لم يكن الكاتب الفرنسي، الراحل قبل سنوات قليلة، ألن روب غريّيه طارئاً على فن السينما مع ان شهرته الأساسية كانت أدبية كروائي ومنظّر في مجال الرواية الحديثة. بل إن روب غريّيه كان هو نفسه زعيم تيار «الرواية الجديدة» الذي انبثق اوائل العقد الخمسيني من القرن العشرين في فرنسا، ليفرض حضوره بسرعة كتيار ادبي وانتشرت اعماله، ثم الأعمال العالمية المحاكية له في العالم أجمع ولا تزال حتى اليوم. غير ان هذا الكاتب المتعدّد الاهتمامات ما كان من شأن فن السينما ان يظلّ بعيداً منه، بخاصة ان كثراً من مبدعي الموجة الجديدة في السينما الفرنسية، والقريبين منهم، اعلنوا منذ البداية ان من ضمن مصادر إلهامهم روايات وأساليب روب غريّيه نفسه، كما اعمال عدد من زملائه مثل ناتالي ساروت ودانيال بولانجيه، وحتى مرغريت دورا التي قبل ان تخوض تجارب سينمائية عدة كمخرجة/ كاتبة هي نفسها، كانت قد رفدت تلك السينما الفرنسية الصاعدة بفيلم كتبته وأخرجه آلان رينيه يعتبر - حتى اليوم – واحداً من أكبر كلاسيكيات السينما، ونعني بهذا، طبعاً، فيلم «هيروشيما يا حبي». اذاً، من هنا وحتى نتحدث عن تضافر ما بين الحركتين الجديدتين، السينمائية والروائية، في فرنسا ذلك الحين، خطوة نقطعها بسهولة مع انجازات روب غريّيه الذي لن يفوتنا هنا ان نذكر انه اصلاً صاحب النص الرائع الذي حوّله آلان رينيه نفسه، بعد سنوات من «هيروشيما يا حبي»، الى ذلك الفيلم الساحر والاستثنائي «العام الماضي في مارينباد». ناهيك بالحديث عن افلام حققها روب غريّيه بنفسه مثل «الخالدة» و «الانزلاق التدريجي للذة»، وما كل هذا إلا لنقول انه لم يكن من الأمور الاستثنائية ان يحاول هذا الكاتب طوال العقود التالية من حياته تجربة حظه مع السينما. اما الأخيرة بين هذه المحاولات التي نتحدث عنها، فلعلها ستبدو لنا الأكثر طرافة وأهمية، بل حتى الأكثر ارتباطاً بولع الكاتب بالسينما وفنّها وتاريخها. وذلك بالتحديد لأن الإطار الخاص الذي أوحى الى روب غريّيه مشروعه هذا، انما اتى مرتبطاً بواحد من كبار مبدعي الفن السابع طوال النصف الثاني من القرن العشرين: ميكائيل انجلو آنطونيوني. وطبعاً يعرف اليوم كل هاوٍ للسينما ومتابع لتاريخها ان الفيلم لم يتحقق لأن احداً لم يشأ المغامرة بإنفاق قرش على فيلم يحققه اديب طليعي بات حينها في عقده السبعيني ومن «بطولة» سينمائي كانت سنّه قد بدأت تدور من حول الثمانين عاماً اضافة الى انه كان قد شلّ وأُصيب بالصمم والبكم خلال المرحلة السابقة. فما هي الحكاية؟ حتى وإن كانت حكاية هذا المشروع تعود فقط الى بداية تسعينات القرن العشرين (العام 1992 تحديداً كما سنرى)، فإن الفكرة الأساسية لتعاون سينمائي ما، بين روب غريّيه وآنطونيوني، تعود الى عام 1961 حين ارتبط المبدعان بصداقة عميقة بعدما شاهد آنطونيوني فيلم «العام الماضي في مارينباد» وأبدى اعجاباً به. وعلى الفور ولدت عندذاك فكرة اشتغالهما معاً على مشروع سينمائي يكتبه روب غريّيه برفقة المخرج الإيطالي ويخرجه هذا الأخير برفقة الكاتب الفرنسي. غير ان المشروع، وبعدما وضعت صياغته الأولى التي يبدو حتى الآن انها ضاعت تماماً، سرعان ما طوي لينصرف كل منهما الى حياته وعمله. لكن ألن روب غريّيه لم ينس الأمر كلياً. وظلّ الحلم يراوده بين الحين والآخر. وفي عام 1992، وبعد ان أُصيب آنطونيوني بالشلل الذي لم يبق له سوى عقله وملكات الأبداع لديه فعالة، رأى ألن روب غريّيه ان الوقت قد حان للعودة الى حلمه القديم، ولكن مع بعض التغييرات: لقد رأى ان في امكانه هو ان يكتب ويخرج فيلماً تدور احداثه حول شخصية يمثلها زميله الإيطالي الكبير. وعلى هذا النحو كتب روب غريّيه سيناريو جعل له عنواناً موقتاً هو «الناجي» ليستبدل هذا العنوان لاحقا ب «القلعة» وهذا هو العنوان النهائي للمشروع الذي لم ير النور سينمائياً... ولا حتى على شكل كتاب في حياة صاحبه. لكنه عاد ونشر قبل عام من الآن في كتاب من 170 صفحة في نصّه الفرنسي. طبعاً لن نتوقف هنا اكثر مما فعلنا حول الأسباب التي حالت دون أفلمة النص، فالمهم في الأمر ان النص وجد وصار في الإمكان اعتباره جزءاً من تراث كاتبه بوصفه قطعة ادبية ومشروعاً سينمائياً مجهضاً. ومهما يكن من أمر هنا، فإننا نعرف ان ثمة منذ حقبة عودة كبيرة الى الاهتمام بالمشاريع السينمائية التي لم يحقّقها أصحابها سواء أكانوا سينمائيين ام مجرد مبدعين في فنون أخرى رغبوا يوماً في الدنو من الفن السابع فأغلق عليهم الأمر لأسباب قد تكون إبداعية لكنها في معظم الحالات اسباب انتاجية. وقد يكون من المفيد هنا ان نقول ان اكتشاف جزء اساس من القيمة الفنية الحقيقية لمبدع ما، إنما تكمن في دراسة مشاريعه المجهضة لأنها لا تكون قد خضعت لأيّ من التنازلات التي قد تخضع لها – ولأسباب كثيرة – المشاريع التي تتحقق. بيد ان هذا ليس موضوعنا هنا. لذلك نعود الى مشروع «القلعة». كما ألمحنا، كتب روب غريّيه السيناريو يومها، خصيصاً كي يكتب دوراً أساسياً لصديقه السينمائي. ومن هنا كان من الطبيعي ان يجعل «البطل»، جسدياً، صنواً لآنطونيوني. وهو دور عقيد في الجيش يبقى قائداً لقلعة هي عبارة عن حصن عسكري في مكان وزمان غير محدّدين. لقد فقد العقيد، وفق السيناريو، الحركة والنطق غير انه لا يزال قادراً على استخدام يده اليسرى وتشغيل عقله. كما ان الظروف التي تحيط بالقلعة لا تسمح بأية فرصة لإبدال القائد. ان الجنود وقائدهم، هنا، يعيشون الحال نفسها التي يعيشها في رواية الكاتب الإيطالي دينو بوتزاتي «صحراء التتار»، مجموعة من الجنود وقائدهم في قلعة مشابهة حيث ينتظرون بدورهم العدو الذي يشكل تهديداً لوجودهم لكن عليهم، مع هذا، مقاومته حتى الرمق الأخير. ليس امامهم اي اختيار آخر. ولكن هل هناك عدوّ فعلاً؟ وهل هناك حرب فعلاً؟ في رواية بوتزاتي هذان السؤالان اساسيان، اما في النصّ الذي كتبه روب غريّيه، فإن هذا الأمر ثانويّ الأهمية، حتى وإن كنا نعرف ان هناك حقاً مروراً للعدو لا نعرف كيف حدث ولماذا، وأن هناك قتلى ودماء. المهم هنا هو القائد نفسه الذي نشاركه في عيش ذكرياته ونشاطره مرور الزمن وطرح الأسئلة، ولا سيما حول علاقته بابنته، تلك العلاقة المحورية التي تحوّل النص الذي كان في أساسه ينتمي الى عوالم بوتزاتي الى نصّ يكاد ينتمي كلياً الى عوالم تبدو مشتركة بين عالمي روب غريّيه وآنطونيوني. لسنا ندري كيف كان هذا المشروع سيطلع بين يدي هذين المبدعين. ولكن – بالاستناد الى النصّ المنشور – من المؤكد انه كان سيتجلى في عمل كبير ولكن قاس وتأملي طالما ان الجزء الأهم من النص يدور داخل عقل العقيد وذكرياته وندمه وآلامه الخاصة. ومن المؤكد ان هذا البعد في العمل – ناهيك باستصعاب المنتجين الإنفاق على فيلم من الصعوبة بمكان القبول بأن يمثله مقعد أخرس وأصمّ حتى ولو كان اسمه ميكائيل آنجلو آنطونيوني - هو الذي انتهى به الأمر الى وئد المشروع. والحال ان روب غريّيه عبّر وإن في شكل موارب، عن هذا الأمر اذ كتب في تقديمه للنص مؤكداً ان منتجيه حين قدّم لهم السيناريو اشبعوه قصّاً ومحوا الى درجة كان من الواضح معها ان المؤلف نفسه سيتخلى عن المشروع في نهاية الأمر. وانطلاقاً من هنا كتب روب غرييه : «ان السيناريو انما هو نتيجة ما يسمّى بتفخيم رؤية المؤلف ومعناه انني اشاهد ما فيه بعينيّ وأذنيّ وكأن كل هذا حقائق واقعة... مهما كانت درجة بعد هذه الرؤى عن الواقع». [email protected]