طرقات متعرّجة تقودنا صعوداً الى بلدة بسوس اللبنانية الوادعة في أحضان الطبيعة، قبل الوصول الى ساحة مرصوفة بالحجارة. وفي هذه الساحة "متحف الحرير" الذي يربض على تلة تزنّرها أشجار التوت في حديقة تراثية أنشئت لتشجيع السياحة الزراعية، وهي تضم 12 نوعاً من النباتات اللبنانية المصدر والنادرة مثل: الصعتر والقصعين والخزام والمردكوش والغار، إضافة الى شجرة"النيلة"المكتشفة حديثاً، وهي شجرة خضراء يستخرج منها اللون النيلي. وفيما توزّعت المقاعد الخشبية القديمة في أرجاء الحديقة، نلحظ وجود زاوية مخصّصة لتعليم الزوار والأطفال الزراعة والعناية بالشتول. ندخل"متحف الحرير"الذي يُعنى بدودة الحرير التي كانت تشكّل في فترة ما عماد الاقتصاد اللبناني... لتتبوأ المرتبة الأولى في قائمة الصادرات اللبنانية، فهي على سبيل المثال شكّلت 62 في المئة من هذه الصادرات بين الأعوام 1870-1910، لذا"كرّمتها"الدولة اللبنانية، فأنشأت مطلع القرن المنصرم مؤسسة أطلقت عليها اسم"مكتب الحرير"، لكنه أغلق عام 1982، ولم تبذل الحكومات اللبنانية المتعاقبة أية جهود لإعادة فتحه وإنعاشه... على رغم المطالبات المتعددة من المزارعين والمعنيين. حافظت"جمعية التراث والإنماء"في بلدة بسوس على هذا البيت - المعمل. وعمل رجل الأعمال اللبناني جورج عسيلي وزوجته على إعادة ترميمه وتأهيله ليصبح متحفاً بيئياً - تراثياً يروي تاريخ صناعة الحرير المزدهرة في جبل لبنان خلال القرنين المنصرمين. الدودة تصوم... لتعطينا الحرير! تستقبلنا السيّدة منى عيسى، مسؤولة العلاقات العامة في الجمعية، تحيط بها مجموعة سيدات وفتيات يتوزعن الأدوار في المتحف الذي يقع في طابقين معقودين من الحجر الكبير. تقع الأعين فوراً على أطباق من القش المستدير سطحها مغطى بورق التوت المفروم الناعم، تسرح فوقها جماعات من دود القزّ،"فتقضمها محدثة خشيشاً ناعماً، وقدّ قسّمت بحسب عمرها، حيث تحفظ في مكان دافئ بين 22 و25 درجة مئوية وتطعم ثماني مرات في اليوم حتى تكبر وتسمن... وتتحول من بزرة الى يرقة الى دودة الى شرنقة الى زيز الى فراشة. يذكر ان الدود يخضع لأربع عمليات انسلاخ، وفي العمر الخامس يصوم صيامه الأخير، وينصرف الى حياكة شرانق الحرير أو" الفيالج"الذهبية حيث تُخنق الدودة داخل الشرنقة. وبعد غلي الشرانق في أوعية نحاسية طناجر قديمة لمدة خمس دقائق، ترفع الشرانق الى أحواض يكون ماؤها فاتراً كانت العاملات تضعن الحنّة على أصابعهن كي لا تتشققّ ويصبح الجلد أكثر قساوة، لتتلمّس بعدها العاملات الشرانق بأنامل سحرية مرهفة، بحيث يسحبن من كل شرنقة طرف خيطها، فتكرّ سبحة الخيطان الحريرية الخام وتضمّ الى بعضها وتربط بدواليب خشبية تدور لتلفّ شللاً من حرير يصار الى صبغه بألوان عدة قبل حياكته في"نول"الحياكة. وفي قاعة كبيرة من الحجر المعقود، تنتشر"الأنوال"الخشبية القديمة الى جانب"ماكينات"جلبت من الخارج في أوائل القرن الماضي، لكنها لم تفقد"النول"التقليدي رونقه. ولجعل المتحف متكاملاً، خصصّت قاعات فخمة لعرض أصناف الحرير المنتج في لبنان. كما أقيمت معارض مميّزة لإضفاء رونق متمايز على المتحف الدائم، وكلّها تتعلّق بالحرير:"معرض خيوط الذهب والحرير"ومعرض"الحرير الحي"ومعرض"حرير وألوان"ومعرض"سلاطين أنطاكيا"، كما ضم المعرض مجموعة من العباءات الإمبراطورية والثياب الزاهية المزركشة بخيوط الحرير والذهب، والمصبوغة بعصارة قرن الثور والاعشاب... والأحذية الحريرية التي كانت تستخدم لشد أرجل الفتيات كي تبقى رفيعة ودقيقة! ولا تنتهي الجولة داخل المتحف قبل الوقوف على الأرقام الآتية: نحتاج الى 110 شرانق لصنع ربطة عنق من الحرير، و630 شرنقة تقريباً لصنع قميص من الحرير، ونحتاج الى تربية 3000 دودة قزّ تأكل 65 كيلوغراماً من ورق التوت لصنع"كيمونو"ثياب يابانية من الحرير السميك، و8000 دودة قز تأكل 170 كيلوغراماً من ورق التوت تمكننا من حياكة 10 قمصان حريرية. وتحتوي الشرنقة المتوسطة الحجم على 300 أو 400 متر من خيط الحرير، علماً ان الشرنقة الأنثى تزن أكثر من الشرنقة الذكر!