سقط الدكتور عبد الرزاق جبيرو، أمين سر منظمة الهلال الأحمر العربي السوري ورئيس فرعها في محافظة إدلب شهيداً للواجب للإنساني. ذنبه الوحيد انه كان يحاول الحفاظ على المهمة الإنسانية ومبدأ الحياد في عمل متطوعين لا يتقاضون قرشاً واحداً لقاء محاولاتهم المستميتة لإنقاذ أرواح المصابين، سواء كانوا متظاهرين أم عسكريين. فالمهمة الأولى والأساسية هي محاولة إنقاذ الأرواح، وهذا ما سعى جبيبرو إليه باذلاً جهوداً مضنية في إعداد المسعفين، ومؤدياً دوراً كبيراً في إغاثة اللاجئين السوريين في تركيا. لكن جبيرو لم يكن أول المستهدفين في الهلال الأحمر العربي السوري، وقد لا يكون الأخير. ولم يمض وقت طويل على قضية استهداف المسعف الحكم السباعي، التي لم تأخذ حقها إعلامياً وقانونياً، وكانت حجة الأمن أن العصابات المسلحة أطلقت النار على سيارة الإسعاف في مدينة حمص، وهي قصة واهية بطبيعة الحال. فلمن لا يعرف الحقيقة، كان متطوعو الهلال تلقوا تهديدات وإنذارات من الأجهزة السورية، بأنهم سيكونون هدفاً لرصاص الجيش والأمن إذا خرجوا لإسعاف المصابين. حصل هذا قبل يوم واحد فقط من استشهاد السباعي، ولم يتأخر الأمن في تنفيذ تهديده، مطلقاً ثلاثين رصاصة اخترقت سيارة الإسعاف إلى أجساد المسعفين. متطوعو الهلال الأحمر السوري، لم يسلموا من الاعتقال أيضاً، ففي أكثر من مكان تم اعتقالهم وتجريدهم من ملابسهم أثناء التحقيق معهم بتهمة"إسعاف المتظاهرين"على رغم أنهم وفي أكثر من مناسبة قاموا بإسعاف رجال الأمن وعناصر الجيش. جرى ذلك مع الكثير من الحالات في مدينة دمشق، وحي برزة تحديداً، إثباتاً لمهمتهم التي تعبر عن إيمان صادق والتزام راسخ لدى المسعفين بمبادئ منظمتهم في الحياد. إلا أن أجهزة الأمن ترفض في شكل قاطع تسهيل إنقاذ حياة الآخرين، ولم تتوان عن منع طواقم الإسعاف من الوصول إلى الجرحى، بل كانت تقوم أحياناً بتجريد الطواقم من سياراتهم. وكثيراً ما حصل أن أجبر المسعفون على مغادرة سياراتهم والعودة سيراً على الأقدام إلى مكاتبهم في شعب الهلال الأحمر، فيما اقتحمت أجهزة الأمن بعض هذه المكاتب وخطفت مصابين كانوا يعالجون داخلها. وكم مرة أطلق الرصاص في شكل مباشر على سيارات الإسعاف، فنجت طواقمها من موت محتم كما حصل في دير الزور أثناء اقتحام الجيش والأمن للمدينة. يوم الجمعة أول أيام عطلة نهاية الأسبوع في سورية، هو بالنسبة إلى الكثيرين يوم للراحة مع الأهل، أما بالنسبة إلى الهلاليين فهو يوم استنفار، يقضونه منذ الصباح الباكر يجوبون الشوارع محاولين الوصول إلى المصابين في التظاهرات. يخرجون من مكاتبهم وهم بحق لا يعلمون إن كانوا سيعودون إلى ذويهم، أم أنهم سيحتاجون بدورهم إلى من يسعفهم. "الإسعاف بدو إسعاف"جملة ترددت كثيراً في فلسطين، أثناء الغارات الإسرائيلية على الضفة وقطاع غزة والتي استهدفت في جملة ما استهدفته طواقم الإسعاف، وهو ما يحدث اليوم في سورية، في مقاربة مؤلمة ومقززة عن جيش يقتل أهله. وعلى رغم المآسي والأخطار التي يتعرض لها المتطوعون، وعلى رغم الخطر الذي يحدق بهم حتى وهم في أكثر الأماكن أمناً، لا يزال مسعفو الهلال الأحمر مصرّين على أداء واجبهم الإنساني في إنقاذ أرواح المصابين، جميع المصابين أياً كانوا. ولأني كنت ذات يوم أحد هؤلاء المسعفين، فأنا أدرك مدى التزامهم بكل المبادئ الإنسانية وعلى رأسها العبور الآمن والحياد. ولكن هذا المبدأ لا يعتنقه غيرهم فالرصاص على ما يبدو سيطاردهم كيفما توجهوا، وأجهزة الأمن لن تتوقف عن محاولات منعهم من أداء عملهم، حتى لو كان الاغتيال طريقها الى ذلك كما حدث مع الراحل جبيرو الذي عرف عنه حرصه الشديد على تدريب المتطوعين بالحد الممكن في ظل الأزمة السورية، حفاظاً على حياتهم ليتمكنوا من أداء واجبهم على أتم وجه. أما النظام فلا حجة له! لأن الرئيس السوري وزوجته استمعا في شكل مفصل وفي اجتماعين منفصلين، إلى شكاوى رئيس منظمة الهلال جراء الاعتداءات التي تعرضت لها طواقم الإسعاف، لكن ذلك لم يجد نفعاً بل أسفر لاحقاً عن استشهاد مسعف وإصابة آخرين، وآخر الاعتداءات اغتيال جبيرو. بعبارة أخرى فإن الاعتداءات المباشرة على كوادر الهلال الأحمر تمت في شكل واضح ومفضوح من قبل أجهزة الأمن، وبعلم مسبق من رأس النظام. وليس اغتيال جبيرو إلا واحد من هذه الاعتداءات، لذا لا جدوى من اتهام"عصابات مسلحة"بقتله، لأن هذا الاغتيال ليس إلا تتويج لدموية النظام وآلته القمعية.