بات الملف النووي الإيراني الآن القضية الأولى التي تشغل صناع القرار والباحثين ووسائل الإعلام"على رغم ظهور الصراعات وتفاقمها في غير منطقة من العالم. وعلى رغم إعلان كوريا الشمالية نفسها دولة نووية عبر تفجيرها النووي المفاجئ، فإن هذه الحقيقة لم تجعل الملف النووي الإيراني يتراجع من جدارة المشهدين الإقليمي والدولي. ذلك أن انضمام كوريا الشمالية إلى النادي النووي لا يؤثر بصورة انقلابية على التوازنات الدولية الأساسية، إذ إن بحر الصين الذي تطل عليه كوريا الشمالية يظل بحيرة إقليمية تتنازع على السيادة فيها قوتان رئيستان هما الصين واليابان، وبالتالي تبقى الظاهرة الكورية محكومة بالتنافس بين هذين القطبين العالميين وتوازنات القوى الإقليمية في هذه البقعة من العالم. وعلى رغم عدم امتلاك إيران القدرات النووية العسكرية وتخلفها في هذا المضمار بسنوات عن كوريا الشمالية، ما زال الانشغال الغربي عموماً والأميركي تحديداً بملف إيران النووي، في أوج قوته. ويعود ذلك الاهتمام الدولي غير المنقطع بإيران وملفها النووي إلى موقعها الجيو - استراتيجي وواجهتها الطويلة على الخليج العربي، الشريان البحري الأهم لنقل الطاقة في العالم"إذ تمر عبره حوالى 40 في المئة من واردات العالم من الطاقة، وبهذا المعنى تمثل إيران وطموحها النووي - على العكس من كوريا الشمالية -"ظاهرة دولية"بامتياز. تتخوف عواصم القرار الدولي من طموح إيران النووي، لأن بلوغ طهران مرحلة امتلاك القدرات العسكرية النووية سيفيض عن حدود إيران السياسية ويدشن مرحلة جديدة في تاريخ الشرق الأوسط والعالم. وفي هذه الحالة ستتغير موازين القوى في منطقتنا في صورة جدية، كما ستتغير أيضاً التوازنات الداخلية للنظام السياسي الإيراني بما يعزز من اندفاعه في اتجاه جواره الإقليمي الذي يشكل - بحكم منطق الأمور والمصالح - جواراً عالمياً. وللمفارقة يستطيع النظام الدولي بقيادته الحالية أن يحتمل وجود تسعة أعضاء في النادي النووي أميركا، روسيا، فرنسا، إنكلترا، الصين، إسرائيل، الهند، باكستانوكوريا الشمالية ولا يحتمل وجود عضو عاشر خصوصاً لو كان هذا العضو هو إيران، كما يمكن لهذا النظام أن يحتمل وجود خمسة أعضاء آسيويين من أصل تسعة ولا يحتمل وجود عضو آسيوي سادس. وتختلف القدرات النووية الإيرانية - إذا تحققت - عن مثيلاتها لدى الدول النووية الأخرى - باستثناء أميركا وروسيا -، لأنها ستكون قدرات نووية مدعومة بتأثير عميق على موازين القوى الدولية بسبب تحكمها في الطاقة. ولئن كانت التكنولوجيا والقدرة العسكرية والسيطرة على منابع المواد الأولية والأسواق الدولية، وما زالت، هي المحددات المبدئية لصعود وهبوط القوى العظمى، على ما أكد الكاتب الأميركي بول كينيدي، فإن إيران ستتمكن في حال امتلاكها القدرات النووية من التأثير بشدة في مؤشرات هذا الصعود والهبوط. أدخلت القدرات النووية منذ استعمالها عند نهاية الحرب العالمية الثانية التاريخ العسكري للإنسانية، إلى مرحلته الثالثة والأخيرة. وحين تشكلت مرحلته الأولى من العصور القديمة وحتى بداية العصور الحديثة، كان هناك عاملان محددان لجهة القدرة على الانتصار في الحروب هما: عدد السكان والتكنولوجيا. ومثلت أوروبا المثال الأوضح على هذه المرحلة، فهي احتلت العالم بفضل كثافتها السكانية النسبية وقتها والمترافقة مع تقدم تكنولوجي عسكري. أما المرحلة الثانية من التاريخ العسكري فقد ظهرت مع تدشين الثورة الصناعية، ومن وقتها أصبحت الحروب محكومة أساساً بصراع القوى الاقتصادية للأطراف المتحاربة وقدرتها على التنظيم. ولكن مع بدء المرحلة الثالثة للتاريخ العسكري أصبحت الصراعات محكومة بسؤال أساسي هو: هل الأطراف المتحاربة أعضاء في النادي النووي أم لا؟ فمنذ الحرب العالمية الثانية لم يحدث أن انفجرت صراعات عسكرية بين أطراف نووية، أو خسر طرف نووي معركة عسكرية ضد طرف غير نووي. وهذه الحقيقة بالتحديد هي التي يمكن أن تدفع بعض أجنحة النظام الإيراني إلى محاولة الانضمام للنادي النووي، الذي تضمن العضوية فيه ردعاً لا يبارى أمام التهديدات العسكرية من القوى الدولية وخصوصاً الولاياتالمتحدة الأميركية. وفي المرحلة الثالثة الحالية من التاريخ العسكري، تغير مفهوم الحرب الذي صاغه الاستراتيجي الأشهر كارل فون كلاوزفيتز من أن"الحرب هي عمل عنيف لإجبار الخصم على التسليم لإرادتنا"إلى مفهوم صراع الارادات النووية"التي لا تستخدم الطاقات الصناعية والمالية فقط، على دورها الحاسم في المعارك، بل أيضاً الصور النمطية والرموز القيمية. وإذا دُمج صراع الارادات النووية بصراع هويات حضارية تختزل في طياتها هذه الصور وتلك الرموز، ساعتها سيكون الخليط المتولد مشكلاً خطورة توازي - من المنظور الغربي - ما مثله الاتحاد السوفياتي السابق للغرب. وتبلغ الكفاية التفسيرية لهذا المثال ذروتها في مثال روسيا، التي تملك اليوم رؤوساً نووية مساوية في العدد والقدرة التدميرية لما امتلكه الاتحاد السوفياتي السابق إبان الحرب الباردة، ولكن الغرب لا يخشى روسيا الآن مثلما تخوف من الاتحاد السوفياتي السابق. ومرد ذلك أن الأيديولوجيا التي سيطرت على تلك الأدوات النووية ووقفت خلف الترسانة النووية السوفياتية أي الشيوعية قد ماتت. ولكن"الأيديولوجيا الجهادية"التي تتبناها بعض أجنحة النظام الإيراني تؤرق الغرب من امكان وصول إيران لامتلاك السلاح النووي، لأن صراع الإرادات بين إيران"النووية افتراضاً"والغرب وعلى رأسه الولاياتالمتحدة الأميركية، لن يكون فحسب صراعاً على مواطن القوة والنفوذ السياسي والاقتصادي - كما هو منطق الأمور -، بل أيضاً صراعاً بين الغرب وحضارته من ناحية والشرق الإسلامي وحضارته من ناحية أخرى، على ما يقضي المنطق المتشابه بين الرئيسين الأميركي بوش والإيراني نجاد. وبعطف هذه الأيديولوجيا وتلك القدرات النووية على إطلالة إيران الجيو-سياسية، ستكون إيران في وضع القوة الإقليمية العظمى، التي تستبعد من حسابات المخاطر امكان مهاجمتها عسكرياً. وبإضافة غطاء الردع النووي إلى أدواتها الإقليمية، التي أثبتت خلال السنوات القليلة الماضية حضوراً لافتاً في فراغ عرمرم خال من أذرع سياسية مكافئة، ومن ثم كلاهما إلى التوليفة النووية - الجهادية - الجغرافية المشار إليها لأصبحت المخاوف الغربية في أوجها. استطاعت إيران - ومن دون غطاء نووي- الاستفادة من حرب بوش على الإرهاب حتى صارت الرابح الأول من تلك الحرب، كما طورت طهران وضعية تحالفاتها الإقليمية بشكل زحزح بالتدريج وباضطراد"الخطوط الحمر"التي وضعتها واشنطن. ويمكن رؤية هذه الخطوط وهي تتزحزح بملاحظة تمددها الإقليمي غرباً، والذي بدأ من نقطة الحدود الإيرانية - العراقية في عام 2003 حتى وصل إلى جنوبلبنان وقطاع غزة في عام 2006. فما هو الحال مع قدرات طهران الردعية أمام واشنطن وهي تستظل بالسقف النووي؟ ستنفتح مروحة التحالفات الإقليمية والدولية أمام إيران تحت السقف النووي المفترض، إذ وقتها لن يقتصر التمدد الجغرافي غرباً فقط، بل سيمتد إلى تقاسم للنفوذ مع روسيا في منطقة آسيا الوسطى شمالاً وصولاً إلى فرض حضور مهيمن، بكل معاني وأسباب القوة، في الخليج العربي جنوباً. على هذه الخلفية ستجعل إيران النووية -افتراضاً - الخريطة الحالية للسياسة العالمية أمراً من الماضي، إذ سترجح طهران كفة أحد المحاور الدولية الناشئة إيران - باكستان - الصين أو إيران - الهند - موسكو مع ترجيح أن يتحقق المحور الأول لخليط من الأسباب البنيوية والعقائدية والنفطية. باختصار ستكون إيران طرفاً أساسياً في المحاور الدولية في القرن الحادي والعشرين، وبما يجعل حضورها الدولي أشبه بحضور الهند التي تتميز سكانياً واقتصادياً على إيران، بينما تفتقر أمامها في الوقت عينه إلى مزايا الإطلالة المباشرة على شريان الطاقة الأهم في العالم. لن تقتصر التأثيرات المحتملة لإيران"النووية"على الأبعاد الإقليمية والدولية فقط، إذ قبل ذلك ستتغير التركيبة السياسية -الاجتماعية للسلطة هناك بفعل القدرات النووية، فلا تبقى التحالفات الداخلية للنظام الإيراني على حالها. ومن شأن امتلاك إيران للقدرات النووية أن يؤدي الى تكوّن لوبي نووي على غرار اللوبي الباكستاني واللوبي الهندي، ولما كانت طبيعة الأول محض عسكرية وكان جوهر الثاني مدنياً تكنولوجياً، فالأرجح أن يميل اللوبي الإيراني إلى النموذج الباكستاني وليس الهندي"نظراً لتشابه ميكانيزمات المؤسسة العسكرية الباكستانية مع الحرس الثوري الإيراني. وهذا اللوبي النووي الإيراني سيكون انعكاساً لصعود الحرس الثوري إلى واجهة السلطة في طهران، فالحرس مؤسسة عسكرية نافذة تملك قوات بحرية وجوية وبرية. وفضلاً عن ذلك تتصرف مؤسسة الحرس الثوري الإيراني في موازنة مالية ضخمة، وتتعهد بالابتكارات العسكرية الإيرانية، وهي الحاضنة الرئيسية لأنظمة إيران من الصواريخ الباليستية، ناهيك أنها الجهة العسكرية الرئيسية التي تبرم اتفاقات المشتريات العسكرية والتسليحية لإيران. كان الحرس الثوري وما زال مجسداً لطموح النظام الإيراني في بناء جيشه الأيديولوجي الخاص، على غرار الجيش الصيني الثوري والجيش السوفياتي الأحمر، في مقابل عدم ثقة النظام في الجيش الإيراني النظامي الذي والى الشاه قبل أكثر من ربع قرن. يؤدي ظهور اللوبي النووي في إيران إلى تبدل الحصص في هيكل النظام الإيراني، الذي ما زال حتى الآن مجسداً لتحالف سياسي - اقتصادي بين مؤسسة رجال الدين كطرف أول والبازار والبورجوازية التجارية الإيرانية كطرف ثان. وعلى قمة هذا التحالف يتربع مرشد الثورة السيد علي خامنئي، الذي يمتلك الى الصلاحيات الدستورية الواسعة أيضاً، أداة رئيسية للإمساك بمقاليد الحكم وهي الأذرع العسكرية للنظام ممثلة في الحرس الثوري والجيش النظامي والمتطوعين. ونشوء اللوبي المذكور سيغير من الوضعية الحالية للتشكيلات العسكرية المتنافرة باتجاه مؤسسة عسكرية موحدة خلف الحرس الثوري وذائبة فيه ومطبوعة بطابعه. ومن شأن هذا التبدل أن يرتقي منتقلاً إلى بناء النظام الفوقي لتغيير قسماته، قبل أن يستدير منحدراً إلى بنيته التحتية مستقطعاً بذلك، لأول مرة منذ قيام الثورة الإيرانية عام 1979، جزءاً من حصة البازار والبورجوازية التجارية في النظام. ووفقاً لهذا التطور لن يعود المرشد حاكماً أوحد لإيران بوصفه رأس المؤسسة الدينية المحافظة المتحالفة مع البازار في حين تكون المؤسسة العسكرية إحدى أدواته، بل ربما تسير الأمور في إيران باتجاه حكم ثلاثي الأبعاد بين مؤسسة رجال الدين والبازار والمؤسسة العسكرية. لذلك ربما يعاني المشهد الإيراني، الآن، خلف الكواليس، من مخاض مرحلة انتقالية بين أيديولوجيتين، ينتقل النظام الإيراني بموجبها - في حال امتلاكه القدرات النووية العسكرية - من أيديولوجيا"تديين المجتمع"ومرتكز شرعيتها انتصار الثورة الإسلامية، إلى أيديولوجيا"عسكرة المجتمع"وأساس وجودها... امتلاك القنبلة النووية.