وفاة والد الأستاذ سهم الدعجاني    نفاذ تذاكر "كلاسيكو" الاتحاد والنصر    «فار مكسور»    طبيب يواجه السجن 582 عاماً    مطربة «مغمورة» تستعين بعصابة لخطف زوجها!    بسبب المخدرات .. نجوم خلف قضبان السجن!    مركز الملك سلمان لأبحاث الإعاقة يوقع عددًا من مذكرات التفاهم    التشكيلي الخزمري: وصلت لما أصبو إليه وأتعمد الرمزية لتعميق الفكرة    الملحم يعيد المعارك الأدبية بمهاجمة «حياة القصيبي في الإدارة»    تقدمهم عدد من الأمراء ونوابهم.. المصلون يؤدون صلاة الاستسقاء بالمناطق كافة    «كورونا» يُحارب السرطان.. أبحاث تكشف علاجاً واعداً    ساعتك البيولوجية.. كيف يتأقلم جسمك مع تغير الوقت؟    الرياض يتغلّب على الفتح بثنائية في دوري روشن للمحترفين    «مبادرات التحول الاقتصادي».. تثري سوق العمل    في عهد الرؤية.. المرأة السعودية تأخذ نصيبها من التنمية    «قمة الكويت».. الوحدة والنهضة    مملكة العطاء تكافح الفقر عالمياً    هل يمكن للبشر ترجمة لغة غريبة؟ فهم الذكاء الاصطناعي هو المفتاح    مرآة السماء    ذوو الاحتياجات الخاصة    اكتشافات النفط والغاز عززت موثوقية إمدادات المملكة لاستقرار الاقتصاد العالمي    الاتحاد السعودي للملاحة الشراعية يستضيف سباق تحدي اليخوت العالمي    انطباع نقدي لقصيدة «بعد حيِّي» للشاعرة منى البدراني    عبدالرحمن الربيعي.. الإتقان والأمانة    رواد التلفزيون السعودي.. ذكرى خالدة    روضة الآمال    قيمة الهلال السوقية ضعف قيمة الأندية العربية المشاركة في المونديال    المغرد الهلالي محمد العبدالله: لا مكان لنيمار والمترو الأفضل وحلمي رئاسة «الزعيم»    هيئة الترفيه وأحداثها الرياضية.. والقوة الناعمة    فصل التوائم.. البداية والمسيرة    «متلازمة الغروب» لدى كبار السن    نائب وزير الموارد البشرية يزور فرع الوزارة والغرفة التجارية بالمدينه المنورة    الاستدامة المالية    رسائل «أوريشنيك» الفرط صوتية    وكالة الطاقة الذرية: إيران تخطط لتوسيع تخصيب اليورانيوم بمنشأتي نطنز وفوردو    "راديو مدل بيست" توسع نطاق بثها وتصل إلى أبها    إنصاف الهيئات الدولية للمسلمين وقاية من الإرهاب    بالله نحسدك على ايش؟!    عريس الجخّ    كابوس نيشيمورا !    لولو تعزز حضورها في السعودية وتفتتح هايبرماركت جديداً في الفاخرية بالدمام    «COP16».. رؤية عالمية لمكافحة التصحر وتدهور الأراضي    حملة توعوية بجدة عن التهاب المفاصل الفقارية المحوري    مفتي عام المملكة ونائبه يستقبلان مدير فرع الرئاسة بمنطقة جازان    أمير تبوك يستقبل المواطن مطير الضيوفي الذي تنازل عن قاتل ابنه    برنامج مفتوح لضيوف خادم الحرمين الشريفين للعمرة والزيارة "بتلفريك الهدا"    رئيس مجلس أمناء مركز الملك سلمان لأبحاث الإعاقة يعقد اللقاء السابع عشر    وزير الخارجية يصل الكويت للمشاركة في الدورة ال 162 للمجلس الوزاري التحضيري للمجلس الأعلى الخليجي    بالتضرع والإيمان: المسلمون يؤدون صلاة الاستسقاء طلبًا للغيث والرحمة بالمسجد النبوي    الدكتور عبدالله الوصالي يكشف سر فوزه ب قرص الدواء    إنسانية عبدالعزيز بن سلمان    أمير حائل يعقد لقاءً مع قافلة شباب الغد    أكدت رفضها القاطع للإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين.. السعودية تدعو لحظر جميع أسلحة الدمار الشامل    محمد بن عبدالرحمن يشرّف حفل سفارة عُمان    رئيس مجلس الشيوخ في باكستان يصل المدينة المنورة    أمير تبوك يقف على المراحل النهائية لمشروع مبنى مجلس المنطقة    هيئة تطوير محمية الإمام تركي بن عبدالله الملكية ترصد ممارسات صيد جائر بالمحمية    هنآ رئيس الأوروغواي الشرقية.. خادم الحرمين الشريفين وولي العهد يعزيان القيادة الكويتية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مذكرات جورج تينيت "في قلب العاصفة". فجر أول أيام الجنون العالمي 12/9/2001 يشهد اتهام ريتشارد بيرل المبكر للعراق 1
نشر في الحياة يوم 07 - 07 - 2007

طلع فجر الأربعاء 12 أيلول سبتمبر 2001، مفتتحاً أول يوم يضرب فيه الجنون العالم. في الصباح الباكر، بعد سويعات من النوم، توجّهت نحو الباب الأمامي للسيارة المصفّحة"فورد إكسبدِشن"التي كانت تنتظر لتقلّني للاجتماع برئيس الولايات المتحدة.
كانت التدابير الأمنية خارج منزلي في ضواحي واشنطن في مريلند أكثر شدة من ذي قبل. وعندما وصلت إلى البيت الأبيض، شاهدت الانتشار الكثيف لرجال جهاز الأمن السري الذين تفصل واحدهم عن الآخر بضعة أقدام وهم يلوّحون بأسلحتهم. وكانت الطائرات المقاتلة التي تجوب الأجواء فوق العاصمة مرئية بوضوح. فقبل أقل من أربع وعشرين ساعة، تعرّضت أميركا لهجوم شنّه جيش أجنبي غير حكومي. قُتل آلاف في مدينة نيويورك، والبنتاغون، وفي حقل في بنسلفانيا. وكان لدينا في السي آي اي سبب وجيه للاعتقاد باحتمال وقوع مزيد من الهجمات في الساعات أو الأيام التالية، وأنّ 11/9 ليس سوى الرشقة الأولى من هجوم متشعّب على البرّ الأميركي.
هذه الأفكار كلها كانت تثقل ذهني عندما مشيت تحت المظلّة التي تؤدّي إلى الجناح الغربي، وشاهدت ريتشارد بيرل خارجاً من المبنى فيما أهمّ بدخوله. وبيرل هو أحد عرّابي حركة المحافظين الجدد، وكان ذات يوم رئيس مجلس السياسة الدفاعية، وهو مجموعة مستقلة تقدّم المشورة لوزير الدفاع. لم تكن العلاقة بيننا أكثر بكثير من معرفة عابرة. وعندما أغلقت الأبواب خلفه، نظر كل منّا إلى الآخر وهزّ رأسه. وعندما وصلت إلى الباب، التفت بيرل إليّ وقال:"يجب أن يدفع العراق ثمن ما حدث أمس. إنّهم يتحمّلون المسؤولية".
ذُهلت، لكنّني لم أقل شيئاً، فقبل ثماني عشرة ساعة، تفحّصت كشوف المسافرين على متن الطائرات المختطفة الأربع وأظهر ذلك بما لا يدع مجالاً للشكّ أنّ"القاعدة"تقف وراء الهجمات. وفي الأشهر والسنين التالية، تفحّصنا بعناية احتمال وجود دور تعاوني لدول راعية، ولم تعثر الاستخبارات لا في ذلك الوقت ولا الآن على أي دليل على تواطؤ عراقي.
التفتّ إلى بيرل عند حاجز جهاز الأمن السري وتساءلت: تُرى عمّ يتحدّث؟ وبعد لحظات، خطر في بالي سؤال ثانٍ: مع من كان ريتشارد بيرل مجتمعاً في البيت الأبيض في صباح هذا اليوم الباكر بالذات؟ ولم أتوصّل قط إلى جواب عن السؤال الثاني.
طغى موضوعا الإرهاب والعراق التوأمان، في السرّاء أو في الضراء، على سنواتي السبع كمدير لوكالة الاستخبارات المركزية. وعندما تركت منصبي في تموز يوليو 2004، بدا أنّ هذين الموضوعين حجبا كل عمل آخر أنجزته وكالة الاستخبارات المركزية، وكل القضايا الأخرى التي واجهتها في عملي. ومنذ ذلك الوقت وأنا أفكّر في ذلك اللقاء الوجيز مع ريتشارد بيرل بأنّه اللحظة التي تقاطع فيها هذان الموضوعان المسيطران في حياتي المهنية، على رغم أنّني لم أدرك ذلك في حينه.
* * *
نشأتُ في حي كوينز في مدينة نيويورك كابن لمهاجرَين من الطبقة العاملة، ولم أتصوّر يوماً أنّني سأجد نفسي في مثل هذا الموقع. كنت أطمح إلى العمل في الحكومة لكن لم أفكّر لحظة قط في الحياة في عالم الاستخبارات الخفي. مع ذلك وجدت نفسي، من خلال سلسلة من الانعطافات والالتواءات المهنية غير المتوقّعة، في متاهة المرايا.
الاستخبارات كمسار مهني تتكوّن من أجزاء متساوية من النشوة والإحباط، لأنّها تتعامل بحكم التعريف مع المبهم والمجهول والمخفي عن عمد. فما يحاول أعداء الولايات المتحدة أن يخفوه جاهدين، يعمل رجال ونساء الاستخبارات الأميركية على كشفه بصعوبة. وطوال حياتي العملية، حاولت باتباع الخصائص المميّزة للاستخبارات، البقاء بعيداً عن الأضواء - ألاّ أظهر أو أسمع كثيراً في العلن.
عندما تركت الحكومة، شعرت بالحاجة إلى التفكير قليلاً قبل أن أكتب أو أتحدّث. وبما أنّني استفدت من الوقت والمنظور، صرت أعتقد بأنّ من واجبي البوح ببعض الأشياء التي عرفتها في السنوات التي قضيتها على رأس الاستخبارات الأميركية. وشعرت بأنّني أدين لعائلتي وزملائي السابقين، والتاريخ، بقول ما يمكنني قوله عن الأحداث التي راقبتها.
* * *
تعتمد هذه المذكّرات على ذكرياتي عن فترة صاخبة في حياة أمتنا. ومثل هذه الأعمال لا يمكن أن تكون موضوعية تماماً، لكنّها نزيهة وغير ملمّعة بقدر ما استطعت إلى ذلك سبيلاً. هناك أشياء كثيرة أفخر بها في عهدي كمدير للاستخبارات المركزية، وأشياء غير قليلة أتمنّى لو أنّني أستطيع أن أعيد عملها ثانية. وفي هذه الصفحات سأذكر أين أخطأت أنا، أو المنظمة التي أرأسها، ولن يجد القرّاء نقصاً في مثل هذه الاعترافات. وعندما أشير إلى مناسبات كان فيها أداؤنا قوياً، آمل أن تحظى هذه التأكيدات باهتمام منصف. لذا يعكس هذا الكتاب كيف بدت لي هذه الأشياء حرفياً في قلب العاصفة.
إنّ موقعك هو الذي يحدّد موقفك من القضايا. ومن موقعي شاهدت تزايد حجم موجة المدّ الإرهابي. كما شاهدت أيضاً مجموعة صغيرة من المحاربين المنفردين الذين لا يُمنحون التمويل الكافي يسبحون عكس التيّار - هناك بمفردهم يحذّرون من حركة عالمية تعمل في نحو سبعين بلداً وعازمة على تدميرنا ويردعونها ويفكّكونها ويحاولون تدميرها.
توضح هذه القصّة كيف رأينا التهديد، وماذا فعلنا حياله، وما الذي اقتُرح ولم ينفّذ، وكيف تطوّر تفكيرنا، ولماذا كان رجال وكالة الاستخبارات المركزية ونساؤها مستعدّين بخطة عمل للردّ بقوة على سقوط ثلاثة آلاف أميركي وأجنبي. وهي قصة توضح أيضاً كيف ساعدنا في نزع سلاح الدمار الشامل من دولة مارقة من دون أن نطلق طلقة واحدة وكيف قدّمنا أمام العدالة أخطر ناشر للأسلحة النووية عرفه العالم. وهي رواية للجهود المبذولة لجسر الخلافات التاريخية بين الإسرائيليين والفلسطينيين وإعطاء الديبلوماسيين فرصة للتوصّل إلى حل سياسي لأزمة قديمة. وهي أيضاً رواية تنبّه إلى التهديدات التي لم تجابه الى الآن والتي تبدو هجمات 11 أيلول باهتة أمامها.
حاول المسؤولون الكبار في الإدارتين اللتين خدمتهما، إدارتي كلينتون وبوش، عمل ما وجدوا أنّه الأفضل لأميركا. ويمكن المجادلة في النتائج التي توصّلوا إليها، بل يجب ذلك - لكن ليس في دوافعهم. وعندما يتعلّق الأمر بتعامل الحكومة الأميركية مع العراق، يوجد قلّة من الأبطال في واشنطن، ولكن، كثير منهم في ذلك البلد المضطرب. والإدارة نفسها التي ضلّت طريقها لاحقاً في أثناء التوجّه إلى بغداد كان أداؤها رائعاً عند تقويض القاعدة في أعقاب 11/9، لقد اضطلعت السي آي اي بمهمّة ضخمة بشجاعة عظيمة وتفانٍ لا يصدّق، لكنّنا لا نقرأ الكثير عن هؤلاء الأبطال.
أعتقد بأنّني حظيت بأفضل منصب في الحكومة، كمدير للاستخبارات المركزية، على رغم كل أعبائه وضغوطه. وكانت أعظم لحظات سعادتي التفاعل اليومي مع الرجال والنساء الذين تجرّأوا على المخاطرة بكل شيء يومياً لحماية بلدنا. لقد أتيحت لي فرصة خدمة بلدي ومحاولة المحافظة على سلامته في ما يحدق به من خطر عظيم. لم يحالفني النجاح دائماً، لكنّني أشعر بالراحة لأنّني حاولت أن أفعل الصواب في الميدان. وهذا امتياز لا يُعطى لابن مهاجرَين إلا في الولايات المتحدة. وسأظلّ شاكراً دائماً لأنّ جون وإفانجليا تنيت غادرا قريتهما في اليونان ليمنحاني هذه الفرصة.
ترميم ال "سي آي اي" وانشاء جامعة للتجسس والاستعانة بالقطاع الخاص تكنولوجياً
من هجوم سنة 1983 الفتّاك على ثكنة المارينز الأميركيين في بيروت، إلى تفجير رحلة شركة بانام الرقم 103 في سنة 1988 فوق لوكربي في اسكتلندا، إلى تفجير مركز التجارة العالمي في سنة 1993، إلى الهجوم سنة 1996 على ثكنة عسكرية وأبراج الخُبَر في المملكة العربية السعودية. شاهدنا حزب الله وحماس والقاعدة وسواهم وهم يعملون، وعرفنا كيف استخدمت الدول الراعية من ليبيا إلى العراق وإيران وأفغانستان هؤلاء القتلة والمفجّرين الانتحاريين في حرب بالوكالة ضدّ الأميركيين وأصدقائنا ومصالحنا في الخارج.
لم يكن هناك أي شك في هوية الأعداء، لكن الأمور لم تكن بتلك السهولة في العالم حيث نعيش، وفي السي آي اي التي ورثتها. فالسي آي اي في سنة 1997 لم تكن آلة جيّدة التشحيم ذات موارد وفيرة أو منظّمة تدار بدقّة شديدة. ولو كانت كذلك لتنافس العديد من الأشخاص الآخرين على قيادتها. وفي الواقع، ربما سقط المنصب في طريقي بسبب عدم وجود مرشّح آخر، أكثر من أي شيء آخر. وقد وصفتني إحدى الصحف في ذلك الوقت بأنّني خيار"غير تقليدي"لإدارة ذلك المكان. ونقلت صحيفة"نيويورك تايمز"عن مسؤول لم تكشف عن هويته القول،"لا يمكنني أن أعطيكم اسماً"أفضل من تنيت،"أو حتى أي اسم على الإطلاق"بالنظر إلى التحدّيات التي تواجه الوكالة.
لعل المشكلة الأكثر حرجاً التي واجهتها الوكالة هي الافتقار إلى استمرارية القيادة. فقد كنت المدير الخامس في سبع سنوات. وما من شركة تستطيع النجاح مع مثل هذا المعدّل للتبديل. وكانت نظرة قسم كبير من القوة العاملة في شأن المراسيم الصادرة عن الطبقة السابعة، حيث يعمل معظم المسؤولين الكبار، إذا لم يعجبك أمر ما، ما عليك إلا الانتظار قليلاً - فسرعان ما يغادر من أصدره.
مع ذلك، كانت المشكلة أعمق من القيادة الدائمة التغيّر. ففي التسعينات، كان الاعتقاد السائد أنّنا ربحنا الحرب الباردة وحان الوقت لجني ثمار السلام. لم يكن ذلك الافتراض خاطئاً فحسب - كانت الحرب تتطوّر من حرب جيوش تديرها الدول إلى جيوش غير حكومية، ومن الصواريخ العابرة للقارّات إلى أسلحة نووية يحملها شخص واحد وقوارير الجمرة الخبيثة - بل إنّ"ثمار السلام"كانت مدمّرة لعالم الجاسوسية في وقت بأمس الحاجة إلى الحيوية والهمّة. ففقدت أجهزة الاستخبارات بأكملها، لا السي آي اي فحسب، بلايين الدولارات من التمويل. وخُفّضت القوّة العاملة لدينا بنحو 25 في المئة. ما من طريقة جيدة لإحداث هذا القدر من الخفض في عديد موظفي مؤسّسة ما. لكن ثمة طريقة سيّئة جداً للقيام بذلك - وهي الطريقة التي اتبعتها أجهزة الاستخبارات بالضبط. فقد توقّفت عن توظيف أشخاص جدد. ونتيجة لذلك، مرّ نصف عقد تقريباً من دون دخول أي موهبة جديدة، فيما كان العديد من الخبراء يغادرون.
عندما أصبحت نائب مدير الاستخبارات المركزية في صيف 1995، كنّا نعقد دورتين في السنة"لضبّاط الحالات"الجدد - الأعضاء القادمين في جهازنا السري، الرجال والنساء الذين يجنّدون العملاء الأجانب لسرقة الأسرار. وكانت دورة ذلك الصيف تضمّ ستة ضبّاط حالات وستة"ضبّاط لوضع التقارير"- الأشخاص الذين لا يجمعون المعلومات الاستخبارية بقدر ما يدوّنون الجهود التي يقوم بها زملاؤهم. لا يمكنك أن تدير جهاز تجسّس بتلك الطريقة. وعلمنا في وقت لاحق، أنّنا فيما كنّا ندرّب حفنة من ضبّاط الحالات كل عام، كانت القاعدة تدرّب آلافاً من الإرهابيين المحتملين في أفغانستان والسودان وسواهما.
الروح المعنوية في الوكالة كانت في الحضيض. وكان الخوف يلاحق الضباط المتوسّطين والكبار في الوكالة من الاستدعاء أمام الكونغرس أو المحكمة للدفاع عن أعمالهم. فقد كانت الإدارات المتعاقبة تطلب منهم أن يغامروا ويعملوا بإقدام. لكن إذا حدث خطأ ما، كان المسؤولون في الوكالة يواجهون الخزي والصرف من الخدمة والخراب المالي.
وفي العلم والتكنولوجيا، وهو مجال تعملقت فيه الوكالة ذات يوم، كانت الثورة الرقمية تمرّ بجانبنا. فقد تجاوزت تكنولوجيا القطاع الخاص قدرتنا بكثير على مجاراة أهدافنا. وبدت أدوات تكنولوجيا المعلومات التي نضعها في متناول ضباطنا أشبه بمنتجات من أواسط القرن العشرين منها بالمنتجات التي تقترب من القرن الواحد والعشرين.
كانت الفوضى تسود الوكالة على المستوى التنظيمي أيضاً. لم يكن هناك مدير للمعلومات أو مدير مالي. ولم يكن لدينا برامج متسقة أو موحّدة للتدريب والتعليم، وكان مجلسنا التنفيذي يتخذ القرارات عبر عملية اقتراع ديموقراطي. وفي مؤسّسة تبلغ موازنتها بلايين عدة من الدولارات، تضمن سياسة"الصوت الواحد لكل شخص"حلول القاسم المشترك الأدنى - لن يكون أحد غير مرتاح أو مستاء حقاً من النتائج. في المقابل، القيادة الجيدة تتطلّب أن تتجرّع مؤسّستك في بعض الأحيان دواء مرّاً لكنها في حاجة إليه. والمؤسسات مثل السي آي اي موجودة للدفاع عن الديموقراطية، لا لممارستها....
بعدما اكتمل فريق القيادة الجديد الذي يضم مستقدمين من خارج الوكالة في آب أغسطس 1997، كنّا مجتمعين في أحد مرافق الوكالة السرية في مكان غير بعيد عن واشنطن عندما قال أحدهم إنّنا نقف على"منصّة مشتعلة". وإذا لم نعمل بسرعة لإطفاء الحريق، فستغرق المنظمة ونحن جميعاً في البحر. وقد علق بذهني تعبير"منصّة مشتعلة"- ربما لأنّه استعارة دقيقة ولأنّه يذكّرنا كل يوم بمقدار الخطر الذي نواجهه. لذا شرعنا في تعلّم كيف حوّلت منظّمات أخرى تسودها الفوضى نفسها. وفي ربيع 1988 كانت الخطة حاضرة - وهي وثيقة سميناها"الاتجاه الاستراتيجي". يضع قسم أساسي من الوثيقة تصوّراً لنوع الضباط الذين ستحتاج إليهم الوكالة في سنة 2010. ونظرنا في المهارات التي يجب أن يتحلّوا بها، ولغاتهم، وخلفياتهم الأكاديمية، وما إلى ذلك. لقد كان ضباط السي آي اي منذ خمسة عقود يتخذون نموذجاً لهم أبطال مكتب وايلد بيل دونافان للخدمات الاستراتيجية في أثناء الحرب، ومعظمهم من خريجي الجامعات العريقة. لا تزال العقول مهمّة، وقليل من الأبهة مفيد دائماً، لكن، إذا أريد أن تؤدي السي آي اي عملها في عقد سابع وثامن، علينا أن نأخذ في الحسبان العالم الجديد الذي يعمل فيه رجالنا.
لزمتنا ثمانية أشهر تقريباً من البحث عن الذات لوضع هذه الخطة للمستقبل. وفي 6 أيار مايو 1998، وقفت أمام 500 موظّف في الوكالة في قاعة الاجتماعات العامّة التي تشبه بيت الإسكيمو وتعرف باسم"الفقّاعة"للتحدّث عن المنصة المشتعلة وما الذي سنفعله حيالها. وشاهدني آلاف الموظفين الآخرين على تلفزات الدائرة المغلقة. كان لدى كثير منهم مبرّر للتشكيك بما يسمعه، فقد شهدوا في النهاية العديد من فرق القيادة الأخرى التي تأتي وتذهب. فكيف يعرفون أنّني لست شبيهاً بمن سبقني؟
حاولت أن أستحوذ على انتباههم بالتحدّث عن خطورة مشاكلنا. وكانت السي آي اي قد احتفلت بمرور خمسين سنة على تأسيسها، لكنّني قلت إنّ من غير المرجّح أن يكون للوكالة أهمية عندما تصل إلى ذكراها الستين، ما لم يكن أداؤنا مميّزاً بشكل دائم. وأبلغتهم بأنّني سأكون موجوداً من أجل عملية التغيير الطويلة إذا شاء الله والرئيس. بدا هذا البيان ضرورياً، لكنّني ذهلت عندما حظي بتصفيق مدوّ. لم يكن ردّ الفعل يتعلّق بي بالتأكيد، بل كان التصفيق يعبّر أكثر من أي شيء آخر عن مقدار حاجة الوكالة إلى الاستقرار.
وتعهدت بأنّ أيام العمل الكثير بموارد أقل قد ولّت. وأنّ الأشياء التي نقترحها مكلفة، لكنّني طمأنتهم أن ليس عليهم أن يقلقوا. كانت مهمتي تأمين التمويل اللازم، وتعهّدت ببذل قصارى جهدي لتحقيق ذلك. لم أنجح تماماً، لكنّني ألححت وأزعجت في المحاولة. طلبت زيادات كبيرة في تمويل الاستخبارات وحصلت على زيادات صغيرة في الإيرادات الإجمالية. وأعدنا تخصيص أجزاء كبيرة من موازنتنا لمكافحة الإرهاب. فقد ارتفعت موازنة مكافحة الإرهاب، كما تدعى، أكثر من 50 في المئة من سنة 1997 إلى ما قبل 11/9 - في حين تقلّصت معظم الحسابات الأخرى. وفي خريف 1998، طلبت من الإدارة زيادة الموازنة أكثر من بليوني دولار سنوياً لكل أجهزة الاستخبارات في السنوات الخمس التالية. لكن لم أمنح سوى جزء ضئيل من تلك الزيادة للأسف.
كنت شديد الإيمان بأنّنا بحاجة ماسّة إلى الموارد بحيث التففت على التسلسل القيادي. فعلى رغم أنّني عضو في الحكومة في إدارة كلينتون، فإنّني نسجت علاقة مع رئيس مجلس النواب الجمهوري في ذلك الوقت نيوت غنغرتش، وكان من المؤمنين بقوة بوجوب منح أجهزة الاستخبارات مزيداً من الدعم. ويعود الفضل إلى غنغرتش في تمرير قانون تمويل إضافي عبر الكونغرس في السنة المالية 1999، وقد وفّر ذلك للمرة الأولى زيادة كبيرة في تمويلنا الأساسي، ونفّر تحالفي غير الرسمي مع رئيس مجلس النواب بعض أعضاء فريق الرئيس كلينتون. وعلى رغم أن الرئيس كان يدعم مهمّتي على العموم، فإنّ الموارد لم تكن متيّسرة. وكان أسفي الوحيد أنّ الكثير من الأموال الإضافية في سنة 1999 كانت لعام واحد فقط، ولم تستمرّ في السنوات التالية.
لعل أهم رسالة نقلتها إلى القوة العاملة في السي آي اي في ذلك الصباح أنّنا عائدون إلى جذور مهمّتنا الأساسية. من الآن فصاعداً سنشدّد على الصدّ والتعامل. يجب تقديم كل شيء لدعم أهمّ قسم في عملنا وتفعيل قدراته، رأس الحربة في عملنا: التجسّس، وسرقة الأسرار، وما ندعوه"تحليل كل المصادر".
إنّ حجر الزاوية في عملنا هو الأفراد - المحلّلون، والضباط الميدانيون، والمديرون، والفنيون، والجواسيس. وعقب انهيار الاتحاد السوفياتي، كان أول ما ألزمنا أنفسنا به إنشاء مكتب توظيف مركزي لا يقل عن أفضل المكاتب في القطاع الخاص. ولاستقدام أفضل المواهب، عدنا إلى الجامعات وأطلقنا حملة دعاية، وحرصنا على منح علاوات توظيف في مجالات المهارات التي نحن بأمسّ الحاجة إليها - ما بين ثلاثين وخمسة وثلاثين ألف دولار للعلماء والمهندسين واختصاصيي تكنولوجيا المعلومات والأشخاص ذوي المهارات اللغوية الفريدة - أموال مهمة للاحتياجات المهمة. ربما يبدو بعض ما قمنا به مألوفاً في القطاع الخاص، لكن يمكنني أن أؤكّد لكم أنّه كان ثورياً في وكالة استخبارات حكومية.
بدأنا نقدّم عروضاً مشروطة للتوظيف على الفور، وكنّا ندفع للموظفين رواتبهم فيما ينتظرون الفسح. لا شك في أنّ هذه الطريقة زادت من حسابات المخاطر لدينا. واليوم ثمة 40 في المئة تقريباً من مجمل الموظفين بالوكالة مضى على التحاقهم بها خمس سنوات أو أقل، ولا يكاد هذا الوقت يكفي لتعرف أحداً. لكن الحقيقة الجلية أنّ المعايير والممارسات القديمة لم تكن تفضي إلى أداء العمل.
كيف أعطى ذلك النتائج المرجوّة؟
بحلول سنة 2004، كان 138 ألف شخص يتقدّمون لشغل ما يزيد قليلاً على ألفي وظيفة في الوكالة. ولم ينتج ذلك فقط عن تزايد الاهتمام بعملنا بعد 11/9 - فقد شهدنا ارتفاعاً حاداً في بيانات السيرة التي تسلّمناها في أواخر التسعينيات وفي سنتي 2000 و2001، وبلغ معدّل استنزاف الموظفين لدينا 4 في المئة، وهو معدّل متدنّ بشكل ملحوظ في أي منظمة كبرى. وأظهر مسح لتسعة آلاف مهندس وطالب علوم في ثمان وستين جامعة أنّ الوكالة هي المنظمة الحكومية المفضلة للعمل فيها وخامس أفضل ربّ عمل على الإجمال - قبل شركات مثل بفَيْزر وديزني وجونسون أند جونسون. وسمّت مجلّة"بلاك كولِجْيَن"السي آي اي كأحد أفضل الأماكن لعمل الشبان الأميركيين الأفارقة - احتلت المرتبة السابعة والعشرين في قائمة من خمسين شركة، سابقة شركات"إيه تي أند تي"وجنرال موتورز وفورد وببسيكو.
سرّتني النتيجة الثانية على وجه الخصوص لأنّني وضعت نصب عيني أن أعزّز سجلّ الوكالة في التنوّع. لننسَ لحظة الأسباب الأخلاقية للتنوّع، فلأجهزة الاستخبارات مصلحة، تفوق مصلحة أي هيئة أخرى، في أن تعكس القوة العاملة لديها مقطعاً عرضياً واسعاً لعامّة الناس. نحن بحاجة إلى التنوّع الديموغرافي وتنوّع الفكر. فإذا بدا كل موظفينا مثلي، لن نتمكّن قط من اختراق أصعب أهدافنا في العالم.
برزت هذه القضية مبكّراً في أثناء ولايتي عندما حضرت اجتماعاً في الفقّاعة قاعة الاجتماعات العامة دعا إليه بعض موظفينا الأميركيين الأفارقة. كان ذلك من أكثر الأوقات التي قضيتها في السي آي اي إنارة لبصيرتي. فقد تعاقب الموظفون السود على رواية القصص المزعجة عن كيفية تعرّضهم إلى الإهانة على مرّ السنين ومعاملتهم كأنّهم مواطنون من الدرجة الثانية في الوكالة. وتعهّدت آنذاك وفي ذلك المكان أن نحلّ هذه المشكلة، وبذلت ما بوسعي للوفاء بذلك التعهّد. وضعنا برنامجاً في السي آي اي يضمن حصول الجميع على فرصة التقدّم والترقية - كان الامتياز المعيار الوحيد الذي يعتدّ به. وفي الوقت نفسه وضعنا برنامجاً لضمان حصول كل رجل وامرأة على فرص التدريب والتعليم التي تتيح لهم التقدّم. ولم يكن ذلك مجرّد كلام، كان يضمّ أدوات قياس ومراجعات لأداء كل مكوّناتنا الكبرى، ومحاسبة القادة الذين لم يعملوا بمقتضى ذلك.
فيما كنّا نعيد بناء السي آي اي، لاحظنا أنّ برامجنا التدريبية والتعليمية، مثلها مثل التوظيف، تعمل باستقلالية من دون مجموعة متكاملة من القيم المشتركة. لذا قمنا باستثمار كبير في إنشاء"جامعة السي آي اي". واليوم تجرى كل أعمال التدريب في السي آي اي تحت سقف واحد، في عشر كليات مختلفة: كليات التقنيات العملانية والتحليلية للتجسّس، واللغات الأجنبية، والأعمال، وتكنولوجيا المعلومات الداعمة، والأهمّ أكاديمية القيادة حيث يتعلّم كل المديرين على مختلف المستويات كيف يقودون التغيير ويعتنون برجالهم.
قبيل أن أترك منصبي في سنة 2004، أدليت بشهادة في الكابيتول هيل عن أجهزتنا السرية. في ذلك العام كنّا على موعد مع تخريج أكبر صفّ من الضباط السريين في تاريخنا. فقد نشرنا منذ سنة 1997 ألف ضابط عمليات في الميدان. قلت إنّ الأعداد كبيرة، ومع ذلك تلزم خمس سنوات أخرى قبل أن يصبح جهازنا السري حيث يجب أن يكون. وليس ذلك مفاجئاً. فعندما تتعرّض لعقد من الإهمال، تلزمك مدّة مماثلة على الأقل لتتعافى.
كانت مواردنا البشرية محدودة عندما توليت إدارة الاستخبارات المركزية في سنة 1997، وربما كانت قدرتنا التكنولوجية أسوأ. ولعل السي آي اي كانت ذات يوم المكان الذي تقصده لتحقيق المآثر التكنولوجية التي لا يمكن تدبّرها في مكان آخر - مثل ابتكار طائرة التجسّس يو 2. لكن الزمن والتكنولوجيا مرّا بقربنا. وبدا القطاع الخاص أكثر رشاقة منّا بكثير في تكييف أحدث التكنولوجيات. وقد قدّم لي رئيس مديرية العلم والتكنولوجيا لدينا في ذلك الوقت، ديفيد روث، ونائبته جوان إيشَم، خطّة جريئة. وكان علينا إيجاد طريقة لاستغلال نبوغ المبدعين الشبان في صناعة تكنولوجيا المعلومات. كنّا لهم بمثابة الآباء: غير ودودين، ونحسب لكل شيء حساباً، ونرتدي البدلات. ولم يكونوا يريدون التعامل معنا. لذا كان علينا جسر الهوّة بين الأجيال.
قرّرنا استخدام أموالنا المحدودة لاستغلال التكنولوجيا المطوّرة في مكان آخر. في سنة 1999 أنشأنا شركة خاصة مستقلّة لا تتوخّى الربح تدعى إن-كيو-تل. وهي مؤسسة هجينة تمزج نماذج البحث والتطوير المتأتية من صناديق الشركات لرؤوس أموال المغامرة، والشركات والمؤسسات غير الربحية والحكومة. كنّا ندفع، ولكن، احتفظت إن - كيو - تل باستقلالها عن السي آي اي. كانت السي آي اي تحدّد المشاكل الملحّة، فيما تقدّم إن - كيو - تل التكنولوجيا التي تتعامل معها. وأعاد التحالف معها الوكالة إلى الحدود المتقدّمة للتكنولوجيا، وهي الحدود التي ما كان ينبغي لنا أن نتراجع عنها في المقام الأول. ومكّن هذا التعاون غير المألوف بين الحكومة والقطاع الخاص السي آي اي من الاستفادة من التكنولوجيا التي تستخدمها لاس فيغاس لتحديد لاعبي الورق الفاسدين وتطبيقها لربط تحليل الإرهابيين، وتكييف التكنولوجيا التي يستخدمها باعة الكتب وتحويلها لاستعراض ملايين الصفحات من الوثائق بحثاً عن نتائج غير متوقّعة.
كان عمل مدير الاستخبارات المركزية بمثابة عملين في الواقع - إدارة السي آي اي ومجتمع الاستخبارات الأوسع أيضاً، ست عشرة وكالة استخبارات مختلفة. ومن الانتقادات التي لم توجه لي فحسب بل لكل المديرين الذين سبقوني أيضاً أنّنا ركّزنا على السي آي اي على حساب المكوّنات الخمسة عشر الأخرى لمجتمع الاستخبارات. لكن عندما وصلت إلى السي آي اي وأجهزة الاستخبارات المتضرّرة بشدّة، كنت أؤمن أنّ من الضروري في المقام الأول إعادة بناء قاعدة المدير، أي السي آي اي. فإذا كانت الدعامة المركزية للاستخبارات الأميركية عرجاء، فسيكون كل شيء آخر صعباً جداً.
* تصدر الترجمة العربية للكتاب عن دار الكتاب العربي في بيروت آخر هذا الشهر


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.