قلّة تعلم أن المغنية شيرين بدأت الغناء صغيرة. صغيرة الى حد لا يتوقعه أحد. فهي كانت في عداد فرقة سليم سحّاب للأطفال، وقد تدرجت وتدربت في الأداء على أصعب أنواع الأغاني العربية القديمة قبل أن يكتمل صوتها، أي قبل سن الشباب. وبدلاً من أن تنتقل الى فرقة سحّاب للكبار وتزاول الغناء فيها كزملائها وزميلاتها، اختارت الانطلاق منفردة، وكانت أغنيتها الأولى"يا ليل"احدى أجمل الأغاني في نهاية القرن الماضي وقد نالت شهرة عز نظيرها بالفعل لا بالقول فقط، في مرحلة كان الغناء في العالم العربي ككل يدخل جدياً في عالم آخر كأنما يقطع مع الماضي قطعاً يشبه الانقلاب، ويبني عالماً آخر كأنما هو هجين بلا ملامح محددة أو هوية معروفة. في تلك المرحلة بالضبط تقدمت شيرين معلنة موهبة جديدة، أصيلة، معبرة عن جيل يتواصل مع الماضي بثقة وحب ويكمل من حيث للأغنية جذور وفروع وأغصان وانتماء. اشتبك اسم شيرين وعائلتها عبدالوهاب مع اسم مغنية أخرى هي شيرين وجدي لكون الاثنتين خرجتا الى الواجهة الاعلامية في وقت واحد تقريباً في مصر والعالم العربي، بل كانت شيرين الثانية وجدي تحتل موقعاً أوسع نسبياً من شيرين الأولى عبدالوهاب، لكن الاشتباك لم يدم طويلاً، لأن اسم شيرين عبدالوهاب شق الصفوف بطريقة صاروخية مقروناً بالصوت العميق العذب المائل الى الطرب، في وقت كان اسم شيرين وجدي يتراجع. ومع أن تقدم شيرين الأولى على شيرين الثانية قد يُعزى لدى البعض الى مشكلات مالية تعرّض لها زوج الثانية وهو مدير أعمالها والمشرف على انتاجها، الا ان هذا البعض يقرّ بأن خيارات شيرين الأولى الغنائية الناجحة كانت أذكى وأهم من خيارات زميلتها ما جعلها تتقدم عليها. وخلال سنوات قليلة باتت شيرين عبدالوهاب نجمة النجمات في مصر مع قلة قليلة من زميلاتها، الآتيات الى الغناء من الينابيع الشرقية الدافئة: أنغام، غادة رجب وغيرهما... تتميز شيرين عبدالوهاب بالثقافة الادائية العالية، فلا الموهبة أشعرتها بالاكتفاء، ولا النجومية والأغاني الخفيفة الناجحة شعبياً جعلتها تسكر. كان في حسبانها دائماً أن الغناء ليس نزهة. إنه رسالة اذا لم تكن ذات أهداف سامية فلا معنى لها. من هنا، فإن الاهتمام بالتراث الغنائي وأدائه في مناسبات عدّة كان تخطيطاً ثابتاً لديها، وحفلاتها الغنائية في كل مكان من العالم العربي كانت حافلة بأغانيها الخاصة وبالأغاني العربية القديمة جنباً الى جنب، الى درجة ان أغلب الجمهور كان يربط بين"خاص شيرين"و"عام"صوتها في شكل جمالي ابداعي نادر الحدوث. وقد عرفت شيرين كيف توظف ذلك الربط لتشكيل صورة مركزة لنفسها بين جيلها الشاب الذي كان في أكثرية توجهاته غارقاً في عصرية مفتعلة، و"تجديد"ضائع الملامح. كانت شيرين أقرب الى"طفولتها"الغنائية، أي أنها كانت تبحث عن الأغاني الحاملة طيفَ المعاني الراقية، حتى تلك الجديدة في نصوصها وألحانها وأفكارها، وكأنها لم تنسَ فرقة سليم سحّاب ولا المخزون الذي جسّده لها... ولعل في أغنية"جرح ثاني"على سبيل المثال ما يقول بوضوح ان شيرين أدت ما لا تجرؤ الكثيرات على تأديته من الألوان الغنائية بل وحتى على طبقات صوتية خطرة. والنجاح في الأغنية لا يكفي في هذا الزمن. ينبغي أن يكون الكليب حاضراً بمستوى موازٍ ان لم يكن أفعل. شيرين وفقت في كليباتها مع مخرجين استخرجوا منها ليس مغنية فقط، بل ممثلة أيضاً. انها ممثلة تعشق الكاميرا وجهها وتصرفاتها وحركاتها وسكناتها. ويمكن الجزم بأن كل كليباتها وجدت طريقاً سهلاً وعذباً الى قلوب الناس وعيونهم... ولربما تكون بساطة شيرين وعفويتها وذكاؤها من الأمور الأساسية التي قربتها الى ذائقة السواد الأعظم من جمهور العالم العربي عبر تلك الشاشة السحرية: الفضائية، هذا طبعاً بعد قوة الصوت العاطفية المتمايلة بين الشعبي الراقص والكلاسيكي الرزين والرومانسي الحالم... شيرين حلم من أحلام المستقبل الغنائي العربي. لكنه تحقق. وليست الأحلام إبنة النوم، بل إبنة الفكرة الجديدة.