"بالصراع يا أصدقائي تنزل كل سعادة ساحة الأرض. أجل، لكي نصبح أصدقاء لا بد من جلجلة المدافع. ويتوحّد الأصدقاء في ثلاث حالات:"أخوة للضرورة، سواء أمام العدو، أحرار في الموت!". هكذا حدّد الفيلسوف فريدريك نيتشه ميثاق الصداقة قبل أكثر من قرن في كتابه"العلم المرح"... وبعيداً من سفسطات هذا الألماني تبدو الصداقة اليوم، كما كانت دائماً، سنداً معنوياً ومادياً يتكئ عليه المرء في أكثر اللحظات حرجاً وضيقاً... وحتى فرحاً. حاول كثيرون تحديد معنى الصداقة بالنسبة اليهم، وإن كان هذا المعنى يأخذ معايير خاصة لا يمكن التنازل عنها لحظة اختيار الصديق. ولكن مع تتابع التعليقات والتصريحات والمقارنات، تبين أنّ الصداقة الخالصة كثيراً ما تكون بعيدة من أيّ تصنيف أو قالب معيّن يحدّد لها أطرها. سميرة 27 عاماً، تعمل في وكالة عقارية في العاصمة الجزائر، تقول إنّ صديقتها الحميمة سهام، وهي من عمرها، تركت في حياتها أثراً كبيراً قبل أن تسافر إلى سورية. وحين تسترجع تجارب أيامهما السالفة تبدو كمن يتألم للذكرى:"صداقتنا تعود إلى عهد الطفولة، درسنا في مدارس مشتركة وفي جامعة واحدة وإن كانت تخصصاتنا مختلفة. حين قررت صديقتي الزواج والاستقرار في الخارج شعرت بكثير من الفرح والكثير من الأسى. غرقت في جدلية غريبة بين سعادتي لسعادتها وحزني لفراقها. الآن تأقلمت مع الوضع ونحن على تواصل مستمر ولا أحكي لأحد غيرها أسراري ولا حتى لشقيقتي". فكرة الحديث عن الأمور الخاصة محطة أساسية في الصداقة. فليس من السّهل أن يعرّي المرء نفسه ويكشف ضعفه أو خوفه وتردده أمام شخص آخر ما لم يكن وضع فيه ثقة كاملة. ولا يتأتى هذا إلاّ من خلال التوازن الذي من المفروض أن يكون مشتركاً بين الصديقين. من هذا المنطلق حدثنا سليم 30 عاماً عن حالة صداقة منفصلة عنده. الأولى متعلقة بحبيبته السابقة التي صارت الآن صديقته المقربة والتي يسرد لها الكثير من أسراره. فقال:"منذ أن كنا في علاقة وهناك تواطؤ غريب بيننا، نفهم بعضنا بعضاً من إشارات فقط، وهناك مستوى مرتفع من الاتفاق في ما بيننا على الكثير من الأمور الحياتية والفكرية، وحتى حين توقفت علاقة الحب التي جمعتنا لسنوات، ظلّ هناك وميض خفي لا يزال يربط بيننا. لكنني لا أستطيع أن أحدّثها في بعض الجزئيات بحكم اختلاف الجنس. هناك أشياء أشعر بأنها لا تفهمني فيها كثيراً ونختلف فيها ولكل واحد منّا نظرته، لهذا السبب أعود في هذه المواضيع الى صديقي خالد". يصمت سليم قليلاً ويضيف:"الرجل يمكنه استيعاب رجل آخر. تماماً كما يمكن المرأة أن تتحدث مع امرأة أخرى عن تفاصيل تخصهما بطلاقة وحرية وتفهّم أكبر. أنا وصديقتي غالباً ما نتحدث عن ميدان عملنا المشترك، عن أذواقنا المختلفة في اللباس، الموسيقى، عن ذهنيات النساء المتشعبة وأمزجة الرجال. أما خالد فلا حدود بيننا لأنّه يفهمني أكثر". صداقة عبدالحكيم وسامي تؤكد ذلك، فهما التقيا في مكتبة عامة قرب الجامعة، ولا تزال علاقتهما مستمرة منذ سبع سنوات فيما غابت تلك المكتبة التي جمعتهما. وكشف عبدالحكيم عن تلك الشرارة الأولى، فقال:"كنت مدمناً قراءة الكتب وارتياد المكتبات، وصادف أن التقيت شخصاً في مثل سنّي تقريباً في الركن نفسه من المكتبة، كنا نقف طويلاً نقلّب صفحات الكتب والمجلات، وتكررت اللقاءات إلى أن صار وجهانا مألوفين كل للآخر. هو كان يشتري الكثير من الكتب لأنه كان ثرياً، أمّا أنا فقد كنت أتطلع إليها وأقتني كتاباً أو اثنين. ثم أعارني الكثير من المراجع التي احتجت إليها، وجرت بيننا نقاشات عن الجامعة والبلد وصديقاتنا إلى أن توطدت علاقتنا أكثر. صرنا لا نفترق إلا لماماً وكوّنا أسرتين وكثيراً ما نعقد جلسات وأمسيات مشتركة، ونسافر معاً أحياناً. كان لتلك المكتبة فضل كبير في العثور على أخ روحي حين أحتاج الى أي دعم مادي أو معنوي أجده بالقرب مني ولم يتخل عني أبداً". ومن جانب آخر مغاير لمثل هذه الحقائق، ثمة من يئس تماماً من هذا"الادّعاء"الذي يسمى"صداقة". وأصحاب هذا المبدأ هم الذين واجهتهم حالات خيانة وغدر من طرف أناس اعتبروهم أصدقاء مخلصين. جميلة أعلنت أنّها لا تفكر في اتخاذ صديقة جديدة أبداً، مؤكدة أنّ صديقتها الوحيدة هي والدتها، وهي تحكي لها كل شيء ولا تكتم عنها سرّاً. وقالت:"اكتشفت بعد حادث وقع لي مع من كنت أعتبرها"صديقتي"أنّ والدتي امرأة رائعة وأنّني كنت أهملها ولا أستمع الى نصائحها بحكم اختلافنا في السن والتفكير. الآن أنا مع أمي على علاقة وطيدة، وقد انتصحت بالكثير من أفكارها وهي ترعاني بدعواتها الخالصة، وأزورها بصورة مستمرة من أجل تبادل الحديث والتسامر، وليتني اعتبرتها صديقتي منذ البداية". وشرحت جميلة"كفرها"بالصداقة بصوت لا يخلو من حسرة، فقالت:"لا أريد أن أذكر حتى اسمها، كانت أكثر من شقيقة بالنسبة إليّ، كنّا نتبادل ملابسنا وأشياءنا الخاصة، ولم أكن أخفي عنها شيئاً، تبيت معي في غرفتي وأفعل أنا الشيء ذاته، وبحكم الصداقة التي بيننا عرّفتها الى الرجل الذي أحببته، وكثيراً ما كنا نلتقي، وكنت أطلب منه أن يوصلها إلى بيتها البعيد نسبياً بسيارته لأطمئن إليها، إلى أن فوجئت بعد فترة بأنّه على علاقة جدية معها، فأدركت حينها سبب مماطلته في زواجنا". تصمت كأنها تستعيد شيئاً قديماً ثم تتابع:"لم أكن أريد أن أخسر صديقتي من أجل رجل، مع أنني كنت أحبه. اعتبرت الأمر مجرد نزوة ورميت كل العتاب عليه بحجة أنّه هو من استمالها، بخاصة أنها فتاة جميلة، لكنها عادت وأكّدت لي بكل وقاحة أنّه يعجبها وأنها ستتزوج به! انتزعت تلك الفتاة من حياتي نهائياً، وحين أراها مرات في الطريق صدفة، أغيّر وجهتي وأتظاهر بأنني لم أرها. وحين أفكر في الأمر الآن أقول ربما كان الأمر يستحق". ومع تناقض الروايات يتبادر سؤال إلى الذهن: ترى كم من البشر في هذا العالم هم"أخوة للضرورة، سواء أمام العدو، أحرار في الموت"؟