يحار القارئ والمراقب لسياسات الدول المقتدرة في القرن العشرين في أمر قد يبدو غريباً ومدعاة للعجب: الطريقة التي يتعاطى بها قادة هذه الدول مع المعلومات التي توفرها لهم أجهزة استخباراتهم المتخصصة. ان تاريخ الحروب في القرن الماضي بدءاً من الحرب العالمية الأولى، مروراً بالثانية، وانتهاء بحربي كوريا وفيتنام يظهر في شكل متواتر القانون الذي يحكم هذه العلاقة. فمن بين الكم الهائل من المعلومات والتحليلات والاقتراحات الاستخباراتية المقدمة اليهم، غالباً ما يختار القادة تلك المعلومات والاقتراحات التي تتناغم وتصوراتهم وأهدافهم الاستراتيجية المسبقة، أي السابقة على العمل الاستخباري. أما التحليلات والاستنتاجات المتعارضة مع هذه الأهداف، فإن مصيرها الإهمال أو الغبار في طي الأدراج. ولعل موقف حاكم روسيا المطلق جوزيف ستالين من المعلومات المتواترة التي ما انفك جهاز استخباراته يوفرها له حول خطة هتلر المسماة"باربروسا"لاجتياح الاتحاد السوفياتي عام 1941 المثال الأكثر شيوعاً على هذه الظاهرة. رفض ستالين وبعناد بالغ الأخذ بهذه المعلومات والمعطيات الدقيقة حول مكان وتوقيت الهجوم الألماني الكبير الذي غيّر وجه الحرب العالمية الثانية لأنها كانت تتعارض مع استراتيجيته السياسية في عدم المواجهة مع ألمانيا في تلك الحقبة، فكان الهجوم المباغت والهائل الذي أودى بحياة الملايين من جنود الجيش الأحمر الروسي بسبب غياب اي استعداد عملاني، عدة وعتاداً، لمواجهة الجحافل الألمانية المتقدمة. ان غياب الاعتبارات العقلانية والموضوعية عن قرارات الحرب والسلم ليس حكراً على البنى السياسة الديكتاتورية كروسيا الستالينية أو انسبائها الكثر. وذلك يعود الى كون قرار الحرب والسلم محصوراً بعدد قليل من القادة على رأس الهرم السياسي لا يتعدون عدد أصابع اليد الواحدة، بغض النظر عن طبيعة السلطة ديموقراطية منتخبة كانت أم ديكتاتورية سلطوية. وما تعاطي الادارات الأميركية المتعاقبة مع المعلومات الاستخبارية خلال الحرب الفيتنامية 1963 - 1974 سوى دليل ساطع على تقهقر النظرة العقلانية عندما يتعلق الأمر بالحرب والسلم حتى في أكثر الدول ديموقراطية. بدأت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية بتكوين توقعات سلبية حول قدرة أميركا على كسب الحرب منذ عام 1964، أي بعد سنة فقط من نشوبها. لكن معظم صانعي القرار في الولاياتالمتحدة لم يلتفتوا الى هذه التقديرات المخالفة لتطلعاتهم حتى كان الانكسار الأميركي الكبير أمام الهجوم الكبير في ربيع 1968 الذي أدى بهم الى خفض سقف توقعاتهم. عوضاً عن التحليلات العامة لوكالة الاستخبارات المركزية التي ذهبت باتجاه مغاير لأمانيهم، لجأ قاطن البيت الابيض ومساعدوه الى التقارير الميدانية الصادرة عن أجهزة استخبارات أخرى والى التلخيصات الدورية لهذه التقارير. السمة المميزة لتطور الاستخبارات الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية كانت ولم تزل الى قرابة نهاية عهد جورج بوش، تعدد وكالات الاستخبارات. ولم تكن الوكالة المركزية سوى واحدة من ثلاث عشرة وكالة تعمل في فيتنام في آن معاً واضعة امكاناتها التقنية العالية في مجال الاتصالات الالكترونية لسبر أغوار العدو، اضافة الى الوسائل الأكثر تقليدية لجمع المعلومات. بلغ هذا التضخم الاستخباري حداً غير مسبوق بداية عام 1967 حيث كانت الاستخبارات العسكرية وحدها تصدر ما زنته 1400 رطل 600 كيلوغرام من التقارير الاستخبارية. في الفترة نفسها كانت تُترجم حوالى ألف صفحة يومياً من الوثائق الشيوعية الفيتنامية من أجل فقه هذا الكم الهائل من المعلومات وما يترتب عليه من استنتاجات حول سير الحرب، لجأ البنتاغون الى تلخيص دوري يصدر كل ستة أسابيع بدءاً من كانون الثاني يناير 1967. ووجد الجنرالات والمستشارون السياسيون في هذه المعمعة الهجينة من المعلومات الوفيرة كماً ونوعاً، منجم ذهب ينتقون منه ما يخدم مستقبلهم المهني ومواقعهم في السلطة، ومن ثم يقدمونه الى أصحاب القرار في البيت الأبيض. بالطبع لم تكن الاشارات السلبية الكثيرة حول سير العمليات العسكرية ومستقبلها تجد طريقها الى طاولة ماكمارا وجونسون ومساعديهم المباشرين، الا النزر اليسير، وقد اعترف وليام كولبي، رئيس وكالة الاستخبارات المركزية سي آي إي لاحقاً بأن الشيوعيين كانوا يبثون ويطبعون في شكل علني العناصر الاساسية لاستراتيجيتهم العسكرية والسياسية، وأن ما كان منشوراً علناً من هذه الاستراتيجية كان غالباً اكثر اهمية بكثير من المعلومات السرية الباهظة الكلفة التي كانت توفرها أجهزة الاستخبارات المتعددة. نخلص مما سبق الى مفارقة قاسية تحكم علاقة الدائرة الضيقة لأصحاب القرار بالعمل الاستخباري في ما يخص القرار المصيري لأي دولة: قرار السلم والحرب مع تعقد المجتمعات الصناعية وزيادة ملكاتها التكنولوجية والمعرفية يصبح لدى صانع القرار في أعلى السلطة، من ناحية المبدأ، مدى أوسع بكثير من السابق، للحصول على معلومات دقيقة ومؤثرة حول الخصوم الخارجيين، ما يتيح له نظرياً أن يبني قراره في المواجهة أو عدمها على رؤية موضوعية للحقائق، فلا يقود أمته الى مغامرات عقيمة غير محسوبة النتائج. وبالفعل ثمة مدرسة مرموقة في علم الاجتماع الأوروبي، من أتباع ماكس فيبر عالم الاجتماع الألماني الشهير، تذهب الى أن مؤسسات الدولة القومية الحديثة تخضع لمعايير مهنية وعقلانية في ممارستها وظائفها، وذلك باستقلال شبه كامل عن الاشخاص المتربعين على السلطة. ويتبع من هذا أنه كلما ازدادت القدرات المادية والتقنية لهذه الدول، اقترب عمل مؤسساتها من النسق الموضوعي العلمي. ان المشكلة ليست في غياب المعايير الموضوعية، والعلمية عن العمل الاستخباري، وانما في وجود مستويين مختلفين جداً من ناحية المعايير التي تحكم موقفهما تجاه المعلومات الاستخبارية: فريق الخبراء التقنيين من مخبرين وعمال إشارة وتنصت ومترجمين من جهة، وفريق الجنرالات والمستشارين السياسيين من جهة أخرى، والذي يشكل في الغالب الممر الاجباري للتحاليل الاستخبارية الى طاولة أصحاب القرار. واذا كانت معايير العقلانية والموضوعية هي الغالبة على عمل الخبراء الميدانيين، فلا يصح الأمر ذاته على كيفية تعاطي المستوى العسكري والسياسي مع التقارير والمعلومات التي يوفرها الفريق الأول. ان ضباط الجيش والمسؤولين العسكريين الذين تناط بهم ترجمة التقارير الاستخبارية الى سياسات عملانية محددة، لا ينظرون الى تلك المعلومات نظرة محايدة منزهة عن دينامية الصراع على الرتب والنفوذ داخل المؤسسة العسكرية. هذه الاعتبارات تدفعهم الى ابراز الانجازات والتقليل من أهمية الاختراقات كونها تؤثر سلباً في موقعهم في الهرم العسكري وصورة أدائهم أمام رؤسائهم، وبالتالي في فرصهم في الارتقاء التراتبي. ان معايير النجاح في تحقيق المهمات الموكلة وهاجس الفوز والانتصار على الأعداء، وليس معايير الموضوعية ونقل الواقع الميداني بتجرد، هي التي تحكم عمل الضباط في رسم التوقعات الميدانية والاقتراحات العملانية. يشير تاريخ الحروب التي خاضتها الدول المتقدمة صناعياً في القرن العشرين الى أن قرارات الحرب والسلم في هذه الدول لا تخضع لاعتبارات العقلانية والموضوعية، على رغم تنامي قدراتها الاستخبارية في شكل غير مسبوق. وعلى رغم خطورتها البالغة، فإن هذه القرارات غالباً ما تكون محكومة بمعايير الولاء، وعدم الخروج على إجماع النخبة الحاكمة وأهدافها السياسية والايديولوجية. * كاتب لبناني