انتهت الدورة الثالثة والستون لمهرجان البندقية السينمائي الدولي بانتصار الفيلم الصيني"حياة جامدة"للمخرج جيا جانغ - كي مع أن هذا العمل الذي حمل جائزة الأسد الذهبي لهذه الدورة لم يشاهده إلاّ عدد ضئيل من النقاد الذين حضروا المهرجان. مدير المهرجان ماركو موللر، وكعادته منذ كان مديراً لمهرجان لوكارنو السينمائي الدولي، اعتاد على أن يحمل إلى مهرجانه فيلماً يقدّمه في اللحظة الأخيرة، من دون أن يعرف عنه أحد أي شيء. في دورة العام 2004 فاز التايواني كيم كاي دوك بجائزة الأسد الذهبي عن فيلمه المفاجأة "حديد 3"، وفيما أخفق الياباني المخضرم تاكيشي كيتانو في إقناع أعضاء لجنة التحكيم الدولية بفيلمه"تاكيشيّات"فإن الصيني جيا جانغ - كي حمل الأسد الذهبي، المكرّر عن أسد فينيسيا التقليدي المصبوب في الصين، وعاد به إلى بلاده الأصلية، أي إلى الصين. هذه النتائج المتكررة تجعل المرء يسأل عن الميّزة التي يمتلكها ماركو موللر في إنجاز هذه الاختيارات: فهل تكمن قدرته في اختيار هذه الأفلام التي يُعجب بها أعضاء لجان التحكيم الدولية أم في اختياره لأعضاء لجنة التحكيم الدولية الذين يُعجبون بذلك النوع من الأفلام التي يضعها عادة ضمن خانة المفاجأة وهي أفلام آسيوية في الغالب. أياً تكن قدرة موللر فإن الحصيلة النهائية تُسجّل لمصلحته في كون ما اعتبره هو اختياره الشخصي بدا الأفضل بمعايير لجان التحكيم الدولية. فراق ولقاء فيلم"حياة جامدة"يروي قصة زوجين افترقا قبل ست عشرة سنة. يلتقيان بالصدفة بينما يتجهان إلى قريتهما الآيلة للغرق. بعد لقائهما المُصادفة يقرران المكوث ليلاً قبيل الوصول إلى تلك القرية ليرتاحا من وهن الرحلة الشاقة. يُشعل الليل ذكرياتهما السابقة، يرقصان معاً لكنهما يقرران، بحزن كبير، أن لا إمكان لعودتهما الى الحياة مع بعضهما من جديد. يقول المخرج جانغ - كي"دخلت مرة إلى غرفة شبه مهجورة ووجدت فيها عدداً من الأشياء القديمة المغطاة بالغبار الكثيف. إزاء ذلك المشهد اكتشفت مغزى"الحياة الجامدة"وأسرارها. الأثاث القديم وأدوات الكتابة على الطاولة، القناني المرصوفة على الرفوف. والنقوش المرسومة على الجدران التي امتلكت هيئة شاعرية حزينة ولّدت لي أحساساً بحيوية تلك"الحياة الجامدة". فپ"الحياة الجامدة" تمثّل واقعاً هجرناه وأهملناه. وبعيداً من الرد الذي يمكن أن يُستنبط من السؤال الافتراضي حول مسألة"الفيلم المفاجأة"فإن فيلم"حياة جامدة"،"حاز إعجاب لجنة التحكيم ومنحناه الجائزة بالإجماع"كما قالت رئيسة لجنة التحكيم الدولية النجمة الفرنسية كاترين دونوف في المؤتمر الصحافي النهائي بعد توزيع الجوائز السبت الماضي. وعبثاً حاول عدد من الصحافيين فتح ملف العدد القليل من المتفرجين لذلك الفيلم مع دونوف التي أصرّت على حبها، ولجنتها لهذا الفيلم مشدّدة على"انك عندما تكون في الصالة أمام فيلم جميل تنسى تماماً أين أنت في تلك اللحظة وتنسى من يجلس إلى جوارك ناهيك عن عدم اهتمامك بعدد المشاهدين الذين يقاسمونك المشاهدة. الفيلم الجميل يبقى جميلاً حتى لو أنك شاهدته لوحدك في الصالة". رينيه خسر في المربع الأخير منح جائزة الأسد الذهبي لفيلم"الحياة الجامدة"حجب عن معلم السينما الأوروبية آلان رينيه إمكان الفوز بها بعد أن تسيّد لأيام طويلة من المهرجان على قمة الترشيحات وحقق فيلمه الأخير"مخاوف خصوصاً في أماكن عامة"نجاحاً كبيراً على صعيد النقد والجمهور. وهو فيلم أدت بطولته نخبة من نجوم السينما الفرنسية من بينهم سابين آزيما، أندريه دوسيلييه وبيير آرديتي، إلى جانب النجمة الإيطالية المبدعة لاورا مورانتي. لجنة التحكيم الدولية منحت آلان رينيه جائزة الأسد الفضيّ كأفضل مخرج. وإذا كان الممثل الأميركي بن آفليك قد اقتنص جائزة كأس فولبي لأفضل ممثل فإنه لم يكن بالتأكيد الأقدر في هذه الدورة من المهرجان، لكنه مُنح هذه الجائزة"كجبر لخاطر"السينما الأميركية التي ما كان لها أن تخرج من المهرجان من دون جائزة أساسية. وكان في الإمكان منح هذه الجائزة إلى الإيطالي سيرجو كاستيلّيتو عن دوره في بطولة فيلم"النجمة المفقودة"للإيطالي جاني آميليو أو إلى زميله فينتشينزو آماتو عن بطولته في فيلم"الأبواب الذهبية"للمخرج المتميّز إيمانويل كرياليزي الذي اخترعت له لجنة التحكيم الدولية جائزة خاصة هي"الأسد الذهبي للمخرج الاكتشاف". كرياليزي ليس اكتشافاً بالمعنى الحقيقي للكلمة فهو أنجز فيلمه الثالث واعتبُر فيلمه السابق"شهقة"من بطولة الحسناء فاليريا غولينو أحد أهم الأفلام الأوروبية في عام 2004، فقد اعتُبرت هذه الجائزة شهادة بجمال الفيلم الذي كان يستحق أن يعود من البندقية بإحدى الجوائز. وبما أن اللجنة كانت قد منحت الجائزتين الأساسيتين، أي الأسد الذهبي وجائزة أفضل مخرج إلى كل من الصيني جانغ - كي والفرنسي آلان رينيه، فقد استنبطت لكرياليزي هذه الجائزة. كرياليزي نفسه أعرب عن فرحه بالجائزة مشيراً إلى أن"ما هو مؤكد أن فيلمي أعجب لجنة التحكيم إلى الدرجة التي اخترعت جائزة خاصة لي". وإذا كان التنافس على"كأس فولبي"لأفضل ممثل شديداً، فإن المنافسة على"كأس فولبي"لأفضل ممثلة حُسم في اليوم الثاني من المهرجان. فبينما لم يكن المهرجان قد عرض إلاّ ثلاثاً من أفلام المسابقة الرسمية الپ22 فإن هذه الجائزة ذهبت إلى النجمة السينمائية والمسرحية البريطانية هيلين ميرّين التي أدت دور الملكة إليزابيث الثانية في فيلم"الملك"من إخراج البريطاني ستيفن فريرس. الحالة نفسها بالنسبة الى النجمة الفرنسية الشابة إيسيلد لي بيسكو التي مُنحت جائزة"مارتشيللو ماسترويانّي للطاقة الشابة"عن دورها في فيلم"المعصومون"للفرنسي بينوا جاكو. منح هذه الجائزة للشابة لي بيسكو كان متوقعاً لعدم توفّر منافسة أخرى على تلك الجائزة. أما جائزة لجنة التحكيم الخاصة فمُنحت، عن جدارة، إلى فيلم"سنوات الجفاف"للمخرج التشادي محمد صالح هارون. الفيلم يتحدث عن ضرورة التصالح واستحالة نسيان الجرائم التي ارتُكبت ضد الشعوب والبشر في ظل الأنظمة القمعية. وعلى رغم مفردة الجفاف في عنوان هذا الفيلم فقد أصبحت جعبة المخرج كمزهرية مملوءة بالجوائز في المهرجان. فإلى جانب الجائزة الرسمية المهمة التي حصل عليها عن استحقاق، فاز الفيلم بثلاث جوائز فرعية إضافة إلى إشادتين مُسجّلتين. للعرب جائزة ونصف على رغم غياب السينما العربية عن المسابقة الرسمية فقد حقق التواجد العربي في هذه الدورة من المهرجان حضوراً لا بأس به، فإلى جانب عضوية المخرج المصري يسري نصرالله في لجنة التحكيم الخاصة بجائزة الأسد الفضي لبرنامج آفاق، وعضوية كاتب هذه السطور في لجنة تحكيم أسبوع النقاد، فقد حققت الأفلام العربية الثلاثة التي عُرضت ضمن البرامج الجانبية نجاحاً كبيراً. وكان فيلم"روما ولا انتوما"للجزائري الشاب طارق تيغيا على مرمى حجر من الفوز بجائزة آفاق التي مُنحت إلى الصيني ليو جيي. رئيس هذه اللجنة فيليب غرونينغ أعلن في المؤتمر الصحافي الختامي أن"هذا الفيلم وفيلم طارق تيغيا نالا الاهتمام الأكبر والنقاش الأطول في اجتماع لجنتنا. وبما أننا منحنا الجائزة إلى الفيلم الصيني فإننا منحنا إشادة خاصة لفيلم طارق تيغيا"وهي إشادة أكثر من مُستحقة. جائزة"اتحاد الوثائقيين الإيطاليين"مُنحت إلى فيلم"أنا التي تحمل الزهور إلى قبرها"للثنائي السوري هالة عبدالله وعمّار البيك. الجائزة تسجّل نقلة للسينما السورية وهي تُسجّل باسم هذا الفيلم أول جائزة تُمنح للسينما السورية في أول مشاركة لها في هذا المهرجان العريق. مخرجا الفيلم أعربا عن فرحتهما بهذه الجائزة وكونها جاءت من"اتحاد الوثائقيين الإيطاليين"وأعربا عن أساهما إزاء تجاهل الصحافة العربية والسورية بالتحديد لهذه المشاركة. أما المشاركة العربية الثالثة، والتي حظيت باهتمام نقدي عال فكانت لفيلم المغربي الشاب فوزي بن سعيدي"يا لهذا العالم البديع"الذي عُرض ضمن برنامج"أيام المخرجين في فينيسيا".