استطاعت دوائر القرار الايراني توجيه رسالة شعبية قوية الى الرئىس الاميركي جورج دبليو بوش، مفادها ان طهران لا تسعى الى الانسياق وراء التصعيد العسكري لكنها باتت على استعداد كامل لمواجهة كل الاحتمالات إثر التهديدات الاميركية، وهذا الاستعداد تجسد في نقاط عدة من ابرزها، حال التحشيد والتعبئة الشعبية التي تجسدت في التظاهرات الضخمة في الذكرى السنوية الثالثة والعشرين لانتصار الثورة الاسلامية عام 1979، وحال استحضار الرد العسكري الذي "لا تتصوره اسرائىل ولا الولاياتالمتحدة الأميركية في حال مهاجمة ايران"، وفقاً لما ذكره المرشد آية الله علي خامنئي ووزير الدفاع الأميرال علي شمخاني. هناك قناعة اميركية ان اسباب ارتفاع حدة الضغط الاميركي وبلوغه مرحلة التهديد لا يتعلق بالعلاقة المزعومة بين الاوساط الايرانية وتنظيم "القاعدة" وحركة "طالبان" او امكان حصول عمليات تسلل لتلك العناصر الى ايران واتخاذها كمأوى للهروب من الهجمات الاميركية، بل ان هذه الاتهامات ليست سوى ذريعة يلجأ اليها البيت الابيض لتبرير تصعيد حملته السياسية. وفي قناعة الرئىس خاتمي فإن السياسية الايرانية الرافضة الدوران في الفلك الاميركي، تختصر كل تلك الاسباب، وخصوصاً ما يتعلق بملف الشرق الاوسط والقضية الفلسطينية. ومن هنا جاء اتهام خاتمي ووزارة الخارجية للوبي الصهيوني المؤثر في الولاياتالمتحدة، بالوقوف وراء تشجيع الادارة الاميركية وحثها على التلويح بخيار القوة ضد ايران. ويجمع المحللون للموقف الايراني تجاه القضية الافغانية، على القول بأن طهران تعاونت في شكل كبير ومؤثر مع الحملة الاميركية ضد "طالبان" وتنظيم "القاعدة" وهو اسهم في عدم غوص الاميركيين في المستنقع الافغاني، وظهرت اوجه هذا التعاون في غض النظر عن تعاون تحالف الشمال الافغاني - المدعوم ايرانياً - مع القوات الاميركية والدفع بقوات التحالف الى دخول العاصمة الافغانية كابول، إضافة الى قيام السلطات الايرانية باغلاق حدودها الطويلة مع افغانستان منعاً لهروب "طالبان" و"القاعدة" اليها. وأسهم الموقف الايراني الداعم لجهود الأممالمتحدة في التوصل الى اتفاق بون، وتشكيل الحكومة الموقتة برئاسة حميد كارزاي. وجاءت عملية اغلاق مكاتب زعيم الحزب الاسلامي قلب الدين حكمتيار في ايران، بمثابة خطوة ايرانية جديدة لدعم حكومة كارزاي اذ ان حكمتيار وجه في الآونة الاخيرة سيلاً من الانتقادات للحكومة الموقتة في افغانستان، وهدد ببدء القتال ضد الوجود العسكري الاجنبي وخصوصاً الاميركي في افغانستان. وشكلت هذه الخطوة الايرانية ما يشبه الرسالة الموجهة الى الادارة الاميركية ايضاً، اذ تظهر عزم طهران على ازالة العقبات من امام عمل حكومة كارزاي، في ظل اتهام واشنطنلطهران بوضع العراقيل امام تلك الحكومة. وترى اوساط القرار الايراني ان الاتهام لها بدعم "طالبان" او "القاعدة" هو اتهام غير مقنع لأحد، اذ ان طهران تقف على نقيض سياسي وأيديولوجي مع الفصيلين، وكانت أول من احترقت اصابعها بنارهما في افغانستان منذ سنوات عدة سبقت احداث 11 ايلول سبتمبر 2001، وخصوصاً حين قامت "طالبان" بقتل الديبلوماسيين لدى دخولها القنصلية الايرانية في مزار شريف قبل سنوات. وكانت بعض الاوساط في ايران وصفت اسامة بن لادن بأنه وزير دفاع "طالبان". وبناء على هذه الرؤية ترى اوساط القرار الايراني العليا ان الضغط الاميركي عبر افغانستان، يستهدف الموقف الايراني المعارض للسياسة الاميركية في ساحتين اساسيتين هما الخليج والشرق الاوسط وفلسطين تحديداً وآسيا الوسطى والقوقاز. اذ ان الرئىس الاميركي يعمل على ما بدأه والده بوش الأب في صوغ "نظام عالمي جديد" احادي القطب يتمحور حول الولاياتالمتحدة. استيعاب ايران للحملة الأميركية وتبدو الاوساط الايرانية مستغرقة في سياسة استيعاب الحملة الاميركية ضدها في ظل سياسة المحدلة التي تتبعها واشنطن ويلخصها الرئىس بوش بتصنيف العالم الى معسكرين لا ثالث لهما، هما "معسكر الولاياتالمتحدة ومعسكر الارهاب ومن ليس معنا فهو ضدنا ومع الارهاب". ولا تريد طهران الانسياق وراء لهجة التصعيد الاميركية لادراكها ان عدوها الذي تصفه بالشيطان الاكبر، ما زال جريحاً بفعل هجمات ايلول على نيويوركوواشنطن ولذلك تركز دوائر القرار على اتباع اسلوب العقلانية السياسية وسياسة سحب الذرائع من ايدي الادارة الاميركية. ومن هنا تأتي الاجراءات الايرانية في شأن الملف الافغاني منسجمة مع هذه السياسة، عبر تشديد المراقبة على الحدود لمنع تسلل "طالبان" و"القاعدة"، وعبر دعم حكومة كارزاي، وتسهيل مهمة القوات الدولية في افغانستان، والسماح لضباط وطيارين اوروبيين باستخدام الاراضي الايرانية في طريقهم الى افغانستان وهو ما عاينته الحياة في مدينة مشهد مركز محافظة خراسان الحدودية، حيث شاهدت اعداداً من تلك القوات في عدد من الفنادق الايرانية وهم يتوجهون تباعاً الى افغانستان. ويمكن القول ان واشنطن تستطيع ابقاء ايران في دائرة الضغط وتحييدها عن عرقلة السياسة الاميركية على الساحة الافغانية وحتى في دول آسيا الوسطى والقوقاز. كما يمكن تحييدها عن عرقلة الخطط الاميركية تجاه العراق عبر استمرار سياسة الضغط تلك، ويساعدها على ذلك ان طهران لم تقطف حتى الآن ثمرات دسمة، من تقاربها مع بغداد ما عدا التطور الحاصل في ملف الاسرى والمفقودين وهو تطور لا يرقى الى الطموح الايراني. ومن هنا يمكن القول ان الموقف الايراني تجاه اي ضربة عسكرية اميركية محتملة على العراق سيتراوح بين خطين، هما الرفض السياسي التام لمثل هذه الضربة واتخاذ موقف مماثل لما اتخذته ايران في حرب الخليج الثانية اي موقف الحياد. ويبدو ان احد الاسباب ايضاً وراً التصعيد الاميركي الاخير، ظهور بوادر في حصول تقارب ايراني - عراقي فاعل بعد الزيارة التي قام بها الى طهران وزير الخارجية العراقي ناجي صبري نهاية الشهر الماضي، في ظل مخاوف اميركية من حدوث تعاون بين طهرانوبغداد ودمشق وبيروت، بامكانه اثارة صداع سياسي للادارة الاميركية. ومن الواضح ان واشنطن تريد عكس ذلك من طهران اذ علمت "الحياة" ان الادارة الاميركية تريد قيام ايران بحث المعارضة العراقية الاسلامية المدعومة منها، على التعاون مع اي حملة عسكرية اميركية ضد العراق، وتكرار النموذج الافغاني اي تولي الاميركيين العمليات الجوية وتولي المعارضة العراقية الهجمات البرية. ويبدو ان هذا الطلب قوبل برفض مبدئي وظهر هذا الرفض عبر موقف لرئيس المجلس الأعلى للثورة الاسلامية في العراق محمد باقر الحكيم، الذي اوضح ل"الحياة" ان "التصور الاميركي في شأن العراق غير واضح بالنسبة للمعارضة العراقية، حيث لم يفصح الاميركيون عن تصورهم". عقدة القضية الفلسطينية اما الملف الأكثر تعقيداً في الصراع الايراني - الاميركي، فهو ملف الشرق الاوسط والقضية الفلسطينية ودعم ايران خيار المقاومة والانتفاضة ضد الاحتلال الاسرائىلي. ويمكن القول ان التضاد بين الموقفين يصل الى حد المواجهة. وهذا التناقض هو في بديهيات الموقفين، اذ ان واشنطن تضع دعم اسرائىل على رأس اولوياتها حتى ولو كان رئيس الوزراء الاسرائىلي، رجلاً ملاحقاً بتهمة القيام بجرائم حرب امام احدى المحاكم البلجيكية هو آرييل شارون. أما ايران فتعتبر ان دعم القضية الفلسطينية هو جزء من هويتها الاسلامية، وتكليفها الديني قبل ان يكون ضرورة سياسية وأمنية تفرضها طبيعة العداء القائم بين ايران واسرائىل منذ قيام الثورة الاسلامية وقطع النفوذ الاسرائىلي والعلاقات الديبلوماسية واقامة سفارة فلسطين في طهران في مكان سفارة اسرائىل. كذلك تجمع اوساط القرار الايراني من محافظين واصلاحيين على ان المساس ب"حزب الله" اللبناني هو خط احمر غير مسموح تجاوزه، خصوصاً وان "حزب الله" قاد المقاومة التي اجبرت اسرائىل على الانسحاب من جنوبلبنان من دون قيد او شرط، وشكل نصره اللبناني نصراً لسياسة ايران الاقليمية الرافضة لمفاوضات التسوية مع اسرائىل. ويذكر ان الرئىس خاتمي خلال اصراره على الموقف الايراني الداعم للقضية الفلسطينية والمقاومة ضد اسرائىل، استحضر شعاراً ثورياً يتجاوز منطقة الشرق الاوسط وهو دعم "المظلومين ضد الظالمين والمستكبرين في كل انحاء العالم". النظرة الى الارهاب يركز خاتمي، ومعه المسؤولون الايرانيون، على اتباع سياسة الهجوم كأفضل وسيلة للدفاع بوجه الادارة الاميركية وهذا ما ظهر في مواقفه بذكرى الثورة حين اتهم واشنطن "برعاية ودعم الارهاب الحكومي الاسرائىلي ضد شعب اعزل هو الشعب الفلسطيني". وتشكل النظرة الى مفهوم الارهاب احد المعضلات بين طهرانوواشنطن، وهي معضلة ومحل اختلال بين غالبية دول العالم الاسلامي والادارة الاميركية، المصرة على دعم اسرائىل على رغم كل مجازرها ضد شعوب المنطقة منذ قيام الدولة العبرية عام 1948. سيناريوات المواجهة ويرجح ان تتوصل واشنطنوطهران الى ما يشبه الهدنة غير المعلنة في شأن ملفي العراقي وأفغانستان، لكن المواجهة ستظل محتدمة حول الملف الفلسطيني - الشرق أوسطي خصوصاً ان اسرائىل ما انفكت تردد بأن ايران تشكل تهديداً لها على رغم الاستبعاد المبدئي لأي مواجهة عسكرية بين ايرانوالولاياتالمتحدة فإن دوائر صنع القرار الايراني لا تُغفل اياً من الاحتمالات بما فيها المواجهة العسكرية. ويجمع المراقبون لتطور الاحداث على ان واشنطن وتل أبيب لن تتركا اي فرصة سانحة لضرب القوة العسكرية الايرانية، والحؤول دون اكمال ايران وروسيا بناء المفاعل النووي في بوشهر جنوبايران حتى وان كان للأغراض السلمية البحتة ويخضع باستمرار لمراقبة الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وتبدو ايران مصممة فعلياً على الرد العسكري القوي في حال تعرضها لأي هجوم وان كان محدوداً، ويأخذ المراقبون على محمل الجد التحذير الذي اطلقه المرشد خامنئي بأن رد ايران "سيجعل الاميركيين يندمون، وسيكون صاعقاً". ورسمت تصريحات المسؤولين الايرانيين احتمالات عدة لطبيعة هذا الرد، اذ لوح كل من رئىس مجلس تشخيص مصلحة النظام هاشمي رفسنجاني ووزير الدفاع الأميرال علي شمخاني باستخدام القوة الصاروخية الايرانية اذ ان صواريخ "شهاب 3" قادرة على الوصول الى اسرائىل، كما انها قادرة على ضرب القوات الاميركية في الدائرة المحيطة بها. ولوح رفسنجاني ايضاً بسلاح النفط وحذر بأن سعر البرميل الواحد قد يتجاوز الخمسين دولاراً. ولكن التحذير الأبرز الذي تم نفيه من جانب الاوساط الديبلوماسية وليس العسكرية الايرانية، فهو منع تصدير النفط من المنطقة اذا ما توقف النفط الايراني حسبما نُقل عن نائب القائد العام للحرس الثوري اللواء محمد باقر ذو القدر وهذا التحذير قد يعني ضرب المنشآت ويجر الى ازمة طاقة في العالم. ولوحت اوساط المحافظين بخيار العمليات الانتحارية ضد القوات الاميركية واسرائىل، وهذا خيار غير مستبعد ابداً في ظل وجود ايديولوجية دينية لدى خمسة ملايين متطوع في قوات الحرس "البسيج" تحث على الاستشهاد حسبما قال حسين شريعتمداري احد الوجوه البارزة في التيار المحافظ. ويعطي الموقع الجيوسياسي لايران في الخليج وآسيا الوسطى والقوقاز وعلى حدود افغانستانوالعراق، هامشاً كبيراً امام الرد الايراني المحتمل في ظل الوجود الاميركي العسكري في المنطقة. ويدخل في الحسبان ايضاً عامل آخر هو الرد المحتمل من جانب حلفاء ايران في المنطقة وخصوصاً "حزب الله" اللبناني وهو ما تدركه اسرائىل اكثر من الادارة الاميركية ذاتها. وعلى رغم اجواء التصعيد تبدو المواجهة العسكرية الاميركية - الاسرائىلية مع ايران مستبعدة، كونها تشكل خطراً على المنطقة كلها، وهي مغامرة لا تقبلها الدول الجارة لايران في ظل التطور المتسارع في العلاقات الايرانية - الخليجية، ولا تقبلها ايضاً الدول الاوروبية صاحبة المصالح الاقتصادية المهمة مع ايران في ظل محاولات واشنطن الاستئثار بالمكاسب الاقتصادية في الخليج والمنطقة عموماً. الخاسر الأكبر وفي ظل التصعيد الاميركي ضد ايران، تلقت دعوات الحوار بين واشنطنوطهران، ضربة كاسحة قد لا تتعافى منها لسنوات طويلة، اذ ان وصف الرئيس بوش لايران بأنها احد محاور الشر، كان بمثابة ضربة الى كبرياء الشخصية الايرانية بحد ذاتها، وهو ما أدى الى توحيد مواقف المحافظين والاصلاحيين بوجه الادارة الاميركية، وأدى أيضاً الى وضع الخلافات الداخلية جانباً في ظل القاعدة المعروفة في ايران والقائلة بتوحد الايرانيين داخلياً امام اي تهديد خارجي. وتجمع اوساط المحافظين والاصلاحيين على ان الكرة اصبحت الآن في الملعب الاميركي.