عالمنا الحالي مأزوم على المستوى البيئي والاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وتتحمل الرأسمالية الساعية بحثا عن الربح بأي ثمن المسؤولية الأساسية عن هذه الأزمات. وأولوية الربح المطلقة هي ما قادت أصحاب رؤوس الأموال للاستثمار في القطاع المالي حيث يحتمل أن يكون الربح سهلا وكبيرا بالقياس إلى قطاعات"الاقتصاد الحقيقي"، فكان أن تسببت بالأزمة المالية الراهنة. وزاد من أزمات العالم تفكير الاشتراكيين الداعين إلى الانتقال للاشتراكية عبر حرق المراحل وقبل نضوج مقدماتها الموضوعية عند كل أزمة تعصف بالرأسمالية، منذ أيام المرحوم ماركس وحتى يومنا. ومع عميق تقديري لتعاطف المناضل والفيلسوف الألماني ماركس مع الطبقة العاملة، وتألمه لدرجة استغلالها الفظيع من رأسماليي زمانه، أجزم أن ذلك التعاطف قاده إلى المبالغة بدور الطبقة العاملة والى دعوته للعنف الثوري وقلب النظام الرأسمالي. ولكن ماذا قالت لنا الحياة بعد دعوة ماركس الشهيرة تلك؟ ترى لو أن ماركس عمل مع غيره من الديموقراطيين والليبراليين من داخل النظام الرأسمالي من أجل تعميق الإجراءات الديموقراطية، الم يكن ذلك أجدى من اجل خلق المقدمات الموضوعية للاشتراكية؟ غلّب ماركس والاشتراكيون من بعده الطبقي على الإنساني ودعوا إلى النفخ في شرارات الصراع الطبقي وتجميعها من اجل العنف الثوري كقابلة للتاريخ، فكانت النتيجة أن تعمقت الرأسمالية في بلدانهم تحت يافطة شيوعية، وما زال الاشتراكيون يصرون على الدعوة إلى الثورة بدلا من الدعوة إلى تلطيف الصراع الطبقي عبر الإصلاح المتدرج الذي يجعل من الوعي موّلد الجديد من القديم. مؤسف أن يكرر الاشتراكيون الحاليون الغلط أيام ماركس ويدعون إلى تجاوز الرأسمالية بدلا من العمل إلى جانب الديموقراطيين والليبراليين من اجل تعميق الإجراءات الديموقراطية وتحديدا دعاة الليبرالية اليسارية الجديدة القائمة على قدمين - سياسي واقتصادي- نوفر فيها الحريات السياسية الى جانب ضمان صحي واجتماعي وتوفير فرص العمل للمواطنين. ذلك هو الطريق الصحيح للاستفادة من الأزمة الحالية، والذي يساهم اقتصاديا في الضغط على أصحاب الأموال لاستثمار رؤوس أموالهم في القطاعات المنتجة، وسياسيا في إعادة صياغة الهيئات الدولية بما يخدم تنمية المجتمعات في كل مكان. يحضرني بهذه المناسبة ما سجّل لنا الراحل خالد العظم في مذكراته، وكيف قادته عبقريته لتلمس تطور اقتصادي واجتماعي ينسجم مع التقدم الاجتماعي انطلاقا من حادثة شخصية في حياته. يقول خالد العظم في الجزء الأول من مذكراته، ص 132 ما يلي:"واني لأذكر أني في صباي [أني] كنت أتابع أخبار المهاجرين من روسيا ممن كانوا يلعبون بالذهب والمجوهرات كما يلعب صبيان الأزقة بعظام الحيوانات كعاب، وقد عاشرت فتاة روسية كان خجلها مما وقعت فيه من الفاقة يمنعها من أن تسرد لي حياتها السابقة... وكنت في أكثر زياراتي لها أجدها مستلقية على السرير تنظر دون أن ترى وعيونها مليئة بلآلئ الدموع، فاسألها ما بها، فتحدق عيناها في عيني وتسكت عن ما يتآكل جسمها وروحها من ذكريات، ومن مقارنات بين ما كانت تسبح قيه من نعيم وما وصلت اليه من بؤس حملها على العمل في الملاهي الليلية". ويضيف العظم:"أنا لا أقول بوجوب المحافظة على الأنظمة التي لم تعد تأتلف مع الزمن، ولا أنادي بالعودة إلى الإقطاعية والرأسمالية المحتكرة، ولا أشجع الأساليب التي ترهق الطبقة العاملة وتحرمها من ثمرات أتعابها. فأنا منذ نشأتي السياسية، وما زلت أرى التطور الاجتماعي أمرا لابد ولا غنى عنه، ولكنني اكره الثورات المخربة. وأقول بان كلفة تغيير الأنظمة الاجتماعية لا يصح ان يتحملها أبناء جيل واحد اعتاد على نوع من الحياة وركّز دعائمه عليها، فنأتي بيوم واحد ونهدم كل ما يملك، تماما كما تفعل الزلازل والعواصف والسيول". * كاتب سوري.