على مدى العقد الماضي، اي منذ انتهاء الحرب الباردة بانهيار سور برلين في خريف العام 1989، ثم تفكك الاتحاد السوفياتي في مطلع العام 1991، يتعرض "الشرق الاوسط"، المنطقة ومفهومها الجغرافي - السياسي على حد سواء الى ظواهر جديدة كثيرها غير ظاهر ومعظمها غير محسوس. انما من شأنها ان تكون بعيدة الاثر على العلاقات بين دول المنطقة وعلى العلاقات بينها وبين بقية العالم. في ما يخص "مفهوم" الشرق الاوسط نجده يتعرض لظاهرتين يمكن ان توجزهما كلمتا: التوسع والفيض. اما التوسع فقد اصبحت المنطقة الجغرافية - السياسية قابلة لان تشمل الدول المحيطة ببحر قزوين: كازاخستان وتركمانستان واذربيجان، بل وجورجيا، على رغم نسبها الى اوروبا وايضاً بعض اقاليم الاتحاد الروسي وجمهورياته: شيشينيا وداغستان وتتارستان، خصوصاً وان ما بين هذه البلدان والاقاليم وبين خواص "الشرق الاوسط" كما نعرف او كما كنا نعرفه الكثر من اوجه القرابة، ففي ماضي بعيد، لكن ما زال له استمرار يحول بينه وبين ان يكون سحيقاً، امتد اليها ببساطة الدولة الاسلامية، واعتنق اغلب سكانها باستثناء جورجيا الاسلام. ولقد اندرج كثير من الاقاليم "الروسية" ضد روسيا القيصرية بعد طوال تنازع عليها مع الدولة الفارسية او مع الدولة العثمانية التركية. فاذا كان لكل من تركياوايران شرعية الاندراج الطبيعي والتاريخي ضمن الشرق الاوسط فان الاسلام واللغتين الفارسية والتركية - اللغتين الاصليتين لمعظم سكان تلك البلدان والاقاليم تنشئ لها حقاً في الاندراج ضمن المنطقة. واما الفيض، فقد فاض منذ زمن ذلك المفهوم الجيوبوليتيكي للشرق الاوسط على كل من افغانستانوايران، ان لم يكن بحكم الاسلام، فبحكم التجاور والتداخل والتنازع مع ايران، وهو، عبر هذا العقد الذي يوشك على الانقضاء - يفيض عبر تركيا محمولاً على جناح الاسلام الى ما يجري في البلقان: البوسنة - الهرسك وكوسوفو وألبانيا. اما العلاقات بين دول المنطقة فالمستجد فيها، نزاعات او تحالفات، هو التداخل والتراكيب. ولا يقتصر تبدّي هذا المستجد على كون الصراع العربي - الاسرائيلي لم يعد هو "ازمة الشرق الاوسط" او مشكلته بالتعريف، فقد اصبح واضحاً ان هذا الصراع هو واحد من مشاكل المنطقة وازماتها الناشبة منها والكامنة، من دون ان يقلل هذا من مركزية هذا الصراع او محوريته. فمن نماذج المشكلات الناشبة في المنطقة، لا تقل المشكلة الكردية عن الصراع العربي - الاسرائيلي استعصاء على المعالجة - ناهيك عن الحل، وعلى رغم اختلافها عنه في جميع العناصر تقريباً، الا انها لا تقل عنه خطراً على استقرار المنطقة، فهي - في بعهدها الاخير - كفيلة بأن تهدد وحدة اراضي ثلاث من دول المنطقة: ايرانوالعراقوتركيا، مع آثار قد تلحق بسورية التي ليس للاكراد دعاوى اقليمية على اراضيها. ويكتسب هذا التهديد لوحدة اراضي تلك الدول الثلاث مغزى خاصاً اذا وضعنا في الاعتبار ان ثلاثتها تشكل "الحزام الشمالي" لمنطقة الشرق الاوسط حسب ما استقر تعريفها الجغرافي منذ القرن الثامن عشر، وهو حزام التمايز بين الشرق الاوسط وكل من وسط آسيا وروسيا وجنوب شرقي اوروبا. ومن شأن هذا التهديد ان تحقق عن طريق "حل الحد الاقصى" للمشكلة الكردية اي اقامة كردستان دولة قومية متكاملة الاراضي، ان يؤكد لايران على فارسيتها فيجعلها تتطلع الى "اقاليم مفقودة" في الجوار، المتحدثين بالفارسية في افغانستان او استعادة ما كانت روسيا القيصرية قد اقتطعته من اذربيجان او ان تشجع النموذج الكردي - ان تحقق - الآذريين على السعي الى تكامل الوطن القومي مستقلاً عن ايران. كما ان من شأنه افقار العراق باقتطاع اغنى مناطقه بالنفط، وقد يشجع على تقسيمه او تفتيته. وبالتأكيد ان من شأنه التقليل من قيمة تركيا. اما نموذج المشاكل الكامنة فهو التنازع بين الرابطة القومية الاقليمية في تشكيل علاقات دول المنطقة ضمن مؤسسات تعاهدية وتعاونية بدافع التطلع او الاستجابة للضرورة. وعلى خلاف الانطباع التلقائي لا يقتصر هذا التنازع على ما بين منظومة قومية عربية تضم اغلب دول المنطقة - الجامعة العربية، وبين منظومة اقليمية اشمل فثمة تنازعات اخرى في هذا المجال حتى وان بدت ثانوية او كان موقعها على الاطراف، بدأ ظهورها مع توسع التعريف الجغرافي بعد تفكك الاتحاد السوفياتي فتركيا تسعى حثيثاً الى اقامة علاقاتها مع اخلاف الاتحاد السوفياتي في منطقة القوقاز على قاعدة من "التركوية" بينما تتطلع ايران الى رابطة علاقات على أسس فارسية قومية كما على أسس عقيدية مذهبية. ولانه لا يوجد تنازع لا مفر منه - من حي المبدأ - ما بين المنظومات القومية والمنظومات الاقليمية، فقد جاز للبعض تصور ان تقوم منظومة قومية عربية، ومنظومة قومية تركية، ومنظومة قومية فارسية ضمن منظومة اقليمية شاملة تجمعها. لكن وجود اسرائيل في المنطقة هو مصدر التعقيد، خصوصاً مع الحاح الدولة اليهودية على "الاقليمية" ووضعها موضع التنافي مع القومية، وربما زاد الامر تعقيداً تصورها انها مؤهلة لقيادة منظومة اقليمية وربما الهيمنة عليها، او توجس العرب ومعهم ايران من هذا المنحى وقد ادى هذا الى تنازع لا مفر منه بين منطق المنظومة القومية ومنطق المنظومة الاقليمية خصوصاً ان اي منظومة تجمع دولاً في نطاق اقليم متصل، تكتسب بعداً امنياً بالضرورة، بينما العرب ليسوا وحدهم الذين يعتبرون اسرائيل مصدر خطر عليهم وتهديداً لأمنهم او لاستقلال ارادتهم، اذ تشاركهم ايران تلك المخاوف منذ ثورتها الاسلامية، كما يعتبر المسلمون عامة - ابناء الديانة الغالبة في الاقليم - ان اسرائيل قد ألحقت بمقدساتهم وبأبناء دينهم مظالم ومهانات. كما ان اسرائيل من الناحية الاخرى، تعتبر العرب خطراً على وجودها حتى بعد ما قطع من شوط على طريق السلام بينها وبينهم. وقد اكتسب هذا التنازع بين فكرة المنظومة القومية والمنظومة الاقليمية بعداً جديداً ومهماً بقيام تحالف عسكري او ما يقاربه، بين اسرائيل وتركيا، لم يقتصر اثره على زيادة حدة ما هو معتمل من مخاوف، انما تعداه الى اثارة مخاوف جديدة، واحياء توجسات من عداوات قديمة كان قد بدأ ان التاريخ قد أهال عليها الترابي: توجسات العرب من اختراق اسرائيلي من نوع جديد لدرع امنهم القومي على هشاشته يتمثل في السعي الحثيث الى ضم الاردن الى الحلف التركي - الاسرائيلي، وتوجسات العرب من تركيا، وتوجس اليونان من ان تنتقل جرثومة العدوانية الاسرائيلية الى العسكرية التركية، وتخوفات ايران من ان تتحول تركيا الى معبر سهل للتسلل الاسرائيلي اليها. وقد ادت هذه العوامل الى تلك الظاهرة التي سبقت اليها الاشارة: التداخل والتراكب بين نزاعات المنطقة، فتركيا - مثلاً التي تحبذ تقليدياً ضعف العراق حتى ايام ان كان يجمعهما حلف بغداد، فانها مع استبقاء هذا الموقف التقليدي، اصبحت تخشى ضعف العراق لما فيه من قوة للاكراد. وتركيا واليونان اللتان يجمعهما الحلف الاطلسي، اصبح يفرقهما ليس فقط نزاعهما السيادة على مياه بحر ايجه وبعض جزره وصراعهما حول قبرص انما اضيف الى هذه - وتلك تحالف الامر الواقع المحاط بمعاهدات التعاون العسكري والتدريبات المشتركة بين تركيا واسرائيل، وهو ما قد يدفع اليونان او سورية الى التطلع الى صيغة من التقارب - ان لم يكن التعاون العسكري بينهما، لا تتفق مع ارتباط اليونان بالحلف الاطلسي. على جهة اخرى في شرق الشرق الاوسط، سنجد ايران تتوجس من استقرار سلط طالبان في افغانستان، ومن تحول افغانستان الى جزء من المجال الامني الباكستاني. وفي قطاع آخر من هذه الجهة تصادفنا عقدة بحر قزوين التي لم يكن لها في السابق وجود يذكر، فقد كان ذلك البحر الى عهد قريب - اوائل هذا العقد - بحراً داخلياً بين ايران والاتحاد السوفياتي، لكنه تحول الآن الى واحدة من بؤر الصراع الجيوبوليتيكي بين الولاياتالمتحدة الاميركية وروسيا على تركة الاتحاد السوفياتي السابق، وامتداداً لهذا الصراع او تفريعاً عنه، اصبح بحر قزوين ايضاً بؤرة التنافس التركي - الايراني في القوقاز، واستطراداً - آسيا الوسطى فالولاياتالمتحدةوتركيا تفضلان ربط دول القوقاز التي استقلت حديثاً عن الامبراطورية الروسية مع تركيا، ليس فقط لاكمال تصفية ارتباط تلك البلدان مع روسيا، وانما لتعزيز المركز الاقليمي لتركيا ولإحكام عزل ايران، وتنفق روسيا في عصر واحد من هذا المركّب - هو الحيلولة دون ارتباط هذه الدول بايران، لكنها في الوقت نفسه تعتبر ارتباط هذه الدول مع تركيا اعتداء على مجال نفوذها الاقليمي الذي تعتبره مجالها الحيوي منذ القرن التاسع عشر. يصعب وضع تصور واضح لما يمكن ان تؤدي اليه هذه التغييرات التي حلّت بوضع الشرق الاوسط في العالم وبالنسبة الى العالم وبعلاقاته الداخلية البينية. انما، مع ذلك، يمكن تصور ان يكون هذا الشرق الاوسط بمفهومه الاوسع، بعد التوسع والفيض، مسرحاً لحرب باردة من نوع جديد، بين طرفيها القديمين: الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفياتي. او قل انها الحرب الباردة الاصلية بين الدولة القائمة على الجزء الاكبر من كتلة اليابسة اليوروآسيوية، وبين الدولة الممتدة بين المحيطين الكبيرين: الاطلسي والباسيفيكي، بينما تخترق الاراضي التابعة لها ومناطق نفوذها المحيط الهندي، ثالث اكبر المحيطات الكبرى. كما يمكن تصور ان يكون هذا الشرق الاوسط مسرحاً لنوع آخر من الحرب الباردة، هي حرب التكنولوجيا، حيث يسعى التحالف الغربي - الاطلسي الى ادامة تفوق "زبائنه" في نيران القوي عن طريق ابقاء "غير المأمون" من دول المنطقة في منأى عن التقدم التكنولوجي بذريعة احتمال استخدام التكنولوجيا لاغراض عسكرية تهدد الاستقرار، وهي "التجربة" الجارية مع العراق والى حدّ ما مع ايران، هذا النوع من الحرب الباردة كفيل بأن تتورط فيه دول اخرى قد لا تنصاع لما هو مفروض من قيود على الدول "غير المأمونة". كما يمكن تصور ان يزداد ميل التحالف الغربي -الاطلسي الى التدخل العسكري في شؤون المنطقة بدعاوى تمتد من "منع انتشار اسلحة الدمار الشامل" الى احتياط قوى الارهاب الى ضرب مصادر المخدرات. * كاتب مصري.