربة مستمرة على تحمل عبء الغفران، كيف لك أن تشعر بوقوفك على بساط المجد وأنت ميت...». أراد أمقاسم أن يفصح عن «لغة القلب» نثراً، وأن يعهد إلى اللغة بتفصيل ملامح الشوق وعذابات الانتزاع، مذكّراً بما كتبه اللغوي الفرنسي جان جاك سركل، في كتابه «عنف اللغة»، عن لغة «المتبقي»، تلك اللغة المتمردة النافرة من المألوف، والذاهبة إلى الغريب والهامشي، حال لغة الشعراء والمبدعين، وبعض «المجانين» الذين يبتعدون عن مألوف الكلام، ويستأنسون بلغة أخرى، توسع اللغة وتنتهك قواعدها في آن، ولا تختصر في «لغة الإيصال». ليس «المتبقي» إلا انتصاراً لقلب حائر معذب، يريد أن يقول كل شيء عن كل شيء وتستعصي عليه الكلمات، أكان ذلك عن عشق يستمر إلى ما بعد العمر، أو عن ذكريات ترتاح إلى الدموع. لا غرابة في أن يذكّر نص يحيى أمقاسم، المشغول بروعة اللقاء وأسى الغياب، برواية ألفريد دو موسيه «اعترافات فتى العصر»، التي رأت في رحيل الماضي تغييراً في الوجود. فليس في سيطرة الماضي وداع لسعادة آفلة، أو أنها انتظار لسعادة عائدة، بل إن فيها تجربة زمنية تحوّل الإنسان إلى آخر، إلى شاهد حزين على ما كانه، على ما كان معه ورحل، حاملاً في الروح عذاباً لا يحتمل. والفرق بين الطرفين أن دي موسيه عاش زمانه، بينما يعيش الغريب «حقبة»، طارئة تأتي صدفة، ربما، وتترك وراءها ما لا يرمّم. بيد أن ما يجمع بين الإشارتين يختصر، بالضرورة، في وحدة ثلاثية الكلمات: قسوة الزمن وأحزان القلب وتوسّل اللغة طريقاً إلى الصمت والكلام معاً. تسمح الوحدة المثلثة الأطراف بالحديث عن: «بلاغة الوجود الملتبس»، التي تجمع بكلماتها عوالم متعارضة. استثمار اللغة عمل الروائي السعودي، وهو يحاول النفاذ إلى طبقات الوعي الإنساني، على «استثمار اللغة»، والتصرف باستعمالها، مقترباً أيضاً من «بلاغة الدهشة»، إذ كل ما في الوجود مسكون بالغموض وعلى اللغة أن تضيء وجوهه المتناثرة، وأن تقبض على المنير المعتم فيه، الذي يخلط الأزمنة ببعضها ويجعل منها ماضياً مستمراً. إذ الحاضر لا وضوح فيه والمستقبل صوت من أصوات الحاضر السائر إلى الانطفاء. لكأن دور اللغة الإجابة عن أسئلة ناقصة الصياغة، أو صوغ أسئلة لا تعرف الاكتمال. ولعل التباس الوجود الذي يستنطق إمكانيات اللغة هو ما يؤكد اللغة في رواية يحيى مركزاً مهيمناً ينظم المراكز الأخرى ويسائلها. سعى الروائي، في اللحظة ذاتها إلى ما يمكن أن يدعى: تكثير النص. فبقدر ما أن باريس «مدينة تتكاثر»، كما يقول الروائي، فقد شاء بدوره، أن يكاثر نصه، منتهياً إلى نص روائي متعدد العناوين، غير مألوف، تجمع صفحاته بين الحكايات والتعليق عليها، وتقطيع جمالي متناثر العناوين (في طلب المغفرة، شجاعة متأخرة، ومديح «إديث بياف الذي يبدو «وحدة لغوية» مستقلة بذاتها، تساوي بين الصوت الحنون وجمالية الفصول) إضافة إلى هوامش طويلة تضيء النص وتبدو إضاءات ثقافية في آن. تبني اللغة الساردة «الواقع» وتقترح تفاصيل «من خارج النص»، تحاور إدوارد سعيد من وجهة نظر فرانتس فانون، وتتأمل جمال الحياة الواضح والمستسر معاً. ومع أن هذه التفاصيل قد تثقل النص، ظاهرياً، أو تربك اتساقه، فإن الدخول إلى دلالة الكتابة الروائية عند إمقاسم يعارض ما بدا مربكاً، ويستدعي وجهة نظر مغايرة. ذلك أنه أخذ بمنظور روائي حدوده الالتباس والعتمة، إذ في القلب الإنساني ما لا يمكن الوصول إليه، وفي الزمن ما لا يقبض عليه، وفي العشق تجربة تضع العاشق خارج مكانه وزمانه. ولعل المقولات التي اتكأ الروائي عليها، المسوّرة باللايقين وبما لا يدرك معناه، هي التي أعطت المنظور الروائي سمتيّ: الالتباس، إذ ما يبدو لا يكون تماماً ما بدا عليه، والاحتمال الذي يفرض على القلب انتظاراً مؤجل النهاية، ويجعل من القبض على «اللحظة السعيدة» أمراً مستحيلاً، ومن «طول الانتظار» تجربة في الشقاء: «سأتذكر حجرة جليلة، وألماً يضيء من قلب صديقة تذهب، بعد أن تخادع الوجع / دائماً ثمة في الحياة متسع لميلاد جديد/»؟ أخذ الروائي بالمتعدد منظوراً، ذلك أن المتعدد يعني غياب اليقين، وساءل الروح في أحوالها كلها، وأعطى نصاً محمولاً على صيغة «الماضي المستمر»، الذي «يأكل» كل الأزمنة ويظل مستمراً، تاركاً لغيره من الأزمنة هوامش خادعة. أراد الروائي، وهو يدور في زمن «باريسي» دائري، ينفتح على الأرصفة وأسئلة الروح، أن يقول كل شيء، متوسلاً تقنية فنية متعددة العناصر، تؤكد أن الخطاب الروائي من التقنية التي تصوغه. دعاه طموحه إلى التماس اقتراح روائي، قوامه اللغة، وإعطاء العناصر النصية المتنوعة استقلالاً ذاتياً نسبياً يعطفها على غيرها، ويدعها مستقلة في آن. ومع أن في الشكل الكتابي ما يجعل من التجريب بداهة، فإن الشكل الذي انتهت إليه رواية «رجل الشتاء»، ينتقل من التجريب إلى تجاوز المتعارف عليه، كما لو كان الروائي في طموحه الواسع يريد أن ينجز نصاً روائياً مركباً لم يأتِ به غيره. استعار مأساوية الوجود من نجيب محفوظ والعمل في اللغة من إدوار الخراط، ولوعة الزمن من جمال الغيطاني، واغتراب الإنسان العربي من عبد الرحمن منيف. جمع ما أراد تجاوزه في نص متعدد المستويات يثني على العشق ويسائل الله ويرصد أحوال المثقفين وأحزان «سجن أبو غريب» في العراق، ويعيّن اللغة خالقاً للوجود وما يمكن وجوده. يتكشف جديد المنظور الروائي في «رجل الشتاء»، في النفاذ في شكل غريب غير مسبوق إلى العالم الجواني للإنسان، الذي يتداخل فيه قلق الهوية رعب الزمن والشوق إلى ما سيكون، والندم على ماجاء ورحل من دون استئذان. طرح الجديد الطموح سؤالين: كيف يتحوّل المتخيّل الروائي إلى لغة تجسّر المسافة بين المتاح والممتنع؟ وكيف يتحوّل «المتخيّل اللغوي» إلى منهج يسأل عن الحقيقة الشاملة»، لا فرق إن اتصلت بسجن الباستيل وأشواق محمود المسعدي في عمله «حدّث أبو هريرة فقال»، أو نظرت إلى إنسان تربكه تداعيات الحياة؟ نقرأ في النص «عندما تغبش عيناك بدمع يلمع في بداية احتقانه وقبل أن ينهمر، هناك ستكتشف الله وكمية الحزن الحصبة لمحراث الخوف. ص: 214». يأتي الخوف من وجود مأسوي يترك الإنسان وحيداً، يشكو وحدته إلى اللغة ولا يعثر على جواب. إذا كان في نص يحيى أمقاسم ما يطرح أسئلة صعوبات التجديد الإبداعي، فهو يتضمن أيضاً ما يستدعي مبدأ المقارنة في وجهين منه: وسع الروائي عمله الأول الممتاز «ساق الغراب» وتجاوزه نظراً وتقنية، وقرأ الرواية العربية في اشكالها لأخيرة وأراد موقعاً رائداً فيها. لم يقدم اقتراحاً روائياً، كما فعل غيره من المجتهدين المبدعين، بل هجس بمنهج خاص به في الكتابة الروائية، ينطوي على المعرفة والثقافة الروائية وتركيب فني مغاير، يرى في مساءلة الكتابة شغفاً وشرطاً يلازم «المجدّدين» في حقل الكتابة الروائية. يتبقى سؤال مؤجل الإجابة عن علاقة القراءة بالكتابة: إذا كانت القراءة الواعية للنص الروائي، لا تنفصل عن الجهد الكتابي الذي أنجزه، فهل تعثر الكتابة المهجوسة بالفرادة التي مارسها يحيى أمقاسم، على قارئ «صبور» يتعرّف على أغراضها؟