على رغم الإجحاف الواضح الذي لحق به من جانب لجنة التحكيم الدولية حقق الشريط الذي أنجزه المخرج التونسي عبداللطيف قشّيش "الكسكسي والسمكة" - الفرنسي الإنتاج وعنوانه الإنكليزي"سر القمح"- نجاحاً كبيراً في الدورة الرابعة والستين لمهرجان فينيسيا السينمائي الدولي، فبعد أن كان مرشّحاً لإحدى أهم الجوائز في المهرجان، أي"الأسد الذهبي"لأفضل فيلم أو"الأسد الفضي"لأفضل مخرج، جَبَرَت لجنة التحكيم الدولية خاطره ب"جائزة لجنة التحكيم الخاصة"التي مُنحت إليه مناصفة مع المخرج تود هاينس عن فيلم"أنا لست هناك". شريط قشّيش احتل منذ عرضه مقدم الترشيحات الأساسية ومنحته استقصاءات الرأي التي كانت تُجريها نشرة"تشاك"اليومية المُتابعة للمهرجان، أعلى عدد من النُجيمات الحمر للنقاد والزرق للجنة مُختارة من الجمهور، ووصف الملحق الثقافي الإسبوعي لجريدة"إل سولي 24"الاقتصادية الرصينة الفيلم بأنه"إبداع للقدرة على قصّ اليومي". وعلى رغم أننا نأخذ على قشّيش الطول غير المبرر لكلمته التي نفّس بها عن غضبه أثناء تسلّمّه الجائزة ورفضه حضور المؤتمر الصحافي الختامي للفائزين، فإننا نُدرك أسباب ذلك الغضب. قد يحتاج عبداللطيف قشّيش أن يجتاز مرحلة طراوة العود خصوصاً أنه دخل، منذ عمله الأول"الذنب كلّه على فولتير"وعمله الثاني"حكايات الحب والحظ"، دائرة المبدعين الأوروبيين المهمّين، وعليه أن يُدرك أن من يدخل سباقاً عليه أن يقبل بالنتائج وأن الحيف في القرارات أمر ممكن، وأن النتائج التي تعلنها لجان التحكيم الدولية ليست إلاّ رأي أعضاء اللجنة، وعلى رغم أهمية أعضاء لجنة التحكيم الدولية التي حكّمت مسابقة المهرجان فإن رأيهم في خاتمة المطاف ليس إلاّ رأي سبعة أشخاص، وما هو مهم وجوهري لشريطه الجميل هو أنه حاز على إعجاب الغالبية العظمى من النقاد والمتفرجين الذين شاهدوه وخصصوا له ما يربو على عشرين دقيقة من التصفيق المتواصل في حفلة عرضه الرسمية في الصالة الكبرى في المهرجان. بكاء ودموع فرح وكما كنّا توقّعنا في"الحياة"منذ اللحظة الأولى لعرض قشّيش والمهرجان لمّا يزل في بدايته مُنحت الممثلة الشابة التونسية الأصل حفصية حيرزي"جائزة مارتشيللو ماسترويانّي لأفضل ممثل شاب". حيرزي، التي نالت الجائزة عن استحقاق لم تتمكّن إلا من نطق جملة"أشكرك.. أشكرك عبدول عبداللطيف لأنك منحتني هذه الفرصة..."وانفجرت في بكاء ودموع فرح نتيجة وجودها في تلك اللحظة على خشبة أهم وأعرق مهرجان سينمائي في العالم وهي تتسلم الجائزة التي تحمل اسم أحد كبار نجوم السينما في العالم. حفصية حيرزي تمكّنت من السيطرة على انفعالاتها خلال المؤتمر الصحافي وعبّرت عن فرحتها بالفوز وتحدّثت عن"الكم الهائل من التضحيات التي قمت بها لتحقيق أدائي"، وعندما سُئلت عن المشاريع الأخرى أجابت بصدقية كبيرة"ما زلت دائخة ممّا حدث هذا المساء وربما سأفكّر في المستقبل في وقت لاحق". الجائزتان اللتان كان عبدالطيف قشّيش مرشّحاً قوياً لإحداهما، أي"الأسد الذهبي لأفضل مخرج"وپ"الأسد الذهبي لأفضل فيلم"، ذهبتا إلى برايان دي بالما وإلى التايواني آنغ لي دي بالما، الذي تناول في فيلمه المثير للجدل"مُنقّح"بسطحية مقلقة، ملف الحرب الأميركية في العراق، اعتبرته لجنة التحكيم الدولية برئاسة المخرج الصيني زانغ ييمو أفضل مخرج في المهرجان. ونال التايواني آنغ لي"جائزة الأسد الذهبي لأفضل عمل"عن شريطه" نزق، وحذر". وهذه هي المرة الثانية خلال عامين يحصل فيهما أنج لي على هذه الجائزة الكبرى، فقد كان نالها في الدورة الثانية والستين عن شريطه"جبل بروكباك". وإذا كان قسم كبير من النقاد قد استقبل الجائزة إلى برايان دي بالما بقدر من الاستغراب فقد نال الإعلان عن الأسد الذهبي لأفضل عمل إلى آنغ لي صفيراً واحتجاجاً كبيرين. ولم يكن برايان دي بالما أو عمل آنغ لي الأكثر استحقاقاً، ذلك لأن المسابقة ضمت أعمالاً ومخرجين كثراً كانوا يستحقون الجائزتين أكثر منهما، وتكفي الإشارة إلى الكندي بول هاغّيس الذي أنجز عمله الرائع"في وادي إيلاه"وبول أندرسون الذي أنجز عمله الممتع"رحلة إلى دارجيلنغ" وكين لوتش الذي أنجز عمله المهم والجميل"إنه عالم حر"والذي لم تُنصفه لجنة التحكيم الدولية إلاّ بجائزة السيناريو التي مُنحت إلى بول لافيرتي كاتب سيناريوهات غالبية أفلام لوتش. وقال عضو لجنة التحكيم المخرج التركي فيرزان أوزبيتيك"لم يكن القرار سهلاً، فقد احتجنا إلى تسع ساعات من النقاش للتوصّل إلى هذه القرارات"، أمّا عن إغفال شريط الكندي بول هاغّيس فقد أعرب عدد من أعضاء اللجنة عن"الأسف لكن لم يكن بإمكاننا منح الجوائز للجميع"في حين قال المخرج الإيطالي إيمانويلي كرياليزي"لقد أحببنا كثيراً فيلم"رحلة إلى دارجيلينغ"لبول آندرسون، إلاّ أنه لم يدخل، للأسف الشديد ضمن قائمة الفائزين". يُذكر أن إيمانويلي كرياليزي مُنح في العام الماضي أسداً فضياً خاصاً عن فيلمه الجميل"العالم الجديد"بعد أن كان مرشّحاً قوياً وعن جدارة للفوز بالأسد الذهبي الذي ذهب كالعادة خلال الدورات الأربعة التي أدارها ماركو موللر إلى مخرج صيني أو من جنوب شرقي آسيا. وإذا كانت لجنة التحكيم الخاصة تمكّنت من مراوغة عبداللطيف قشّيش، فإنها لم تتمكن من فعل الشيء ذاته مع فيلم 12، العمل الجميل الذي أنجزه المخرج الروسي نيكيتا ميخالكوف ، ولكي لا تمسّ جائزتي برايان دي بالما وآنغ لي فقد استنبطت اللجنة جائزة خاصة سمتها بپ"جائزة الذهبي الخاص لمجمل العمل". أعطتها للممثلين ال12 في فيلم ميخالكوف. أما جائزة أفضل تمثيل رجالي فنالها النجم الهوليوودي براد بيت عن دوره في فيلم"مقتل جيسّي جيمس على يد الجبان روبيرت فورد"من إخراج آندرو دومينيك. وعلى رغم أهمية براد بيت فإن أداءه في الفيلم لم يكن بمستوى يجعله يستحق الجائزة في الوقت الذي حفل المهرجان بأدوار مهمة من بينها الدور الذي لعبه النجم الهوليوودي تومّي لي جونس في شريط"في وادي إيلاه"للكندي بول هاغّيس والثلاثي الممتع أوين ويلسن وأدريان برودي وبيل مارّي في شريط بول آندرسون"دارجيلينغ ليميتيد"والتونسي حبيب بوفارس الذي لعب دور البطولة للمرة الأولى على الشاشة في شريط عبداللطيف قشّيش"الكسكسي والسمكة". رئيس لجنة التحكيم الدولية زانغ ييمو برر قرار منح الجائزة إلى براد بيت بالقول:"هذا هو تميّز وجمال السينما وهو أن لكل مشاهد ذوقه وجمالياته الخاصة. لقد أردنا أن نُثمّن في براد بيت تحدّيه الذي أطلقه تجاه نفسه ونُثّمن فيه رغبته في تغيير صورته والبحث الذي أنجزه على الشخصية التي أداها" جوائز وتصفيق وفي إمكاننا أن نتخيّل أن عضو اللجنة المخرج المكسيكي أليخاندرو غونزاليس إيناريتو لعب دوراً كبيراً في منح هذه الجائزة إلى بيت الذي كان أدى معه دور البطولة في شريطه الأخير"بابل". وفيما كانت الجائزة إلى براد بيت مثيرة للجدل فقد جاء منح جائزة كأس فولبي"لأفضل ممثلة إلى النجمة"كيت بلانشيت"عن دورها في فيلم"أنا لم أكن هناك"لتود هاينس مستحقة. جائزة أفضل تصوير مُنحت إلى رودريغو برييتو مدير التصوير في فيلم"نزق، وحذر"للتايواني آنغ لي. وحيّت القاعة وقوفاً وبتصفيق متواصل لدقائق طويلة المخرج الإيطالي الكبير بيرناردو بيرتولوتشي الذي منحه المهرجان جائزة"الأسد الذهبي الإحتفالي بعيد الميلاد الخامس والسبعين للمهرجان". بيرتولوتشي صعد على المسرح مستنداً على عكّازة متحركة يستعين بها منذ فشل جراحة أجريت له في مفاصل العمود الفقري. ولم يُخف المخرج مشاعر الانفعال وهو يتسلّم الجائزة وقال:"إنه فرح كبير ليس لأهمية الجائزة فحسب، بل لأن هذه الجائزة تربط اسمي بتاريخ السينما الذي يشكّل مهرجان فينيسيا أحد أهم فصوله...". وكانت جائزة"حقوق الإنسان"، وهي جائزة تشمل مسابقتها جميع الأفلام المعروضة في المهرجان، مُنحت في اليوم السابق لختام المهرجان إلى شريط المخرج اللبناني فيليب عرقتنجي"تحت القصف"والذي عُرض ضمن برنامج"أيام المخرجين في البندقية". شريط عرقتنجي لم يكن مُدرجاً ضمن أي من المسابقات الرسمية وكان عُرض على مدير المهرجان ماركو موللر، قبل اختياره من قبل برنامج"أيام المخرجين"الذي أصبح، على رغم طراوة عوده وهو في عامه الرابع، محطة مهمة للغاية مماثلة لبرنامج"نصف شهر المخرجين"في مهرجان كان السينمائي الدولي.