مني الاشتراكيون والاشتراكيون الديموقراطيون في الانتخابات الأوروبية الأخيرة بهزيمة كبيرة، وهذا إن دل على شيء فهو يدل على تراجع الاشتراكيين على اختلاف ألوانهم، هم الذين لم يستفيدوا من الإسقاطات المدمرة للأزمة الاقتصادية العالمية على واقع الطبقات والفئات الاجتماعية الفقيرة في القارة العجوز. فالسبب البديهي كان من المفترض أن يجعل اليسار هو المنتصر، ويتمثل في إخفاق إيديولوجية الليبرالية الجديدة، التي تقوم على مبدأ أن الأسواق تعمل بشكل أفضل من دون تنظيم. لكن الأزمة الاقتصادية العالمية خدمت مصلحة اليمين. وهذه هي المفارقة الرئيسة من هذا الاستحقاق الانتخابي: ففي ظل سيطرة الكساد الاقتصادي الذي لا مثيل له، وفي ظل محاكمة الليبرالية الجديدة، كان الجميع يعتقد أن اليسار سيعرف كيف يستغل هذه الفرصة التاريخية التي مُنِحَت له لكي يأخذ زمام المبادرة السياسية. ورافق هذه الهزيمة لليسار صعود مدو للحركات الشعبوية (اليمين المتطرف)، التي نجحت في التقدم في كل مكان عندما لم تكن مؤهلة لتقاسم المسؤوليات مع الأحزاب اليمينية المحافظة. فعندما يعم الخوف المواطنين، بسبب فقدان وظائفهم، أو انخفاض أجورهم، أو من المستقبل القاتم، فإنهم يصوتون بطريقة دفاعية ومحافظة. فالنقد لليبرالية الأغنياء، والرأسمالية، يدق الجرس في المنابر، لكنه لا يقدم برنامجاً بديلا. دافعت الاشتراكية الديموقراطية الأوروبية عن البرنامج الاشتراكي التقليدي لليسار، الذي يقوم على التمسك بمبدأ الاقتصاد الكينزي، والتنظيم الاجتماعي للأسواق، بصفته البرنامج القادر على الفوز في الأصوات، بما يؤمن النصر لتشكيلات اليسار. لم يحصل أي شيء من هذا القبيل، بل إن اليمين المحافظ الذي يحكم في أكثر من عشرين بلداً أوروبياً، تجاوز الاشتراكيين والاشتراكيين الديموقراطيين. والحكومات الاشتراكية الثلاث الباقية على قيد الحياة في الاتحاد الأوروبي تعرضت للخسارة: ففي بريطانيا مني حزب العمال بهزيمة نكراء (15 في المئة) وانتقل إلى المرتبة الثالثة بين الاحزاب، و في إسبانيا خسر الحزب الاشتراكي أربع نقاط. كذلك، سجل اليمين في البرتغال، بلاد رئيس المفوضية الأوروبية جوزيه مانويل دوراو باروسو، فوزاً لم يكن متوقعاَ على اشتراكيي رئيس الوزراء جوزيه سوكراتيس. وليست الاشتراكية الديموقراطية التاريخية سياسة فقط. إذ إنها بلا انفكاك ثقافة سياسية تنطلق من التعددية الاجتماعية والدفاع عن «الاعتدال» السياسي وعن بنيات التنظيم من أجل التفاوض والتشاور. وشهدت الأحزاب الاشتراكية في أوروبا الجنوبية تجارب مختلفة نسبياً، اذ ركزت على الصراع الطبقي حتى عقد السبعينات، وحافظت على شكل من المرجعية الماركسية لفترة طويلة أكثر من أحزاب أوروبا الشمالية. أما اليوم فإن الظروف الاقتصادية والسياسية قربت بين الأحزاب الاشتراكية الديموقراطية كثيراً حتى وإن ظلّت في حدود الوقائع الوطنية. ومنذ نهاية السبعينات، واجهت الاشتراكية الديموقراطية مصاعب جديدة مع سيطرة الليبرالية الجديدة. وباستثناء بريطانيا أصبحت الاشتراكية الديموقراطية الأوروبية في موقع الدفاع. كيف يمكن تفسير هذا الوضع؟ الأسباب الاقتصادية قاهرة، وتعود إلى حد ما إلى المصاعب الناجمة عن تطبيق السياسات الاقتصادية: كلفة الموازنة للبرامج الاجتماعية، وتنامي البطالة في الثمانينات والتسعينات، ومحدودية السياسة الضريبية، ولامركزية نظام العلاقات المهنية التي تعقد سياسة المداخيل. لقد انهارت كلياً ركيزة الاشتراكية الديموقراطية ذات الثلاث قوائم - المشروع، النموذج، والبرنامج - تحت تأثيرحركتين ليستا بالضرورة مترابطتين: من جهة، تبدد المستقبل «الثوري» مع نهاية الشيوعية، ومن جهة أخرى، التحولات التي عرفتها الرأسمالية في ظل الانتصار المدوي لليبرالية الأميركية، التي عمت القارة الأوروبية، وأسقطت الاشتراكية الديموقراطية التي كانت حاكمة في عدة بلدان. وصار عدم تدخل الدولة، إلى جانب تحرير التجارة وحرية تنقل رؤوس الأموال، وخصخصة المشروعات والشركات الحكومية، أسلحة استراتيجية في ترسانات الحكومات الغربية المعتنقة إيديولوجية السوق العمياء. وجاءت نهاية الحرب الباردة، وانهيار الشيوعية في الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية، ليعطيا إيديولوجية الليبرالية الجديدة دفعة عالمية قوية، حين زعمت أن الرأسمالية قد انتصرت إلى الأبد، وكان أبرزها محاولة المفكر الأميركي الياباني الأصل فوكوياما. وإذا كان البرنامج الاشتراكي الديموقراطي على الصعيدين الايديولوجي والثقافي لم يستنفد بعد، فإن العالم الذي يتوجه إليه تغير كثيراً منذ عشرين سنة. وكان للعوامل التالية: التحولات في سياسة الأجور، في ظل الانحدار التاريخي للطبقة العاملة التقليدية، ووجود الملايين من العمال والموظفين الذين يعيشون في ظروف عمل موقتة ومعزولة، وأهمية الطبقات الوسطى الأجيرة، والمكانة الكبيرة للنساء في سوق العمل، وتمديد «فترة» الشباب، وفي الوقت عينه، شيخوخة السكان، وحضور العمال المهاجرين، وقوة النزعة الفردية...، تأثيرها في اضعاف بنيات التمثيل التقليدي للاشتراكية الديموقراطية. كما أن النقابات لم تعد منسجمة، وقد حصلت على استقلاليتها الذاتية. وهذا ما أصبح يتطلب من الاحزاب الاشتراكية الديموقراطية والاشتراكية أن تجمع عدة جماعات من الناخبين، ذات المصالح المختلفة والمتبخرة. هكذا اصبحت هوية الاشتراكية الديموقراطية منذ عشرين سنة سياسية أكثر منها ايديولوجية، أي سوسيولوجية وثقافية. والحال هذه، أصبحت أساسيات «تسويات الاشتراكية الديموقراطية» بحاجة إلى إعادة التفكير فيها، في عصر جديد من الرأسمالية. * كاتب تونسي