لم يكن المندوب الأميركي في الأممالمتحدة زلماي خليل زاد مهّولاً أو مبالغاً حين حذر، قبل أيام، من أن اضطرابات الشرق الوسط قد تشعل حربا عالمية، مثلما فعلت الصراعات الأوروبية مرتين في النصف الأول من القرن الماضي. فالأزمات التي يزداد لهيبها في الشرق الأوسط لم تعد محض إقليمية بخلاف ما كانت عليه حتى العقد الماضي. فما يجمع هذه الأزمات اليوم هو صراع على هوية الشرق الأوسط ومستقبله، وبالتالي على موقعه في العالم ودوره فيه. إنه صراع بين من يريدون للشرق الأوسط أن ينخرط في التيار السائد في عالم اليوم، ومن يتطلعون لأن يقوم بدور الممانع لهذا التيار. وهو صراع تمتد معاركه من الأزمتين الداخليتين في كل من لبنان وفلسطين إلى"المحرقة"العراقية وصولاً إلى البرنامج النووي الإيراني الذي يحتل موقعاً مميزاً في هذا الصراع. ولذلك يبدو هذا البرنامج هو العامل الأهم وراء احتمال تحول الصراع على الشرق الأوسط إلى حرب عالمية، بالمعنى الذي تحدث عنه خليل زاد وبالصورة التي يلاحظ عدد متزايد من المحللين الإستراتيجيين أنها آخذة في التشكل يوما بعد يوم. فقد تكون هذه الحرب هي النتيجة المحتملة للفشل في الوصول إلى تسوية للخلاف على هذا البرنامج قبل أن ينفد صبر المسؤولين الأكثر تشدداً ضده في إدارة بوش، وعلى رأسهم ديك تشيني نائب الرئيس. فإذا نفد صبرهم قبل أن تتحول إدارتهم إلى"بطة عرجاء"بدءاً من ربيع العام المقبل على الأكثر، قد تنشب الحرب المحتملة في غضون شهور قليلة لأن المستوى الذي بلغه الاحتقان في الشرق الأوسط يجعلها مرجحة في حال قررت واشنطن توجيه ضربة ضد إيران حتى إذا كانت محدودة تستهدف مواقع محددة في مقدمتها المنشآت النووية بطبيعة الحال. فالرد الإيراني المحتمل على مثل هذه الضربة يدفع إلى ترجيح احتمال أن تكون هي الشرارة التي تشعل حربا يمتد لهيبها إلى العراق وبعض دول الخليج العربية، ويفجر خزانات وقود سياسي جاهزة للاشتعال في شرق المتوسط، وخصوصاً إذا شاركت إسرائيل في الضربة أو تلقت إحدى ضربات الرد الإيراني. فالأرجح أن يؤدي ذلك إلى إشعال حرب إسرائيلية ? سورية يستعد لها الطرفان منذ أن وضعت حرب صيف 2006 أوزارها. ويشمل الاستعداد الإسرائيلي سيناريو المشاركة في الضربة الأميركية الجوية، على نحو ما تدل عليه مؤشرات متوالية. ومن هذه المؤشرات العملية التي قام بها الطيران الإسرائيلي في الأجواء السورية ليلة الخميس 6 أيلول سبتمبر الجاري، واستهدفت - ضمن ما سعت إليه - تجربة المسار الجوي المؤدي إلى الأجواء الإيرانية ضمن عمليات التدريب المرتبطة بالاستعداد للمشاركة في حرب على إيران يرجح أن تكون وقودا للحرب العالمية التي لم يعد ممكنا استبعادها. وفي كل الأحوال، يبدو أن إسرائيل ستكون طرفا في حرب على إيران إذا نشبت، حتى إذا لم تشارك في الهجوم الجوي الأميركي. فالرد الإيراني يرجح أن يشملها سواء بشكل مباشر أو بالوكالة عن طريق حزب الله. وقد تكون إسرائيل هي المبادرة، في سيناريو آخر، باستهداف مواقع حزب الله، وربما أهداف سورية أيضا، في ضربة استباقية تتزامن مع الضربة الأميركية على إيران. فقد بلغ الاحتقان في المنطقة حدا يجعل الشرارة التي قد تشتعل قادرة على تفجيرها بعد أن أصبحت أزماتها الساخنة بمثابة خزانات وقود سهلة الاشتعال في أية لحظة. وهكذا، فمثلما كانت أوروبا هي ساحة الحربين العالميتين الأولى والثانية، سيكون الشرق الأوسط هو ساحة الحرب المحتملة القادمة إذا نشبت. فلم تمتد حربا النصف الأول في القرن العشرين خارج أوروبا إلا في بضع هوامش ما كان لهما أن تصلا إليها إلا لأن معظم أطرافهما كان دولا استعمارية. كما أن انخراط الولاياتالمتحدة في الحرب الثانية أضفى عليها طابعا أكثر عالمية، من حيث أنه أنتج معارك كبرى أميركية ? يابانية، أي غير أوروبية. وما هي الولاياتالمتحدة، التي تعتبر الطرف الرئيس في الحرب المحتملة القادمة، تضفي عليها طابعا عالميا بامتياز ليس فقط لأنها تربطها بحربها العالمية على الإرهاب، ولكن أيضا لأنها تهدف إلى دمج الشرق الأوسط في النظام العالمي الذي مازالت تنفرد بقمته وتسعى إلى تقويض القوى التي تناهض مشروعها لشرق أوسط كبير أو جديد كما أن ثمة قوى كبرى أخرى في العالم معنية بالصراع على الشرق الأوسط، والذي قد تحسمه هذه الحرب إذا نشبت، وخصوصا روسيا التي تداعب قيادتها أحلام استعادة المجد"الامبراطوري"السوفياتي عبر مناكفة الولاياتالمتحدة سياسيا واستراتيجيا. وليس ثمة مكان أكثر ملائمة لهذه المناكفة من منطقة الشرق الأوسط التي قد يتحدد مصير المشروع الأميركي للانفراد بقيادة العالم فيها. وليست مصادفة، إذن، أن يزداد التسليح الروسي لسورية كما ويرتقي نوعا خلال العامين الأخيرين تحديدا، أي منذ أن تأكد اتجاه واشنطن إلى محاصرتها وانتزاع الورقة اللبنانية من بين يديها بهدف إضعاف محور التشدد أو الممانعة بوجه عام، وليس فقط من أجل مصلحة إسرائيل. ولذلك، كان طبيعيا أن يرتبط تدفق السلاح من موسكو إلى دمشق بارتفاع فى مستوى التوتر بين روسيا وإسرائيل، على نحو يعيد إلى الأذهان تحالفات مرحلة الحرب الباردة الدولية، ولكن فى صورة جديدة قد تكون ضمن مقدمات حرب ساخنة، وليست باردة، تتراكم طبقة فوق الأخرى. ومما هو جديد في تحالفات اليوم، فضلا عن اختلاف السياق العام دوليا وإقليميا، انتقال إيران إلى التحالف المناهض للسياسة الأميركية، والذي يحظى بدعم من روسيا التي تراهن على هذا التحالف من دون أن تصطف معه أو تقود التيار العالمي الذي ينضوي تحت لوائه، بخلاف الدور الذي لعبه الاتحاد السوفياتي السابق. ويضفي الدعم الروسي لتحالف الممانعة في الشرق الأوسط طابعا عالميا على الصراع الذي قد يفجر حربا كبرى، بالرغم من كل الفروق بين سياسة موسكو الراهنة وما كانت عليه في العصر السوفياتي. ولا يقلل من أهمية هذا الدعم وجود خلاف بين موسكووطهران في شأن شروط استكمال مفاعل بوشهر النووي. فهذا خلاف تفصيلي وليس مبدئيا. كما أن موسكو حريصة على وضع سقف له. ففضلا عن أهمية إيران، باعتبارها"رأس حربة"ضد المشروع الأميركي، تسعى موسكو إلى جمع أكبر عدد ممكن من الأوراق في جوارها الجغرافي والاستراتيجي، ضمن صراعها المفتوح ضد واشنطن على النفوذ في وسط آسيا. ولإيران أهمية خاصة في ذلك بسبب ارتباط أحد أهم جوانب هذا الصراع في وسط آسيا بالصراع على الشرق الأوسط، الأمر الذي يضفي على الأخير بعدا عالميا آخر. ويأتي سعي طهران الآن إلى إحياء العلاقة التاريخية والثقافية التي تربطها بمنطقة القوقاز في إطار محاولاتها الحد من التغلغل الأميركي في هذه المنطقة ربما لا يصح نسيان أن الشيعة يمثلون نحو 70 في المائة من سكان أذربيجان مثلا. وليست آسيا الوسطى فقط هي التي تحاول إيران التحرك فيها لمناوئة النفوذ الأميركي. على نحو يصب ضمنيا ًفي مصلحة روسيا. فهي تفعل ذلك أيضا في أميركا الجنوبية مستفيدة من ازدياد السخط على سياسة إدارة بوش. فقد أبرمت إيران عددا من الاتفاقات المهمة مع بعض الدول التي يحكمها زعماء شعبويون ويساريون على الطراز القديم في فنزويلا وأكوادور ونيكاراغوا وكوبا، بل امتد تحركها إلى دول يحكمها يسار ديموقراطي جديد مثل البرازيل. لكن يظل ارتباط منطقة آسيا الوسطى بالصراع في الشرق الأوسط والحرب التي قد تنتج عنه أقوى وأعمق، لأنها قد تكون جزءا من مسرح عمليات هذه الحرب إذا نشبت، إذ يرجح أن تعتمد الولاياتالمتحدة على قواعدها العسكرية فيها بسبب صعوبة تصور ضرب إيران انطلاقا من القواعد الأميركية في بعض دول الخليج العربية. ويعني ذلك أن مسرح العمليات في هذه الحرب لن يقتصر على الشرق الأوسط، الأمر الذي يعزز فكرة أنها ستكون حربا عالمية وليست إقليمية. صحيح أن مسرح العمليات خارج الشرق الأوسط ثانويا. ولكن كانت هذه هي أيضا حال مسارح العمليات خارج أوروبا في حربي النصف الأول من القرن العشرين. وقد تستغل"القاعدة"نشوب الحرب لتنفيذ عمليات - ربما يجري الإعداد لها الآن ? في مناطق مختلفة خارج الشرق الأوسط أيضا. وسيكون هذا، إذا حدث، جديدا تماما لأنه يعني حربا عالمية بين ثلاثة أطراف يصعب حدوث تحالف أو حتى تعاون بين أي اثنين منها. لذلك كله، قد لا يكون كافيا أن ننشغل بالسؤال عما إذا كنا إزاء مقدمات حرب عالمية يشعلها الصراع على الشرق الأوسط، وإنما عن ملامح هذه الحرب وسبل تجنبها.