أعاد تشييع جثمان النائب والصحافي اللبناني جبران تويني الذي اغتيل قبل يومين بتفجير سيارته على طريق الماكس قرب بيروت، إلى أذهان الكثير من اللبنانيين مشهد الرابع عشر من آذار (مارس) الماضي. أو ما يشبه الكثير من فصوله، ولاسيما مشهد الحشود التي تجمعت في ساحة الشهداء، التي أطلق عليها منذ ذلك الحين اسم «ساحة الحرية» تطالب بالحرية والسيادة والاستقلال، وبالحقيقة في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري. لكن المفارقة، بالرغم من اختلاف المرحلة السابقة، عن المرحلة الحالية، حيث خرجت القوات السورية من لبنان، وسجن أقطاب النظام الأمني السابق، واجراء انتخابات نيابية جديدة انبثقت عنها سلطة جديدة، وحكومة تمثل الغالبية من اللبنانيين، فإن عشرات الألوف (التي قدرت بثلاثمائة الف) التي خرجت أمس لمواكبة تشييع جثمان النائب تويني الذي انتخب عن بيروت، وجثماني مرافقيه الاثنين نقولا فلوطي واندريه مراد، ظلت تردد نفس الشعارات، ولاسيما بكشف الحقيقة، حقيقة من دبر ومن نفذ ومن خطط لجريمة قتل تويني الذي انضم إلى قافلة الضحايا الذين سقطوا بعد جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري وباسل فليحان أمثال جورج حاوي والصحافي سمير قصير، ومحاولات اغتيال الوزير مروان حمادة والوزير الياس المر والصحافية مي شدياق، والآخرين الذين سقطوا قبلهم منذ اغتيال الرئيس بشير الجميل والرئيس رينيه معوض، والمفتي الشيخ حسن خالد، إضافة إلى الزعيم الراحل كمال جنبلاط، والكثيرون الذين سقطوا في مسلسل الاغتيالات الذي يبدو انه لم يتوقف منذ الحرب اللبنانية. كثيرون من الضحايا سقطوا فيما ظلت الحقيقة غائبة واللبنانيون ينتظرون.. وبيروت لم تخلع ثوب الحداد الأسود بعد. وبدت بيروت منذ صباح أمس، غارقة في الحزن والحداد، فرغت شوارعها من السيارات وأغلقت المحلات التجارية والمؤسسات باستثناء العشرات من المواطنين الذين كانوا يتوافدون إلى ساحة الشهداء حيث يقع مبنى صحيفة «النهار»، وإلى ساحة ساسين القريبة من مستشفى الروم حيث يرقد جثمان تويني منذ نقله إليه بعد اغتياله.. وذلك تلبية لنداء العشرات من التنظيمات السياسية والثقافية والحزبية التي دعت إلى الاضراب العام والحداد والمشاركة الكثيفة في التشييع. وقرابة العاشرة صباحاً لأن الألوف من الشبان قد بدأوا بالتجمع أمام مبنى صحيفة «النهار»، فيما كان عدد مماثل يتجمع أمام مستشفى الروم في الأشرفية حيث نقلت جثامين القتلى الثلاثة تويني وفلوطي وعراء في نعوش لفت بالعلم اللبناني.. ووضعت في سيارات سارت في اتجاه ساسين في الأشرفية حيث كان هناك أيضاً عشرات أخرى من ألوف المواطنين الذين أخرجوا النعوش من السيارات وراحوا يرقصون بها تعبيراً عن الحزن والتأثر. وفي هذا الوقت كان والد الفقيد تويني السياسي والدبلوماسي والصحافي الكبير غسان تويني، ينتظر الموكب في شارع التباريس، وتجمع حوله عدد آخر من المواطنين وردوا معه قسم الفقيد.. ثم أعيدت النعوش إلى السيارات وانطلق الجميع في مسيرة شعبية حاشدة في اتجاه ساحة الشهداء.. وهناك أخرجت النعوش مجدداً، وراح المشاركون يردون قسم جبران. وبصعوبة كبيرة شق الموكب طريقه إلى كاتدرائية مارجادرجيوس في ساحة النجمة، حيث أقيمت مراسم التشييع الرسمي في حضور رئيس المجلس النيابي نبيه بري ورئيس الحكومة فؤاد السنيورة والسيدة زوجته هدى، والرئيسين الياس الهراوي وأمين الجميل ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط وعدد كبير من الوزراء والنواب والشخصيات ورجال السلك الدبلوماسي العربي والأجنبي، غصت بهم قاعة الكنيسة. وبعد القداس، ألقى المطران جورج خطر كلمة تأبينية، وقبله والد الفقيد تويني غسان تويني، فقال: قل ان أعطى لإنسان أن يقف في المكان ذاته على مدى ستين سنة ليودع والده ثم ولده، أذكر هنا عندما عاد جبران تويني (الجد) من المنفى، حين سقط شهيداً في 11 تشرين الثاني (نوفمبر) من العام 1947 وهو يلقي خطبة في الدفاع عن وحدة فلسطين وعروبتها وانتساب لبنان الى القضية العربية، وكأنه يحملني تلك الرسالة، فعدت وتوليت المسؤولية ونشأت ولدي جبران على تلك المبادئ وهو رد صداها في القسم الذي صار شعاراً لجيل من الشباب. وقال: أنا أدعو اليوم في هذه المناسبة لا إلى الانتقام ولا الى حقد ولا إلى دم، أنا أدعو لأن تدفن مع جبران الاحقاد كلها والكلام الخلافي كله، وأن ننادي بصوت واحد ذلك القسم الذي أطلقه في ساحة الشهداء يوم انتفاضة 2005 التي ذهب ضحيتها أدعو اللبنانيين جميعاً مسيحيين ومسلمين لأن يكونوا واحداً في خدمة لبنان الوطن العظيم وفي خدمة قضيته العربية. وقوبلت كلمة تويني بتصفيق حاد من الحاضرين. ثم ألقت ابنة جبران نائلة تويني، كلمة قالت فيها: أنا بنت الحرية وهؤلاء المجتمعون تحت سقف لبنان. وأنا بنت القتيل الذي لم يمت، لأنه ابن الحرية، وأحمل الراية المجرحة بالدم والنار وأحمل الدم الذي ارتوى بدم سمير قصير وبدم جبران وبدم كل العرب النهوضيين الاحرار وأقول باسم أبي وباسم جدي وباسم أب جدي، وخصوصاً باسم طائر الفينق، وباسم كل الشهداء وكل الأبطال الذين يحملون راية شرف الكلمة في جريدة «النهار» وباسم كل الأحرار في لبنان والمنطقة العربية، ان رايتنا لا تكسر، لأنها راية الحرية. واضافت: أبي لم يمت ولم ينطفئ، أنا عين الحرية وعين الديك التي ستظل تلاحق القاتل حتى آخر قبر لنصل الى الحرية «النهار» لن تموت، ولبنان لن يموت وكذلك الحرية، وهذا هو عهد الوفاء لجبران ولكل الأحرار وكلنا في «النهار» سنمسك قلم جبران تويني ونتابع. ثم رددت قسم جبران: نقسم بالله العظيم مسلمين ومسيحيين ان نبقى موحدين الى أبد الآبدين دفاعاً عن لبنان العظيم». ثم تلا النائب بهيج طبارة كلمة رئيس كتلة المستقبل النيابية النائب سعد الحريري، وجاء فيها: نجتمع اليوم في وداع شهيد جديد من شهداء لبنان، شهيد الكلمة الحرة والكرامة والوحدة الوطنية، شهيد الحقيقة، لقد فدانا جبران تويني بدمائه، كما من قبله كل الشهداء الذين سقطوا على درب الحرية والديمقراطية والسيادة والاستقلال. لقد فدانا جبران تويني لأنه كما رفيق الحريري كان يعلم أننا شعب يستحق الفداء ويستحق التضحية شعب يقاوم بصدوره العارية وبأيديه المسالمة، وبكرامته المجردة وبكلمته الحق، يقاوم أقوى طاغوت عرفه الزمن، طاغوت الإرهاب والعنف والقتل الجبان، إن الذين قتلوا جبران تويني جبناء يخشون الديمقراطية والحرية والحقيقة، يخشون النهار وكل ما هو في وضح النهار ولا يرتعون الا في عتمة الليل، ولكننا نقول لهم من عتمة هذا الليل سينتصر النهار ومن ظلمة الإرهاب سينتصر الحق، ومن ديجان القتل الجبان ستنتصر الحقيقة. وأضاف ان لبنان يقف على باب الحرية والسيادة والكرامة الوطنية وانتم أيها الشباب تمسكون بمفتاح هذا الباب.. وحدتكم الوطنية وتمسككم بالعيش المشترك واصراركم على الحقيقة، كل ذلك سيهزم القتلة المجرمين، وسيهزم اعداء لبنان وسيسقطهم في قبضة العدالة ليدفعوا ثمن ما جنت ايديهم. ان لبنان بكم سينتصر ورفيق الحريري بكم سينتصر، وجبران تويني بكم سينتصر». وسبق التشييع جلسة تأبينية عقدها المجلس النيابي، لم يحضرها رئيس الحكومة فؤاد السنيورة وهي استهلت بالوقوف دقيقة صمت على روح النائب جبران تويني، الذي ترك مقعده في القاعة الكبرى فارغاً، ووضعت عليه ورقة حمراء وعلم انتفاضة الاستقلال ذو اللونين الأبيض والأحمر. وبعد الصمت القى رئيس المجلس نبيه بري كلمة بدأها بترداد آخر الكلمات التي سمعها جبران من والده عميد صحيفة «النهار» غسان تويني. ثم قال: «صباح الخير ياجبران، ها أنت على عادتك مولعا بالمشاكسة. تستيقظ قبل الجميع على صياح نهارك الذي يسبقنا إلى الشمس فسبقنا الى الحياة وما أن نفتح عيوننا حتى نجد أنفسنا ونرشف طعم صحيفتك المرة أو الحلوة، ونتطلع إلى وجوهنا في مرآتها فنرى أنفسنا حين نكون موحدين، تارة كالرمح، وحين نكون متفرقين أجنحة منكسرة، بل شظايا تلفظ أنفاسها في جسد التراب وها أنت صبيحة الاثنين على عادتك مولعاً بالمشاكسة تستيقظ قبل الجميع على صياح نهارك الذي يسبقنا الى شمس كانون.. فسبقنا الى الحياة الأخيرة، حيث أرادوا لك الموت معلناً ومعلناً صوتك في برية الله، في برية الله كأنك ألقيت القبض على زمرة القتلة مفخخين السماء والماء والهواء والأسماء وكل الأشياء. صباح الخير يا جبران، صباحات هديل الحمام الذي يجتمع على ملعب يديك أمام البرلمان، صباحات الشباب الذين اجتمعوا في برلمانك ذات يوم في حوار مفتوح على لبنان الرسالة، رسالة المحبة والتسامح وعلى لبنان، حديقة الحرية، وعلى لبنان حوار الحضارات، وعلى لبنان المدرسة والجامعة والجمال، ودائماً على لبنان القادمة. صباح الخير يا جبران، ها أنت قد كتبت بدمك افتتاحية كل صباح، وللآخرين يا جبران موتهم الفارق في النسيان، للآخرين حياتهم المحنطة بزمانهم اليابس. ولك أيها الزميل ضحكة الشمس الصبية التي تتمختر في حضن نهارك، ولك المجد وعاش لبنان حراً سيداً عربياً مستقلاً». ثم تتابع على الكلام النواب: إيلي عون، وليد عيدو، عاطف مجدلاني، ميشال فرعون، سمير الجسر، مصطفى هاشم، روبير غانم، فريد الخازن، صولانج الجميل، أكرم سركيس، محمد رعد، عمار حوري، عبداللطيف الزين، مروان فارس، عالم عربجي. وكانت الكلمة الأخيرة للوزير النائب مروان حمادة الذي شكر باسم عائلة تويني الرئيس بري والمجلس النيابي على هذه الجلسة التي خصصت لتأبين الشهيد تويني. ولم تخل كلمة حمادة من مواقف سياسية حادة، حيث قال موجهاً كلامه إلى الرئيس بري: أريد فقط أن أقول لك وكنت أنت واسع الصدر تماما، يوم وقفت على هذه المنصة، بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، لأتوجه إلى حكومة العمالة آنذاك وإلى وزير العدل وإلى وزير الداخلية اللذين لا أبرئهما أبداً من التحريض ومن التنفيذ ومن رعاية هذه الجريمة. وقفت آنذاك فيه كان جبران واقفاً في ساحة الشهداء يخاطب الجماهير ويدعوها إلى الوحدة الوطنية باسم لبنان العظيم. فقط أسئلة قصيرة جداً تلغرافية أوجهها إلى مجلس يمثل اليوم الشرعية الحقيقية في لبنان، لأن في قمة السلطة لم تعد هناك شرعية منذ التمديد المشؤوم والمفروض علينا من قبل النظام الاستبدادي في دمشق. أسأل السيدة صولاغ الجميل: هل تنتظر لجنة تحقيق لتعرف من قتل زوجها (الرئيس الراحل بشير الجميل). أسأل السيدة نائلة معوض. هل تأمل من أن تأخذ جواباً من لجنة التحقيق وهي تعلم من قتل زوجها (الرئيس الراحل رينيه معوض). أسأل السيدة الفاضلة بهية الحريري هل تنتظر اللجان وحتى المحاكمات لتعرف من قتل رفيق الحريري وباسل فليحان. أسأل الياس عطاالله: هل يشك فيمن قتل سمير قصير وجورج حاوي؟ أسأل نواب القوات اللبنانية ونواب كتلة العماد عون هل يشكون فيمن فخخ سيارة مي شدياق؟ أسأل ميشال المر الذي غاب عنا منذ قليل ألا يعرف من فخخ سيارة ابنه الياس؟ أسأل نواب بيروت، النواب الذين أحاطوا جبران تويني ألا يعرفون من اغتال المفتي حسن خالد؟ أسأل أنفسنا نحن نواب الحزب التقدمي الاشتراكي واللقاء الديموقراطي أليس لدينا ملف بمن قتل وبالتفصيل الشهيد المعلم كمال جنبلاط؟ وقال: أتحدث عن ذلك وأنا أبكي مع المقاومين مع اخواننا في حزب الله، أبكي هادي(ابن الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله )ورفاق هادي. ولكن كنا نعرف آنذاك أن العدو عدونا الواحد هو إسرائيل وهو مستمر في معاداتنا ولكن أتساءل كيف سنسكت عن نظام استبدادي معتد على لبنان في سعيه الى الاستقلال وإلى السيادة وإلى العلاقات المميزة؟ كيف نسكت عن ذلك، حتى أسأل كذلك ألم نتساءل يوماً ولم تكن منظومة الدول المسماة تقدمية شريكة في شكل من الأشكال في اختطاف الإمام موسى الصدر، ولماذا لم يتم السعي الجدي في كل فترة الوصاية للبحث جدياً عن مصير الإمام. أضاف: أقول كل ذلك، لأعود وأشكر كل الزملاء الحاضرين هنا وعلى رأسهم أنت رأس السلطة التشريعية التي نعتز بالانتهاء إليها والذي كان جبران، رحمه الله، يتطلع الى الدخول إلى ندوتها، وقد دخلها ولم يخرج منها. وسيبقى هذا المقعد كما مقاعد كمال جنبلاط ورينيه معوض، كمقاعد بشير الجميل والإمام ومقاعد المفتي في مقراتهم، كمقاعد المناضلين الشرفاء أمثال جورج حاوي وسمير قصير، كمقاعد مي شدياق التي أنقذها الله لكن حفظ لها ربما نصف مقعد، أليس كل ذلك ونسكت ونستمر في هذا السكوت أو في هذه التغطية عن المجرمين؟ إلى متى السكوت أو بالهجوم المضاد أو بالدخول عبر الإنترنت وبعض الصحف المأجورة في دمشق التي نعرف ما هي هذه الصحف. وبمن تأتي وهي كانت تتنبأ أن النهار سيتحول إلى ليل حالك، ولكن ان الليل الحالك هو مصير هؤلاء القابعين في أقبية المخابرات والذين لن يطول لا عهدهم ولا نظامهم ولا عمرهم. ثم انتقل الرئيس بري مع الوزراء والنواب إلى كاتدرائية مارحاورجيوس القريبة من مبنى البرلمان في ساحة النجمة، للمشاركة في القداس والجناز الذي أقيم للفقيد تويني قبل دفنه في تنية مار متري في الأشرفية.