يحلو للمخرج الفرنسي المخضرم آلان رينيه، الذي يشارك هذا العام في مسابقة مهرجان"كان"الرسمية بفيلمه الجديد"العشب المجنون"، أن يروي كيف أن فيلمه الروائي الطويل الأول"هيروشيما يا حبي"شارك بالقوة فقط، في دورة عام 1959 من المهرجان. ذلك أن رئيس المهرجان في ذلك الحين، لي بري، عارض مشاركته، بعد أن كانت"لجنة باريس"قررت عرضه. ويبدي رينيه اليوم اعتقاده بأن الأميركيين كانوا وراء موقف لي بري. لماذا؟ لأن الفيلم"يفضح"قنبلة هيروشيما من خلال موضوعه. طبعاً لا يمكن رينيه تأكيد ذلك، كما لا يمكن أحداً نفيه. ولا يمكن بالطبع التعامل مع هذا الفيلم على أنه معاد للأميركيين سياسياً، أو حتى مخيف لهم فنياً وترويجياً. ف"هيروشيما يا حبي"كان ويبقى فيلماً صعباً ونخبوياً وأسلوبياً، الى درجة أن كثراً يعدّونه، تاريخياً، بين أفلام"الموجة الجديدة"، مع أن الحقيقة تقول لنا إنه لم ينتم الى تلك الموجة، من دون أن يكون بعيداً منها. اليوم، إذ يكرم آلان رينيه في"كان"، من الصعب أن نقول إنه يكرم ضمن إطار التكريم العام ل"الموجة". هو يكرم لشخصه ولمثابرته، ولحضوره الطويل في عالم السينما، ثم لجرأته: ذلك أنه ليس أمراً يحدث في كل يوم أن يأتي واحد من عمالقة تاريخ الفن السابع ليدخل في المسابقة الرسمية مجازفاً في الحالات كافة: فهو إن فاز لن يصدم الأمر من يقول إنه فاز بسبب سنه ومكانته لا بفضل فيلمه وهو هنا"العشب المجنون"الذي يقتبسه رينيه للمرة الأولى في مساره السينمائي عن رواية مطبوعة، هو الذي كان إما يشتغل انطلاقاً من سيناريوات كتبها له آخرون، منهم روائيون كبار: مرغريت دورا، آلان روب غرييه، جان كايرول، وإما انطلاقاً من مسرحيات أو أعمال أوبرالية. في"العشب المجنون"إذاً، يجرب رينيه حظه مع الرواية، وإن لم يفز قد يكون الأمر صدمة له، إذ لن يصدم هنا من يقول: لقد انتهى هذا العجوز كما انتهى غيره من قبل: في ساحة المنافسة الفنية. آلان رينيه عجوز؟ بالتأكيد وإن كان ثمة دائماً في عمله وجديته ما ينسينا ذلك. فهو اليوم في السابعة والثمانين من عمره ولد عام 1922 في مدينة فان الفرنسية، كما انه يدنو من عامه الرابع والستين سينمائياً، إن لم نحسب تجربته الأولى"مغامرة غي"1936. ذلك أنه حقق أول أفلامه وكانت تسجيلية أول الأمر عام 1946، وهو حتى تحقيقه"هيروشيما يا حبي"1959، حقق نحو عشرين فيلماً تسجيلياً يعتبر بعضها من الروائع الرائدة "ليل وضباب"الذي كان من أول أفلام"الهولوكوست"و"فان غوغ"و"غيرنيكا"- عن لوحة بيكاسو الشهيرة - و"كل ذاكرة العالم".... لكنه منذ"هيروشيما يا حبي"راح يركز على السينما الروائية، التي مزج فيها تقنيات السرد الحديث، الآتية من الرواية الجديدة، مع تقنيات الأسلبة السينمائية المرتبطة بتجديدات أصحاب"الموجة الجديدة". وعلى هذا النحو حقق إنتاجاً فريداً، من المؤسف والملاحظ أن بداياته كانت وتبقى، أفضله، من"هيروشيما يا حبي"الى"عناية إلهية"1977 ومن التحفة"العام الماضي في مارينباد"- عن سيناريو غريب لآلان روب غرييه -، الى"ستامسكي"1974، مروراً ب"مورييل أو زمن العودة"1993 والفيلم الجماعي"بعيداً من فيتنام"1967 و"الحرب انتهت"1966 و"أحبك... أحبك"... ومنذ بداية سنوات الثمانين، حتى وإن كان آلان رينيه واصل نشاطه وإنتاجه، فإن الاقتباس من المسرح والأوبرا والأغنية، بل حتى من النظريات العلمية "عمي الأميركي"- 1980 غلب على إنتاجه، وصار النجاح الذي يحققه أقرب الى أن يكون نجاحاً تكريمياً، أو شعبياً:"الحياة رواية"1983،"الحب موتاً"1984،"ميلو"1986،"أريد العودة الى البيت"1989 وصولاً الى"تدخين... لا تدخين"و"نعرف الأغنية"- وكان واحداً من أكبر نجاحاته التجارية - و"لا على الشفاه"و"قلوب"آخر ما حقق قبل"العشب المجنون". بقي أن نذكر، أخيراً، ان آلان رينيه، الذي نوّع في مواضيعه وأفكاره، نوّع كذلك في المهن السينمائية التي خاضها، فهو مخرج وكاتب سيناريو، طبعاً، لكنه مصوّر ومؤلّف ومنتج أيضاً، كما أنه مثّل في فيلمين، واحد عام 1942"زوار المساء"لمارسيل كارنيه، والآخر عام 1997"حين تبتسم القطة"، كما أنه نال عدداً كبيراً من الجوائز في مهرجانات فرنسية وعالمية أهمها بالتأكيد الأسد الذهبي في"البندقية"عام 1961 عن"العام الماضي في مارينباد". أما مهرجان"كان"فلم يمنحه سوى جائزة التحكيم الكبرى عام 1980 عن"عمي من الأميركي". فهل يكون أكثر كرماً معه هذه المرة؟ هذا هو السؤال. نشر في العدد: 16842 ت.م: 15-05-2009 ص: 22 ط: الرياض