لم تغب شمس لبنان أول من أمس، بعدما حمل العماد ميشال سليمان لقب "فخامة الرئيس" رسمياً، ليل بيروت شابه نهارها، النهار أضاءته الشمس، والليل أشعله الفرح، وانتهت فترة"فخامة الفراغ"، بعد أربع ليالٍ من إعلان اتفاق الفرقاء اللبنانيين في الدوحة. قبل نهاية الأسبوع الماضي، كنت في صالة المغادرة الدولية مع المتجهين إلى بيروت... من دون أي حديث، أو حتى همس. مجرد نظرات متبادلة بين لبنانيين متقابلين في صالة المغادرة مساء 20 أيار مايو الماضي، الترقب يبلغ ذروته في انتظار"مجهول"، يأتي من ساحل الخليج القريب، حيث الدوحة وطاولة تحرسها أمنيات أمهات وأطفال يدعون ليلاً ونهاراً، موظف الجوازات يتحسس جواز السفر، ويرسل نظرة خاطفة مع سؤال عن الوجهة، لأقدمها له على طبق من ابتسامة"إلى بيروت"، فيرد من دون حرج"حرب، أنت صاحي"، لتأتي إجابة سعودية"الله يعين ويسهل". خلت مقاعد الطائرة من أي وجوه مبتسمة، واكتفت بعبارات غزل للمضيفات مع ضحكات. لا تتجاوز كونها ضحكات من نوع خاص يعرفها من يتقن"تسلم أيدك يا قمر"، وسط ندرة سعودية لم تزد على ثلاثة أشخاص. تمضي الرحلة رتيبة مع بعض الهمس عن آخر الأخبار في الدوحة، ومحاولات لكسر الرهبة بألاّ خوف على احد"وكل شي منيح"، مع إطلالة أنوار بيروت ودخول منتصف الليل وإعلان يوم 21 أيار 2008، الفاصل في تاريخ اللبنانيين. لم يكن منظر بيروت يوحي سوى بأغنية فيروز، وكأنها تقول للسلام والاستقرار"بكرة انت وجاي رح زين الريح... خلي الشمس مراية والكناري تصيح"، نامت بيروت مبكراً، فمن مطار الرئيس الشهيد رفيق الحريري، إلى أعالي أدما لم يكن للحياة أي اثر. صباح 21 أيار استيقظ لبنان على نبأ اتفاق"الفرقاء"، وسريعاً نهضت ال"10452 كيلومتراً مربعاً"، وصافح الجبل البحر، الحياة تدب في الشرايين، والابتسامات تملأ الشوارع والأعلام ترفرف في كل زاوية. وسط بيروت كان تاريخاً يرفع من على الأرض، كل ما يمت للمعارضة، ينقل قطعة تلو الأخرى، الجرافات في كل مكان، الازدحام في الشوارع، المقاهي تملؤها الوجوه والضحكات ورائحة القهوة، ليل بيروت عاد للسهر وصيحات الشبان والفتيات ممزوجة بأغان من نوع"راجع.. راجع.. يتعمر لبنان". صباح 22 أيار بدأ قبل أن تطلع الشمس، فرش اللبنانيون بساط العودة إلى الحياة الطبيعية. أغان، مباركات، صحف تحمل تفاؤلاً وأخباراً عن لبنان"يصحو من كابوس طويل". سريعاً حملت نفسي إلى وسط بيروت، حيث كانت الأرض مقسمة بين"14 آذار"و"8 آذار". على الأرض اختفت معظم ملامح"الانقسام"، ولم يتبق سوى حاجز الحديد، الذي يأمل كثير من اللبنانيين بأن"يختفي على الأرض وداخل النفوس". الصحافيون متناثرون في كل زاوية يوثقون مرحلة جديدة من تاريخ لبنان، كاميرات في كل مكان وأجهزة تسجيل وأحاديث عن حياة جديدة،"سوليدير"تعالت فيها رائحة القهوة والنرجيلة وقهقهات اختفت زمناً طويلاً. صعدت إلى الدور الخامس في مبنى صحيفة"النهار"، كان جبران تويني رفيقي في كل زاوية، وقسمه الشهير بأن يبقى اللبنانيون، مسلمين ومسيحيين"متحدين إلى أبد الآبدين"، صورته حتى في المصعد وفي صدور العاملين. الحديث مع الدكتور جان كرم عما حدث للبنان وما خسر من شهداء، هو الافتتاح بعد التهنئة بالاتفاق، يطبق كرم جفنيه بقوة، وكأنه يتمنى أن يلحفها لبنان خوفاً عليه من مجهول مقبل ويردد:"خسارة، خسارة ما فقدناه كثير". قاعة الدرس المجاورة لمكتب كرم درّب فيها أصابع وعقولاً وقلوباً على"حب لبنان ثم الصحافة، لأنه يرى أن الأخيرة فن الحياة، والأولى الحياة بذاتها". يرسل كرم أمنيات الى السماء بأن يحفظ الرب لبنان، وينظر من نافذة مكتبه إلى البحر والجبل والشمس التي كست مكتبه بياضاً ليس أكثر من"بياضه"، منتظراً أجيالاً لا تكتب الا عن بناء الوطن، ملقياً نظرة إلى وريقات ملحق"شباب النهار"، الذي يحفر عليه صحافيو المستقبل أسماءهم. خرجت من"النهار"لأتصفح آثار جروح لبنان، التي مازالت غائرة ابتداء بقبر، اكبر قرابين الحرية والسلام والاستقلال. قبر الرئيس الشهيد رفيق الحريري، الذي لم يكن فيه سوى أكاليل ورد كان الأحمر منها يحمل عبارة"رفيقي إلى الأبد"من"رفيقته"، والنظام الأساسي للمحكمة الدولية من"خليفته"، وحراسة بسيطة لم تتجاوز الأشخاص الثلاثة. بالقرب من ضريح"شهيد لبنان"، جامع محمد الأمين، الذي شيّده بحبه، ولا تبعد سوى خمس خطوات كنيسة مار جرجس، في منظر يندر أن يتكرر على مستوى العالم، وكأنه يقول هكذا لبنان، وسيستمر كذلك مزيجاً من ثقافات وأعراق. بالأمس انتقلت صورة الرئيس العماد ميشال سليمان من واجهات المحال التجارية، وأسطح البنيات، وصدور محبيه إلى مكتبه في بعبدا، ورحلت جملة"الأمر لك"من مجرد شعار في الشارع إلى حقيقة من رحم المجلس النيابي، وبشهادة العالم ليرتفع علم الأرز ونافورة القصر ب"روح لبنان الجديد".