سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
عنجر قمة جبل الجليد ... "معمل بصل" يثير الرعب لدى اللبنانيين وروايات عن نقل تراب الى سورية ! . نبش المقابر الجماعية يفتح دفاتر الحرب : مواد كيماوية ومحارق لپ"تذويب" تاريخ
شهد لبنان على مدى 12 شهراً ارتدادات الزلزال الكبير الذي نجم عن اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري. ومع تلك الارتدادات، كشفت مقبرة جماعية في منطقة عنجر البقاعية، لكن الصدمة التي أحدثتها وسط تعقيدات سياسية تلت الانسحاب السوري،"خفتت"سريعاً لأن معظم اللبنانيين مقتنع بعدم جدوى الاصرار على الاجابة عن السؤال الكبير: من وراء المقابر الجماعية وهل يحتمل لبنان اعادة فتح ملفات الحرب؟ يهمس أهالي منطقة عنجر همساً بما رأوه قبل انسحاب القوات السورية من منطقتهم، ويلتفتون يمنة ويسرة لئلا يعرف أحد أنهم يتحدثون الى وسيلة إعلامية. يقولون"المعمل"ويرفعون رأسهم قليلاً كمن يشير الى مكان يفترض سلفاً أن لا معمل غيره، ويقصدون بذلك معمل البصل الذي حولته الاستخبارات السورية معتقلاً قيل أن الأوصال ترتجف لذكره. وهل البصل يصنّع؟ يجيبون أن المعمل كان يحوي برادات لحفظ المنتوجات الزراعية، وتوضيبها، ولكن عندما دخل السوريون أقفلوه، وحولوه مركز اعتقال، ومحطة أخيرة يمر بها كل من تقع عليه القرعة، فينقل الى الأراضي السورية، ويغيب أثره. اختزل المعتقل المنطقة بأسرها، فارتبط اسم عنجر ارتباطاً وثيقاً بحكايات وروايات تسربت من السجن، وصار يكفي اللبنانيين ان يلفظوا كلمة عنجر، ليفهم منها المعتقل وليس القلعة الأثرية أو الأراضي الزراعية. لكن المسألة لا تكمن هنا، بل في ما رآه الأهالي قبل رحيل"ضيوفهم"بنحو أسبوع. هم يعرفون جيداً أن باصات نقل المعتقلين الى"الداخل"أي سورية، تنطلق يومي الخميس والجمعة من المعمل، ولكن في ذلك الوقت، كما يروي لبنانيون في عنجر، أخلي السجن ممن فيه، قبل نحو عشرة أيام، وبدأت أعمال ترميمه وصيانته:"نظفت غرفه، وأزيلت آلات التعذيب التي قد لا تكون بالضرورة معقدة. وطليت الجدران بالأبيض فلم يبق أثر لما قد يكون السجناء حفروه عليها قبل نقلهم، من أسماء أو تواريخ أو أي تفصيل يفيد في اقتفاء أثرهم". الباحة الخارجية رممت أيضاً، ودُعِّم السور الذي كان تهاوى بعضه. ذلك كله يقال جهاراً، أما ما يقال همساً فشاحنات تقارب العشر، حُمِّلت تربة من محيط المعمل، وتوجهت بها ذات فجر الى"الداخل". شاحنات تسمى بين السائقين"كاميون قلاّب"لان مستوعباتها قابلة للارتفاع وقلب ما تحويه. وتحت جنح الظلام، يضيف مواطنون في عنجر، في الساعة الثالثة فجراً، قبل نحو أسبوع من الانسحاب عملت جرافة لاستخراج التراب من محيط المعتقل وملء الشاحنات به، ثم أعادت مسح الارض كأن شيئاً لم يكن. وقبل أن يطلع النهار، كان حفّارو القبور أنهوا عملهم. في خراج بلدة عنجر، حيث مقام النبي العذير الذي فُجِّر في العام 2002، حفار قبور من نوع آخر. هو مساعد المختار شعبان العجمي المتواري عن الأنظار منذ مدة لأسباب أمنية. إذ وصلته تهديدات كثيرة بعد كشفه المقبرة وإثارته ضجة إعلامية وسياسية حولها. يقال حيناً أنه ذهب الى الحج مبكراً، فيما زوجته التي ترد على هاتفه تقول"خرج"ولا تعرف متى يعود. مساعده وأمين سره الذي يحرس المقام منذ أكثر من سنتين يتحدث عن العظام وبقايا جثث عثر عليها كأنها من بديهيات الأمور التي يصادفها المرء في حياته اليومية. رجل شارف الأربعين، ولم يتسلل الشيب الى رأسه بعد على رغم ما رآه خلال حراسته للمقام. لا انفعالات في تعابير وجهه، مجرد حاجبين كثّين يتحركان صعوداً ونزولاً مع حركة الشفتين. أصابعه الغليظة تنفتح عن كفه إذا أشار بسبابته الى أحد مواقع السوريين المحيطة بالمقام، وإلا فهي دائماً مغلقة بإحكام على راحة يده، كأنها قبضة تكتم أكثر ما تفصح. "في المرة الأولى وجدت عظمة، رميتها بعيداً كنبتة ضارة لأنني كنت أحضر التربة لأغرس زيتوناً، ثم حفرت حفرة وطمرتها، احتراماً لها. عرفت إنها عظمة بشرية. وصار الأمر يتكرر كلما أردت أن أعتني بالأرض. عظمة هنا، وأخرى هناك، ما عدت أعرف أين حفرت وأين طمرت". ولم يتوقف الحارس- الحفار كثيراً عند التفاصيل، لكنه يؤكد أنه لم يجد عظام أطفال أو جماجم صغيرة:"كلهم كبار. أنا لا أعرف كيف أميز عظام الرجل من عظام المرأة، لكنني أعرف جمجمة الطفل ان رأيتها، ولم أرها هنا. في كل الأحوال، لم تكن هناك أي جمجمة كاملة". كلام المسؤولين الأمنيين اللبنانيين لا يقنع الحارس- الحفار:"ربما كانت لديهم عظام أطفال، لكن ليس ما يؤكد أنها استخرجت من هذا الموقع بالذات". محاولات التفسير كلها جائزة. فهناك من يقول ان سلطة مستقرة كالسلطة السورية ليست بحاجة الى مقابر جماعية في مناطق نفوذها، وان الجثث التي عُثِر عليها تعود الى عابري سبيل، أو بدو رحّل أو بعض ضحايا القصف الاسرائيلي. في المقابل ثمة من يشكك في هذا التفسير ويفترض ان السوريين لم يتخيلوا يوماً أنهم سيغادرون، بالتالي لم يكترثوا كثيراً لإخفاء ما قد يدين تجاوزات ارتكبها بعضهم. وتختلف طريقة قبر الجثث بين الباحة الخلفية للمقام، والبئر القريبة. فأسلوب الطمر في الارض، على درجة عالية من الاحتراف كون الحفر جرى في أماكن متباعدة حيناً ومتقاربة حيناً، ثم وضعت الجثث ربما على مراحل وليس في آن، وأحضرت تربة من مكان بعيد لإخفاء المعالم. فالتربة في تلك المنطقة حمراء، فيما الطبقات العليا التي غطت المقبرة، هي من التربة السوداء. أما في البئر التي لا يزيد عمقها على مترين، فكدست الجثث فوق بعضها بعضاً، ولم تفصل بينها سوى كميات قليلة من التراب. وإذا كان ذلك يشير الى شيء، فإن زمن المقبرتين ليس واحداً، وكان للحفارين في الحالة الأولى متسع من الوقت ولم يكونوا على عجلة من أمرهم، بل أنجزوا عملهم بهدوء وروية. أما الآخرون فكان عليهم التخلص من الجثث بسرعة وكيفما اتفق، مستبعدين إمكانية ان تلفظ البئر أجساداً لم تهضمها. البئر اليوم فارغة. فيها علب عصير وأكياس"تشيبس"خلّفها أولاد لطالما اصطحبهم أهلهم للعب بأراجيح نصبت فوق الجثث. وكان بعض العائلات البقاعية، يفترش تلك الأرض أيام العطل المشمسة لتناول الطعام في الطبيعة واللعب خارج المنازل. ولم يخطر في بال أحد أن يكون على هذه المسافة القريبة من تحلل الجسد البشري. لذلك وبعدما انتزعت الأراجيح من مكانها وفتحت أحشاء الباحة الخلفية، يشعر الزائر بأن كل خطوة يخطوها إنما تسحق تحتها عظاماً كأنه يشارك في إخفاء الأدلة الجنائية. لكن الحارس - الحفار ضحك لهذه الأفكار، وقال ان رجال أمن"قلّبوا التربة رأساً على عقب مستخدمين جرافة بدلاً من معاول صغيرة أو معدّات خاصة. لا شك في أنهم خلطوا العظام". ومضى متنقلاً بين زاوية وأخرى غير مكترث بما تحت الارض. والواقع ان المقبرة التي اكتشفت أخيراً في بلدة عنجر البقاعية من طريق"الصدفة"، كما قيل ليست سوى قمة جبل الجليد. فما تختزنه الأراضي اللبنانية كلها، من جثث وعظام وأشلاء أكثر بكثير مما يتيح تناوله بهذه السهولة، خصوصاً ان وراء مقابر أمراء حرب لبنانيين، تحولوا رموزاً في السلطة. تعبير"مقابر جماعية"حديث نسبياً في قاموسنا، فالمعروف أن هناك مجازر جماعية تدفن بعدها الضحايا في شكل سريع وعشوائي، تفادياً لانتشار الأوبئة والأمراض، والأهم لإخفاء الجريمة، أو أحياناً لغياب من يطالب بجثث القتلى مباشرة بعد المعارك. وفي الحالة اللبنانية، الجهة التي كانت تقتل ليست بالضرورة هي ذاتها الجهة التي تدفن. فلم يعرف لبنان إبادات جماعية منظمة لفئة عرقية أو حزبية، يدفن بعدها القتلى بطريقة هندسية منظمة. ولعل المقبرتين الوحيدتين"المنظمتين"، هما مقبرة صيدا التي صار اسمها اليوم"مقبرة الشهداء"وتضم نحو 1700 جثة، والمقبرة العمومية في الاشرفية المحاذية لمقبرة مار متر. أما مقبرة صيدا فضحاياها سقطوا في الاجتياح الاسرائيلي للمدينة عام 1982 وبينهم مئات من سكان"بناية جاد". كانوا مختبئين في الملجأ، فإذا بقصف اسرائيلي يسقط المبنى فوق رؤوسهم. وأدى اندلاع النار في مخزن صناعي قريب الى تفحم كل الجثث، فدفنت من دون أن يتم التعرف الى أصحابها. أما القتلى الأفراد الذين كان العابرون يجدونهم أو يجدون أشلاء منهم بعد توقف المعارك، فكانت جثثهم توضع على ألواح خشبية يصب فوقها الكلس أو الاجص، ثم تدفن، وهذا ما حصل في حال قتلى مقبرة الاشرفية أيضاً. ويروي أحد أبناء صيدا، أحد المقاتلين السابقين فيها، أن رائحة الموت والكلس"سكنت"طويلاً شوارع المدينة. ولا يمكن الحديث عن المقابر الجماعية من دون نكء جروح عائلات فقدت أبناء وأزواجاً وآباء، وما زالت تعتبرهم في عداد المفقودين وليس القتلى، كونها لم تستلم جثثهم. لذلك، لفتح المقابر أكثر من هدف، اذ لا يساعد فقط في تحديد الفاعل، وهو ما عفا عنه قانون العفو بعد الحرب اللبنانية، وانما يساعد أيضاً في التعرف الى الضحايا وطريقة قتلهم، ويمنح ذويهم فرصة اقامة الحداد الشخصي. وكما ان كل جثة حالة، كل مقبرة جماعية هي حالة بذاتها. لذا لا يمكن اطلاق صفات عامة على المقابر الجماعية سوى انها ذلك المكان الذي يحتوي أكثر من جثة متلاصقة لا يفصل بينها شيء. ويختلف المختصون في هذا المجال على العدد، فيرى بعضهم أن مجرد جثتين مدفونتين بطريقة غير ملائمة انسانياً تشكلان مقبرة جماعية، فيما يشترط آخرون وجود خمس جثث على الأقل لإطلاق هذه التسمية. ولكن في كلتا الحالتين، لا خلاف على أن ما تختزنه ارض لبنان وبحره، خصوصاً الحوض الخامس من المرفأ من جثث، هو ما ينطبق عليه وصف مقبرة جماعية. خلال الأحداث اللبنانية، كما قال مسؤول أمني سابق في إحدى الميليشيات، كان يتم التخلص من بعض الجثث بإذابته بالمواد الكيماوية، أو بإحراقه بعد"تسويحه"أي القتل، خصوصاً اذا تراكمت أمام موقع قناص وليس من يطالب بها، وهذا حدث في مناطق العبور خطوط التماس سابقاً وليس في المناطق السكنية. وتكاد ألاّ تخلو منطقة لبنانية من مقابر جماعية، دفنت فيها الضحايا على مراحل أو دفعة واحدة فور انتهاء معركة. وفي هذه الحالة كان يؤتى بالجرافات فتقلب التربة على من فيها تفادياً لانتشار الروائح، والأوبئة والقوارض، كما حصل في تل الزعتر. وإذا صدق مقاتلون سابقون من أحزاب لبنانية مختلفة ممن التقتهم"الحياة"، يمكن وضع خريطة أولية للمقابر الجماعية في لبنان، تمتد من عينطورة في جرود جبال كسروان، ونقطتي البربارة والحوض الخامس ساحلاً، الى الكرنتينا، وسن الفيل وبرج حمود، والنبعة، وحرج بيروت والتحويطة والطيونة، وجادة شارل حلو التي بنيت فوقها محطة نقل عمومي، وطريق جزين، والشحار الغربي وعبيه والقاسمية حيث اضطر الاهالي الى دفن ضحايا اجتياح 1982 في الرمال، والرميلة، والجية والدامور. وهناك أيضاً المقابر الجماعية لفلسطينيين سقطوا في اشتباكات مع فصائل لبنانية او في هجوم دموي عليهم كصبرا وشاتيلا وبرج البراجنة، حيث دفنوا بين المنازل، وتل الزعتر. قد تطول اللائحة أو لا تطول، فالشكوك بوجود مقابر جماعية تحوم حول المواقع التي شهدت مجازر أو معارك دموية، بصرف النظر عن مقترفيها. ويبقى الأهم أن ليس من يطالب رسمياً بفتحها سوى حفاري قبور فضلوا دفن ماضيهم مع جثث ضحايا مجهولة... اللهم إلا إذا تحوّل كل لبناني حفاراً ينبش التراب في حديقته الخلفية.