عندما تزوجتُ، قبل عامين، قدّمت لي الكنيسة في مدينة صافيتا، ذات الغالبية المسيحية، سجّادتها الحمراء الطويلة، وفرقة الكشافة الموسيقيّة التابعة لها، هديّة في حفلة الزفاف، كون العروس ابنة صافيتا، على رغم أنها علويّة، غير مسيحيّة. وكون العريس صديق المدينة وأهلها. يحدث هذا التوافق بعيداً من السياسة والتسييس، الحاصلين في المنطقة، وبعيداً من سياسات القتل والابادة التي يتعرض لها المسيحيون في العراق وغيره من البلدان. ذلك أن تسييس الانقسام الديني والمذهبي في المشرق، طمس جميع أوجه المثاقفة والتعايش الكائنة ما بين تلك المكونات. على أن التعصّب، في المقابل، سمة غالبة عاشتها وتعيشها مجموعات كثيرة أيضاً. فليسوا قلّة، المسيحيون المتعصبّون المُنطَوون على أنفسهم والناظرون إلى غيرهم نظرة التّعالي والتفوّق. وان كان موقفهم هذا ناتج من ردّ فعل اجتماعي تمارسه كل أقليّة تعيش وسط غلبة ثقافة وسياسة الأكثريّة. كما ينتهج كثير من المسلمين ثقافة متعصّبة ومنغلقة من نوع آخر، ترى في المسيحي، ذاك الشريك الوطنيّ المفروض عليهم بعوامل التاريخ والجغرافيا والاجتماع، وتنظر إليه نظرة فوقيّة كمواطن من الدرجة الثانية، أو كصاحب ديانة لا توصل إلى"الجنّة". والراهن، أن أخطر الأخطاء التي تواجه الوجود المسيحي، على الأرض وفي الوجدان العام، انتهاج سياسة تجاهل هذا العنصر الوطني الأساسي. بداية من دساتير الدول وقوانينها، والحياة السياسية فيها، التي شهدت قبل عقود كتابات ومحاضرات أنطون سعادة وميشيل عفلق المتعلقة بالاسلام، التي فُسّرت بأنها محاباة وتقرّب من الثقافة الدينيّة الغالبة، وهما، المسيحيان، مؤسّسا أهم حزبين قاما على فكرة القومية وتجنب الاصطدام بالدّين. هذه المحاباة، اضافة إلى خجل الفكر والخطاب القوميّين، من استعمال مفردات وألفاظ ذات مدلول ديني أو مذهبي، ساهم في يقظة الخطاب الديني المسيّس الذي استثمره الاسلام السياسي، ومن ثم بعض الأحزاب المسيحية اليمينية ابان الحرب الأهلية في لبنان. وهو ما ترافق مع أفول جاذبية الخطاب القوميّ وايديولوجيته. كما أن العارف والمدرك لأهمية الوجود المسيحي وأصالته، يقدّر احدى أهم عمليات المثاقفة بين المسيحيين والمسلمين بمختلف طرقهم ومذاهبهم، وهي التزاوج والمصاهرة. والحال أن هذه العملية التي تؤدي إلى تشكيل فسيفساء حقيقيّة، بعيداً من الشعارات الرائجة، ممنوعة من القيام بدورها. ذاك أنه لم توجد حكومة حتى اليوم، تجرّأت على تحديث قوانين الأحوال المدنيّة فيها بما يسمح ويشرّع التزاوج بين المسلمين والمسيحيين، ويحدّ من تديين حياة البشر وتحكّم الزعامات الدينية بالفضاء الاجتماعي العام. وهكذا وصولاً إلى برامج ومناهج التربية والتعليم المدرسيّين، التي تزرع في الأجيال الناشئة بذور التربية الاسلامية الكلاسيكيّة، وتتجاهل الاضاءة على التربية المسيحية. هكذا يغيب المكوّن المسيحي من الوجدان العام ولا يشكّل في الذاكرة الجماعية أساساً قويّاً وراسخاً من أساسات المواطنة والوطنية، ما يؤدي إلى تشكّل صورة ناقصة وغير ناضجة عن المجتمعات والأوطان، ستتسبّب عبر الأجيال، في الاساءة إلى تلك الأوطان وتشويهها. وليست الصّور الآتية من العراق ومصر ولبنان، الا بداية لهذه النهاية. * كاتب وصحافي سوري