عشرات الأسود الزرقاء بلون مياه البحر تنعقد أذنابها وتتلاقى شفاهها على أرضية خضراء كالعشب لتُشكّل"موتيفاً"من تنويعات حرير شرقي قادم من الصين، بالضبط كالأسد القادم من الصين يعلو على منصّته مزهواً بأصله الشرقي وبمسكنه الفينيسي مطلاً على الپ"لاغونا"مراقباً مرور السفن، مرحباً بالداخلة إلى المدينة العائمة"البندقية"ومحيياً الخارجة منها وهي تواجه اليم الواسع. هكذا أراد ماركو موللر أن يختم سنواته الأربع في إدارة أعرق مهرجان سينمائي عالمي مقرراً تغيير الصورة التي اعتمدها في السنين الثلاثة الماضية والتي صوّرت اسم المهرجان منعكساً على صفحة مياه البحر بألوان الشفق والأصيل والليل. قد يفهم هذا التغيير على أنه وداع وقد يوحي إلى جديد قادم. لا أنباء عن تعيين مدير جديد أو تغيير في الإدارة، فالمهرجان يحتفل بميلاده الخامس والسبعين ولد في آب/ أغسطس 1932 ويستعد لإطلاق الدورة الرابعة والستين. لا وقت، إذاً، للحديث عن التفصيلات البيروقراطية فالعرس لا يزال في بدايات استعداداته والمحتفلون لا يفكرون بالغد بل بپ"الآن". وپ"الآن"الذي حمله ماركو موللر إلى منهاجه كبير. فالأسماء، على الورق، تمثّل كبار السينما في المرحلة الراهنة وفي ماضيها القريب، وإذا ما كان المهرجان عانى في العام الماضي من مزاحمة شقيق وليد، أي "مهرجان روما"، وقاسى من المقارنة ما بين موازنته المتواضعة وموازنة الوليد الجديد والتي جاوزت الضعف ونصف من موازنة"البندقية"وبلغت ما يربو على 10 ملايين يورو، فإن ماركو موللر استخدم في هذه السنة لدورة الاحتفال بالميلاد براعة متسابقي"الفورمولا 1"والذين يزاحمون خصومهم ويستغلون زاوية استدارة لمنعطف حاد ليتجاوزوا إلى الأمام وليتسيّدوا المضمار. ويبدو أن تلك الزاوية تكمن في أن منظمي"روما"استرخوا أمام النجاح الهائل الذي حققوه في دورتهم الأولى العام الماضي واطمأنوا بأن"كل الطرق تؤدي إلى روما"وبأن الكبار قادمون لا محالة فأتاحوا لماركو موللر التجاوز في المنعطف. منظمو"مهرجان روما"، الذين لم يكشفوا بعد عن أوراق لعبتهم التي ستنطلق في منتصف تشرين الأول أكتوبر المقبل، واجهوا منهاج ماركو موللر بالتأكيد بقدر غير قليل من القلق فقد"قَشَطَ"موللر ما في الصحن"السينمائي"حتى الآن واستفاد من سوق"كان"ومن علاقاته الواسعة وصاغ برنامجاً مهماً، من أهم ميزّاته أنه لم يُغرقه باختيارات من جنوب شرقي آسيا وأقنع الانتاجات الأميركية والأوروبية على المراهنة على الپ"لاغونا"وپ"الليدو"وليس على"الكولوزيوم". رئيس مؤسسة"بيينالة دي فينيسيا"التي يقام المهرجان ضمن فعالياتها ديفيد كروف شدد على غنى تجربة التعاون التي نشأت بينه وبين مدير المهرجان ماركو موللر. وقال:"عندما كلّفت ماركو موللر بإدارة المهرجان قبل أربعة أعوام طلبت منه أن يُعدّ لأجمل مهرجان سينمائي في العالم وقد فعل ذلك. وبإمكاني التأكيد بأن الدورة الحالية التي أعدها هي الأجمل على الإطلاق وتتناسب مع عيد الميلاد الخامس والسبعين لأعرق وأول مهرجان سينمائي في العالم". واعتبر ديفيد كروف"الترشيحات الپ51 للأوسكار التي حصلت عليها الأفلام التي عرضناها في السنوات الثلاث الأخيرة دليلاً واضحاً على الأهمية الإبداعية لاختيارات ماركو موللر". شاهدنا 4585 شريطاً وإذا ما كانت الأرقام دالّة على شيء ما فإن ما أعلنه ماركو موللر من عدد الأشرطة التي شاهدها برفقة مساعديه رقم مذهل للغاية. 4585 شريطاً من بينها 3122 شريطاً روائياً قدمت من 70 بلداً، تمكّن بعد شهور من المشاهدة من اختيار 57 شريطاً روائياً تمثل انتاجاتها 29 بلداً وضمّن برنامج المسابقة الرسمية 22 شريطاً، وپ22 شريطاً ضمن برنامج"آفاق"وسيعرض 13 شريطاً خارج المسابقة الرسمية. ولا يُستبعد أن يعود هذه السنة أيضاً إلى عادته المزمنة في الإعلان عن"فيلم مفاجأة"أبقاه سراً في جعبته وهو ما يشكّل في غالب الأحيان مفاجأته التي تُقنع النقد والمحكمّين كما حدث في دورة العام الماضي حيث فاز الفيلم المفاجأة"طبيعة ميتة"للمخرج الصيني جيا جانغكي بجائزة الأسد الذهبي"وكسر مقولة بعد الأفلام الفائزة في المهرجانات عن الجمهور الواسع". وشدد ماركو موللر"فهذا الفيلم حقق مدخولاً مالياً كبيراً في العالم بأسره، ويكفي أن نعلم أنه حقق في فرنسا وحدها مليوناً ونصف المليون يورو، وهو رقم عال بالنسبة لفيلم قادم من جنوب شرقي آسيا". لحفل الافتتاح اختار ماركو موللر شريط"تكفير"لجو رايت من بطولة كيرا نايتلي بانتظار بيكهام وفانيسّا ريدغريف وجيمس ماك آفوي. وهو مقتبس من رواية بالعنوان نفسه للكاتب إيان ماك إيوان. وتضمّن البرنامج الذي أعلنه ماركو موللر أسماء مخرجين كبار في الخريطة السينمائية العالمية ومن بينهم المخرج العربي الكبير يوسف شاهين الذي سيعرض المهرجان ضمن المسابقة الرسمية جهده الأخير"هيَّ فوضى". إضافة إلى شريط يوسف شاهين يتضمّن برنامج المسابقة الرسمية أسماء مخرجين كبار إلى جانب مخرجين شباب اعتبر ماركو موللر أنهم"طاقات ستتحدث عنها السينما وجمهورها في وقت قريب للغاية، فمن ضمّناهم برامج المهرجان من الشباب موهوبون حقاً". ومن بين المخرجين الذين سيعرضون أعمالهم في المسابقة الرسمية الأميركي برايان دي بالما والبريطانيان بيتير غرينواي وكين لوتش وكينيث براناه والروسي نيكيتا ميخالكوف. ومن بين الشباب الإيطاليان فينتشينسو مارّا وباولو فرانكي. ويشارك في المسابقة الرسمية أيضاً التونسي الأصل عبداللطيف قشّيش"بفيلم"البذرة والبغل"وهو شريط فرنسي من إنتاج فرنسي ومن بطولة ممثلين مغاربيين. العراق موضوعاً والعربيات محكّمات وإذا كان من المبكّر الآن، وقبل مشاهدة الأفلام المختارة، الحديث عن مسارات وخيوط للاختيارات فإن بإمكاننا التأكيد أن العراق، بوضعه المأسوي الحالي، سيعود مجدداً موضوعاً يتناوله عدد من الأعمال المعروضة في المهرجان. يفعل ذلك مخرجان من القارة الأميركية إذ يترك الأميركي برايان دي بالما شوقه للغموض ولأفلام التحقيق النفسي والبوليسي ليستعيد واحداً من همومه السابقة، أي"التورّط الأميركي في الحروب"فكما فعل في عام 1989 مع شريط"ضحايا الحرب"يعود دي بالما إلى الحديث عن التوّرط الأميركي في العراق من خلال شريطه"Redacted"وهو من بطولة كيل أونيل ودانييل ستيوارت شيرمان. أما الشريط الثاني الذي يتناول الحرب الأميركية في العراق فهو شريط" In the Vally of Elah"للمخرج الكندي بول هاغس أوسكار عن شريطه"كراش" ويتناول فيه مأساة شاب أميركي عائد إلى بلاده في إجازة من الحرب في العراق يتخلّف عن الالتحاق بمقر"عمله"فيُعتقد أنه هرب من الخدمة العسكرية إلاّ أن الأحداث تكشف أنه قُتل في ظروف وحشية ما يُغيّر مسار حياة والديه"تومّي لي جونس وسوزان ساراندون"ويحاولان بعناد الكشف عن تفاصيل الحادث وما يكمن وراء حادث القتل. يفعلان ذلك بمساعدة محققة شابة تؤديها الحسناء تشارليز ثيرون. القليلون الذين شاهدوا الشريط يؤكدون أنه سيكون من ضمن العناوين المرشحة بقوة لأكثر من أوسكار في العام المقبل. إلى جانب العراق المأسوي، والذي لا يُستبعد أن يُشار إليه في عدد آخر من الأفلام التي ستعرض في المهرجان، فإن السينمائيين العرب حاضرون في هذه الدورة بشكل معقول، فإضافة إلى مشاركة يوسف شاهين وعبداللطيف قشّيش في المسابقة الرسمية وشريط اللبناني فيليب عرقتنجي"تحت القنابل"والذي سيُعرض ضمن اختيارات"أيام المخرجين في فينيسيا"، فإن المنهاج تضمّن"برنامج تحية للفيلم المغربي القصير"ويضم 14 شريطاً قصيراً لمخرجين شباب من بينهم ياسمين قصّاري التي ستعرض شريطاً طوله سبعة دقائق. قصّاري ستكون ضمن لجنة تحكيم الأفلام القصيرة. واختار ماركو موللر تحية خاصة للمخرجة السورية هالا عبدالله يعقوب التي حاز شريطها المشترك مع عمّار البيك"أنا التي تحمل الزهور إلى قبرها..."في السنة الماضية أكثر من جائزة من بينها جائزة الوثائقيين الإيطاليين، فضمّها إلى لجنة تحكيم برنامج"آفاق"التي ستمنح"جائز آفاق"و"جائزة آفاق للوثائقي". مخرجون فحسب وفيما ستُمنح جائزة"الأسد الذهبي للحياة الفنية"إلى المبدع الأميركي تيم بيرتون، فإن"الأسد الذهبي الخاص بالذكرى الپ75"ستُمنح إلى المخرج الإيطالي الكبير بيرناردو بيرتولوتشي. أما لجنة التحكيم الدولية التي ستمنح جوائز الدورة الرابعة والستين من المهرجان فستتكون من المخرجين فحسب. هذا الحدث يتكرر للمرة الثانية في تاريخ المهرجان منذ تأسيسه وانطلاقه ليلة السادس من آب أغسطس في العام 1932. المرة الأولى التي تكونت فيها اللجنة من المخرجين فحسب كانت في العام 1982 للاحتفال بالذكرى الخمسين لانطلاق المهرجان، أما في هذه المرة فإن القرار جاء للاحتفال بالذكرى الخامسة والسبعين للمهرجان. وستضم اللجنة عدداً من أهم الأسماء السينمائية في العالم في هذه اللحظة والتي سجّل حضورها في مهرجان فينيسيا السينمائي انعطافة مهمة سواء في إبداعهم أو لتاريخ المهرجان نفسه. وتضم اللجنة الدولية مخرجتين وخمساً من المخرجين الرجال، فأما السيدتين فهما المخرجة النيوزيلندية جين كامبيون والفرنسية كاترين بريللا التي تُعد أحد أهم الأسماء السينمائية الفرنسية في الوقت الراهن وشاركت في العديد من مسابقات المهرجانات المهمة في العالم ومن بينها مشاركتها في دورة العام 2001 من مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي بفيلمها"العبور القصير". أما جين كامبيون فهي الحائزة على الأوسكار عن فيلمها"البيانو"وسجّل حضورها في دورة العام 1990 من مهرجان فينيسيا بفيلمها الجميل"ملاك يجلس إلى طاولتي"ميلاد طاقة إبداعية سينمائية متميّزة وفازت في السنة ذاتها بجائزة لجنة التحكيم الكبرى وانطلقت إلى فضاء العالمية منجزة عدداً من الأفلام التي تُعد الآن من بين الأهم في تاريخ الإنجاز السينمائي في العقدين الأخيرين من القرن الماضي ومن بين تلك الأفلام"البيانو"وپ"بورتريت السيدة الشابة"1996 و"الدخان المقدّس"1999. إلى جانب السيدتين ستضم اللجنة كلاً من المخرجين الإيطالي إيمانويلي كرياليزي الذي سجّل حضوره في السنوات الأخيرة من خلال فيلمه الجميل"شهيق"من بطولة الإيطالية المبدعة فاليريا غولينو وشريطه المتميّز"العالم الجديد"والذي ابتدعت له لجنة التحكيم الدولية في الدورة السابقة من المهرجان جائزة"الأسد الفضي"لأفضل عمل متميّز. اللجنة ستضم أيضاً المكيسكي المبدع أليخاندرو غونزاليس إينارّيتو الذي سبق أن حقق أفلامه المتميّزة"21 غرام"و"بابل"الذي فاز به بالسعفة الذهبية لمهرجان كان السينمائي الدولي في عام 2005. وتضم اللجنة أيضاً المخرج التركي الأصل وإيطالي الإنجاز فيرزان أوسبيتيك والهولندي بول فيرهوفين والصيني جانغ ييمو الذي كانت فينسييا ولا تزال أحد أهم المحطات الأساسية في إنجازه السينمائي حيث فاز بأهم جوائزها بفيلمه"إرفعوا الفوانيس الحمراء"و"حكاية كيو جو". وقررت إدارة المهرجان إناطة رئاسة اللجنة إلى جانع ييمو بالذات. وستمنح اللجنة في ليلة الختام في الثامن من أيلول سبتمبر 2007 جوائز الدورة الرابعة والستين وهي الأسد الذهبي لأفضل فيلم والأسد الفضي لأفضل مخرج وكأسي فولبي لأفضل ممثلة وأفضل ممثل وجائزة لجنة التحكيم الخاصة إضافة إلى جائزة مارتشيللو ماسترويانّي نسبة إلى النجم الإيطالي الراحل إلى أفضل طاقة شابة تبرز خلال الدورة. كما ستمنح اللجنة جائزتين إلى أفضل سيناريو وأفضل مساهمة تقنية.