لم يبلغ اي منهم بالطبع الحالة الاستثنائية الفريدة من نوعها التي بلغها زميلهم وعميدهم البرتغالي مانويل دي اولفيرا الذي لا يزال في ذروة نشاطه الإبداعي، كمّاً ونوعاً، وقد تجاوز المئة من عمره... ولا يزال يمد الفن السابع بين الحين والآخر بتحف سينمائية تدهش محبي السينما، في المهرجانات وخارجها. لكنهم، في غياب اولفيرا هذه المرة عن مهرجان «كان»، يشكلون مع بعضهم ظاهرة جماعية إذ يحضرون في تظاهرتين على الأقل عارضين ما حققوه من جديدهم السينمائي. إنهم، وكل على حدة، بعض من يمكن ان نسميهم شيوخ السينما العالمية. إذ ليس ثمة في العالم السينمائي اليوم سوى قلة من مخرجين لا يزالون عاملين وناشطين في سنّهم. او هذا ما يمكن قوله، على الأقل عن «كبيرهم» الفرنسي آلان رينيه الذي تجاوزت سنه التسعين وها هو يدخل المسابقة الرسمية في «كان» بهمة فتى في الأربعين، وبفيلم جديد له يحمل تقنيات وتجارب شديدة الحداثة. الفيلم هو «انتم لم تروا اي شيء بعد»... في المقابل يبلغ الإنكليزي كين لوتش الخامسة والسبعين ما يجعله يعتبر «شاباً» نسبياً... غير ان الفيلم الذي يتبارى به في المسابقة الرسمية نفسها، وعنوانه «حصة الملائكة»، يبدو وكأنه من صنع مبدع في الخمسين من عمره، بمرحه وبساطته وإطلالته على الحياة مفعماً بالأمل والتفاؤل. ومن ناحيته، يبدو المخرج الإيطالي الكبير برناردو برتولوتشي اكثر شباباً من زميليه الإنكليزي والفرنسي، فسنّه في الحقيقة بالكاد تجاوزت السبعين... غير ان جموده على مقعده المتحرك منذ سنوات يضفي عليه هالة اكثر تقدماً في السن، ما يجعله عجوزاً سينمائياً حقيقياً بدوره. ومع هذا، ها هو يعرض في «كان» وعلى الهامش، فيلماً جديداً له عنوانه «أنا وأنت»، يبدو شديد البساطة والتألق هو الآخر... بل مفاجئاً في رزانته إذ يأتي من لدن مبدع اعتادت أفلامه ان تكون صاخبة، علماً أن رزانة «أنا وأنت» لا علاقة لها بالشيخوخة بل بالنضوج الفني تبعاً لمبدأ بات برتولوتشي من المؤمنين به يقول: «اذا كنت قادراً على ان تقول الأمور ببساطة... لماذا تعقّدها». وصية مسرحية - سينمائية يعتبر الفرنسي آلان رينيه واحداً من كبار السينما الفرنسية، وقد ارتبط اسمه دائماً بالموجة الجديدة الفرنسية وحتى من دون ان يكون جزءاً من تيارها الذي انطلق اواخر خمسينات القرن العشرين مع افلام وكتابات جان – لوك غودار وفرانسوا تروفو وجاك ريفيت وكلود شابرول. ان ما فرض وجود رينيه الى جانب ذلك التيار كان اسلوبه السينمائي وتجريبيته الشكلية ناهيك بجرأة مواضيعه. وعلى رغم انه كانت للرجل افلام بالغة الأهمية قبل «هيروشيما يا حبي» الذي اطلقه فعلاً، فإن هذا الفيلم اتخذ بسرعة مكانة خاصة في تاريخ السينما الفرنسية والعالمية... وتحديداً من بوابة تتويجه في دورة العام 1959 من مهرجان «كان»... ومن بعده حقق رينيه الكثير من الأفلام الكبيرة. وهو إذ جعل بدايته في السينما الروائية أدبية الطابع منذ هذا الفيلم الذي كتبه مع مرغريت دورا إحدى ابرز الكتاب الطليعيين الفرنسيين خلال النصف الثاني من القرن العشرين، واصل دائماً ربط سينماه بالأدب الحديث مشتغلاً على نصوص لآلان روب غرييه («العام الماضي في مارينباد») وجان كايرول («مورييل») بين آخرين، رابطاً بين المسرح والسينما في شكل خلاق، بل واصلا احياناً الى ربط سينماه مع العلوم التطبيقية كما في «عمي من اميركا». المهم ان سينما رينيه ظلت على رغم كثافة افلامه وتنوعها مرتبطة بتلك الجملة الشهيرة التي تبدو علامة مستقاة من حوارات «هيروشيما يا حبي»، «انت لم تر شيئاً بعد». وهذه الجملة هي التي يستخدمها آلان رينيه اليوم عنواناً لفيلمه الجديد، وهو يستخدمها إما تذكيراً بهذا الماضي السينمائي المدهش، وإما على سبيل التلاعب هو الذي كثيراً ما كانت سينماه سينما تلاعب – مثل الألعاب التي يمارسها الثري العجوز في واحد من اقوى افلامه «بروفيدانس» -، غير ان ثمة في الفيلم الجديد ما يقول لنا ان العنوان يشكل جوهره. اما الفيلم في حد ذاته فإنه يبدو في نهاية الأمر اشبه بوصية سينمائية يتركها لنا رينيه من دون ان يعني ذلك انه عازم على التوقف او الرحيل، فليس ثمة ما يشير الى ان الرجل تعب ويريد لهذا الفيلم ان يكون أخيره. ومع هذا في الفيلم اشارات كثيرة مستقاة من مجمل المتن السينمائي الذي اشتغل عليه رينيه طوال ما يزيد عن نصف قرن، ما يكاد يجعل الفيلم اشبه بسيرة ذاتية ما للمخرج نفسه. فهو يتقدم الينا على الأرجح تحت قناع المخرج والكاتب المسرحي انطوان الذي إذ «يرحل» عن عالمنا، يترك لمدير قصره ان يدعو عدداً من الممثلين الأصدقاء للاجتماع في هذا القصر كي تقرأ وصيته امامهم. وهؤلاء يدعون بالفعل ويقدّمون الينا هنا في اسمائهم الحقيقية، ومن بينهم سابين آزيما وبيار آرديتي وميشال بيكولي وآن كوسينيي ولامبرت ويلسون وغيرهم من الذين عُرف بعضهم بالعمل مع رينيه نفسه في معظم أفلامه. غير انهم ليسوا هنا بهذه الصفة عملياً، بل لأنهم من الذين قاموا بالأدوار الرئيسة في مسرحيات انطوان دالباك، الصديق الراحل، ولا سيما في مسرحيته الأشهر «ايريديس» – وهي في الحقيقة من تأليف جان آنوي، الذي من الواضح ان رينيه يقتبس هنا معاً اثنتين من مسرحياته «اوريديس» نفسها، و«عزيزي انطوان» ، أما ما هو مطلوب هنا من هذا الاجتماع فإنما هو مشاهدة فيلم صوّر لتقديم فريق من الممثلين الشباب للمسرحية ذاتها التي كانت ثلاث مجموعات من الممثلين المخضرمين الحاضرين قدمتها في الماضي. وهكذا، إذاً، تختلط لعبة الفن بلعبة الذكريات بمبدأ التلاعب... إذ على مدى عرض الفيلم المسرحي داخل الفيلم يطغى نوع من التماهي بين التمثيل والواقع، بين الأداء الجديد وضروب الأداء القديم للمسرحية نفسها... يتم تناقل الحوارات وتبادل الأدوار، تنكشف علاقات الماضي وأكاذيب الحاضر... ويطفو على الشاشة امامنا ذلك الاندماج الذي يعيشه الممثلون مع ادوارهم في ألعاب «بيرانديلية» مقلوبة... وكل هذا انما يتيح لآلان رينيه الغوص في تجريب تقني مدهش يلجأ فيه الى اللعب بالشاشة تقطيعاً وهندسة، وخلق مشاهد موازية ومتوازية والتقابل بين الحوارات... وكل هذا في لعبة فنية ستفضي في نهاية الأمر الى الكشف عن ارتباط آلان رينيه بكل ما يمكن ان تقدمه السينما وتقنياتها من امكانات للتجريب. لكن هذا التدفّق الشكلي لا يمحي بالطبع عمق الموضوع المتشعب الذي يدنو مخرجنا منه وهو موضوع لا يقل عن الموت والحياة وخداع لعبة المظاهر ودور الفن في حياتنا بل أسبقية هذا الدور في لعبة البحث عن حقيقة الحقيقة. والحقيقة انه إزاء ذلك كله لن يعود مهمّاً ان نعرف في النهاية ان انطوان لم يكن ميتاً حين دعا الاصدقاء واجتمعوا... اذ ها هو سيظهر لهم ويكشف عن تلاعبه بهم، وإن لحين... إذ وكما تقضي مسرحية جان آنوي التراجيدية الإغريقية، لا بد من وقت يأتي في النهاية ليضع حداً لألعاب التظاهر والتماهي ولخدع حياة تبدو عاجزة عن مجاراة الموت في حقيقته النهائية. إنه فيلم كبير هذا الذي قدمه لنا آلان رينيه حتى وإن كان من الصعب توقّع فوزه بالسعفة الذهبية في نهاية الأمر. الأرجح انه سيعطي صاحبه امكانية الفوز بسعفة استثنائية ترتبط بكون المهرجان بلغ عامه الخامس والستين. آخر اليساريين المحترمين كين لوتش، كما حال آلان رينيه، معتاد على عرض كل جديد يحققه، في مهرجان «كان» اولاً... وهو معتاد على التطلع في كل مرة الى الحصول على السعفة الذهبية التي لم تعط له سوى مرة واحدة عن فيلمه الفاتن «الريح التي تهز الشعير». والى هذا كله اعتاد لوتش ومنذ فيلميه الأولين في سنوات السبعين «يا للبقرة المسكينة» و«حياة عائلية»، ان يثير في كل عمل يحققه سجالاً سياسياً صاخباً طالما ان هذا المبدع الذي يلقب ب «آخر اليساريين المحترمين» آلى دائماً على نفسه ان تكون سينماه سينما قضايا ونضال وشجب للظلم السياسي والاجتماعي... سواء أكان محلياً ام إرلندياً ام على مسرح السياسة العالمية، وسواء تعلق بالواقع الاقتصادي او الاجتماعي او بالثورة الإرلندية او الحرب العراقية او البطالة في انكلترا او حتى التلاعب بالعقول في مباريات كرة القدم. ما من موضوع يمكنه ان يفلت من سهام كين لوتش الذي يموضع نفسه بديهياً من منطلق تقدمي مشاكس مناهض لتطلعات الإمبراطورية البريطانية في اي مكان وزمان... بيد ان الرجل لم يعط ابداً شيكاً على بياض حتى للذين يناصرهم... دأبه النقد الدائم والبحث عن سياق اخلاقي للكلام والفعل في افضل العوالم الممكنة. ومن نافل القول ان لوتش اذا كان نجح في هذا مرات عدة، فإنه أخفق مرات ومرات في مسعاه. ناهيك بأنه كان – ولا يزال – يحدث له ان يسأم هذا كله في بعض الأحيان فينصرف الى تحقيق عمل هادئ يسلّي به متفرجيه ويسري عن نفسه ريثما يستعيد قدرة الدخول في معركة جديدة. بيد انه حتى في تلك الاستراحات السينمائية القصيرة كان لا يعدم وسيلة لربط موضوعه بهمّ اجتماعي ما. وهذا بالتحديد ما ينطبق هذه المرة على فيلم لوتش الجديد «حصة الملاك»، بل ينطبق الى درجة تساءل معها كثر: ما الذي جاء يفعله هذا الفيلم «الخفيف» في مسابقة مهرجان «كان». «حصة الملاك» فيلم خفيف بالتأكيد وفيلم مسلّ من دون ريب... ويكاد ما يقوله عنه مخرجه من انه توخى فيه طرح مشاكل العاطلين من العمل، ان يكون إسقاطاً على الفيلم من خارجه... لكن استحقاقه او عدمه لأن يكون في مسابقة «كان» امر قابل للنقاش. اما ما لا يقبل النقاش فهو طرافة الفيلم واحتمال ان يصبح واحداً من اكثر افلام صاحبه شعبية وحيوية. تدور احداث «حصة الملاك» في المناطق البائسة من اسكوتلندا حيث تسود البطالة والتفتت الاجتماعي... لكنها تدور ايضاً في اوساط صناعة الويسكي. والأحداث لا تروي بؤس اهل المكان بقدر ما تروي امكانية خروجهم من بؤسهم ليس بالنضال بل بالتحايل. وتحديداً من طريق خبطة احتيال وسرقة جماعية على طريقة السينما الجماهيرية الأميركية. اما محور هذه الأحداث فهو الشاب روبي الذي يعيش من العنف والسرقات الصغيرة، وإذ يقبض عليه مرة يحكم ب 300 ساعة من العمل الاجتماعي. وخلال ذلك العمل الذي ينخرط فيه فيما تكون صديقته على وشك ان تضع طفلهما، يلتقي مجموعة من رفاق سيتآمر معهم لاحقاً للقيام بخبطة تقيهم البؤس والسجن. لكنه قبل ذلك سيتعلم بالصدفة كيف يكون ذواقة خمر ويجد نفسه في مصفاة يقال له فيها ان ثمة برميل خمر اكتشف ستباع الزجاجات منه بمئات الألوف لندرتها... وعلى هذا النحو تتشكل حبكة الفيلم وينجح روبي في عمليته ويحقق حلم الثراء في سياق لا بد من ان نكرر انه غير معهود في سينما لوتش... ولربما كان علينا ان نصدق هنا ان هذا الأخير انما بنى هذا الفيلم المسلّي انطلاقاً من اكتشافه معنى عبارة «حصة الملاك» التي تطلق في عالم صناعة الويسكي على ما يتبخر من هذا المشروب خلال تخزينه! عودة الشيخ الى تعقّله كما اشرنا يقلّ عمر الإيطالي برتولوتشي عن عمر زميليه في شكل واضح، فهو لا يزال في الحادية والسبعين، لكن قعوده في كرسيّه المتحرك وعجزه عن السير، يظهرانه اكبر من سنّه بكثير. وهذا ما جعله شبه متقاعد عن العمل السينمائي منذ سنوات عدة وبالتحديد منذ فيلمه الفرنسي «الحالمون» الذي حققه قبل ما يقرب من عشر سنوات... ولكن الملل سرعان ما استبد به فقرر العودة وراء الكاميرا ولو مقعداً. ولأن صعوبة حركته وتنقله تجعله غير قادر على مواصلة درب «العالمية» التي جعلته يحقق كل افلامه خلال الثلاثين عاماً الفائتة خارج ايطاليا، متنقلاً بين الصين («الإمبراطور الأخير») والمغرب («السماء الواقية») وفرنسا («آخر تانغو في باريس» و«الحالمون») والتيبيت («بوذا الصغير»)... كان لا بد له من ان يحصر عمله الآن في بلاده الإيطالية معلناً انه اشتاق الى ان يسمع ممثليه يتكلمون الإيطالية... فإذا به يحصر العمل اكثر ليصور فيلمه الجديد «أنا وأنت» داخل قبو في بناية... لا تخرج الكاميرا منه إلا نادراً منذ اللحظة التي يدخل الى هذا القبو فتى الرابعة عشرة لورنزو بطل الفيلم كما بطل الرواية التي اخذ عنها الفيلم. غير ان كاميرا برتولوتشي المدهشة عرفت كيف تحوّل القبو الى عالم هندسي متكامل... والى مكان لاكتشاف لورنزو الحب والحنان اللذين كان في حاجة اليهما وكان افتقاده لهما سبباً في لجوئه الى القبو. فهو لجأ الى هناك هرباً لأسبوع من رحلة مدرسية الى مناطق الثلوج. كان لا يرغب في الرحلة لأنه على غير توافق مع رفاقه في المدرسة كما انه على غير توافق مع امه في البيت ناهيك بأبيه الذي لا نراه ابداً. عندما قرر لورنزو ان ينزوي في القبو لأسبوع، كان عازماً على ان يعيش هادئاً وحيداً مع موسيقاه ومئات النملات التي يربيها ويزمع دراستها. لذلك جهز ما يكفي من طعام وشراب وثياب، ورتب القبو... وبدا انه حسب حساب كل شيء... لكنه لم يحسب حساب وصول اخته غير الشقيقة اوليفيا الى المكان. اوليفيا لا تعيش مع لورنزو والعائلة في البيت البورجوازي الأنيق. هي هنا فقط لاستعادة حوائج لها تركت هناك. طبعاً يفاجأ لورنزو بوجودها ويطردها. تذهب هي بالفعل لكنها تعود باحثة عن مأوى فيوافق على مضض. لكنه سرعان ما يكتشف انها مدمنة على المخدرات... انطلاقا من هنا يبدأ شيء من الحنان بالتسرب الى الفتى ويبدأ مع اخته اقامة علاقة حنان وتعاطف يفتقر اليها الإثنان... وإذ ينتهي الفيلم وهما معاً، من دون خبطات مسرحية ومن دون فواجع او فضائح، يكون كل منهما قد تعلم الحياة والتفاعل مع مجرياتها... يكون كل منهما قد استعاد امله بالحياة. إن هذا هو كل ما يحدث في هذا الفيلم البسيط... الفيلم الذي تمكن فيه برناردو برتولوتشي - ويا لمعجزة السينما التي تبدو لدينا هنا قادرة على كل شيء -، من ان يحول المكان المغلق الى مكان يتسع لفساحة الحياة وعظمتها، وذلك من طريق توليد العواطف المخبوءة التي يقول لنا المخرج انها كامنة فينا لكنها تحتاج الى عواطف تقابلها حتى تنفجر. بهذا، وبالقدرة التقنية التي جعلت القبو على اتساع العالم والكون، قدّم برتولوتشي المقعد والمتقدم في السن قبل اوانه، واحداً من أصفى افلام المهرجان. ولكن كذلك واحداً من اطيب افلامه هو الذي كان اعتاد ان يكون كل فيلم جديد له فضيحة سينمائية جديدة. هنا في هذا الجديد، ما من فضيحة وما من صخب. هناك فقط السينما في اصفى تجلياتها... ويكفينا هذا بالطبع!