بقدر ما كان تفويض البرلمان الحكومة التركية لإرسال الجيش خارج الحدود لملاحقة عناصر حزب العمال الكردستاني حدثاً انتظرته الأوساط التركية بفارغ الصبر، بقدر ما تحول ذلك التفويض الى قميص من نار ألهب صاحبه الذي أدرك انه استنفد بذلك جميع أوراقه السياسية ولم يبق أمامه سوى الحل العسكري الذي طالما رفضت حكومة"العدالة والتنمية"اللجوء إليه في مواجهة حزب العمال الكردستاني. فالضغوط التي مورست على حكومة"العدالة والتنمية"للجوء الى البرلمان لم تأت من الشارع، بل جاءت أساساً من المعارضة ووسائل الإعلام أولاً، ومن الجيش بطريق غير مباشر ثانياً. فقائد الأركان كان أول من لفت الأنظار الى خيار استهداف شمال العراق في نيسان أبريل الماضي عندما أعلن أن عملية للجيش في شمال العراق ستكون الحل الامثل والوحيد لوقف هجمات حزب العمال الكردستاني داخل تركيا، وان الجيش التركي قادر على تنفيذ تلك العملية وبنجاح، لكن الجنرال يشار بيوك انيط كان يهدف من حديثه حينها إلى الضغط على حكومة"العدالة والتنمية"قبل الانتخابات البرلمانية، لأنه يعلم ان رئيس الوزراء رجب طيب اردوغان لن يلجأ الى هذا الخيار وأنه يفضل الحوار مع اكراد العراق والتنسيق مع واشنطن. كان هدف قائد الاركان استنزاف شعبية الحزب الحاكم قبل الاستحقاق البرلماني، لكنه لم يدرك أن تصريحه هذا سيكون له الأثر البالغ وسيعود ليرتد عليه لاحقاً، وهذا ما دفع بيوك انيط الى تخفيف تصريحه لاحقاً بعد الانتخابات ورمي الكرة في ملعب الحكومة، حيث قال إن الحكومة هي من يحدّد هدف اي عملية عسكرية في شمال العراق، وأشار للمرة الأولى الى صعوبة هذا الخيار قائلاً إن على الحكومة قبل ان تقرر، التفكير كيف سنتصرف ان دخلنا شمال العراق وواجهنا هناك الجيش الأميركي او البيشمركه العراقية، مضيفاً بأن الهجوم على معاقل الحزب في شمال العراق لن يقطع دابر الحزب ولكنه فقط سيوجه ضربة له تعطل هجماته لفترة. لكن الوقت كان قد فات لتدارك تداعيات تصريحات الجيش الأولى التي صورت ان الحل الوحيد يكمن في دخول الجيش شمال العراق للتخلص من حزب العمال الكردستاني. المعارضة القومية والعلمانية بنت على ما بدأه الجيش، وبدأت تطارد وتحاصر الحكومة من اجل الحل العسكري، وتحول الأمر الى سباق في اثبات الوطنية والعمل على تخوين الطرف الآخر واتهامه بالتبعية لأميركا. ومع دخول الاعلام على خط المواجهة دخلت تركيا في حالة استقطاب جديد كتلك التي شهدتها إبان الانتخابات البرلمانية والرئاسية بين العلمانيين والحزب الحاكم، من دون تغيير اللاعبين او الادوار. فالمعارضة بدأت من خلال موهبتها المفضلة الا وهي المقارنة بين تركيا واسرائيل، من خلال القول بأن اسرائيل اقامت الدنيا ولم تقعدها وهدمت لبنان على رؤوس من فيه بسبب خطف جنديين من جنودها ? علماً أن المعارضة العلمانية وحزب الشعب الجمهوري بالذات يصران على تصنيف"حزب الله"حزباً ارهابياً على العكس من الحكومة التركية ? فيما حكومة"العدالة والتنمية"تدير خدها الايسر لحزب العمال الكردستاني بعد أن صفعها على خدها الايمن وقتل ثلاثين من جنودها في شهر واختطف ثمانية آخرين. دعوة رئيس الوزراء رجب طيب اردوغان حزب العمال الكردستاني إلى إلقاء السلاح وإفساح المجال للسياسة والحوار من اجل حل جميع قضايا تركيا الخلافية تحت قبة البرلمان لقيت هجوماً نارياً من قبل زعيم"حزب الشعب الجمهوري"الاتاتوركي دنيز بايكال الذي اتهم اردوغان بالعمل على تقسيم تركيا وخيانه الإرث الاتاتوركي، وكذلك زعيم حزب"الحركة القومية"دولت باهشلي الذي اتهم رئيس الوزراء بالضعف والهرولة للحوار مع الارهابيين. لم تخرج تظاهرة تركية تطالب الحكومة التركية بدخول شمال العراق، جميع التظاهرات التي خرجت تداعت للعن الارهاب وطالبت الحكومة بإنهاء ملف حزب العمال الكردستاني، وما لبثت هذه المطالبات أن تحولت الى سهام وجهت الى الجيش، اذ تداعت الصحافة الاسلامية وأخرى على علاقة بفئة غاضبة من داخل صفوف الجيش لتوجيه الاتهامات في شكل غير مباشر لقائد الاركان وتحميله مسؤولية سقوط عدد كبير من القتلى داخل صفوف جيشه في عمليات لم يستطع خلالها قتل ولو احد العناصر المهاجمة. فخرجت صحيفة"عقد"الاسلامية لتتساءل عن الكاميرات الحرارية التي اشتراها الجيش من اسرائيل لمراقبة الحدود ولماذا لم تكشف تسلل 200 من عناصر الحزب الكردستاني إلى داخل الحدود التركية، كما فجر لقاء صحافي مع احد الجنود الاتراك الذين جرحوا خلال الهجوم الاخير عاصفة من الانتقادات للجيش، بعد شكوى الجندي من ان الدعم العسكري جاءهم متأخراً 6 ساعات بعد طلب النجدة، وأن المسلحين الاكراد كانوا على بعد 15 متراً فقط من حافلاتهم اثناء الهجوم عليهم. كما وجهت صحف اخرى انتقادات لاصرار الجيش حتى الآن على استخدام المجندين قليلي الخبرة والتدريب في مواجهاته الامامية مع حزب العمال الكردستاني، وتأخره في تكوين جيش من المحترفين، وتساءلت صحيفة"اكشام"عما اذا كان استخدام مكلفي الخدمة العسكرية الاجبارية القليلي الخبرة هو الاسلوب الافضل في الحرب مع تنظيم عصابات مسلح ومدرب، وذهبت الى التشكيك بتصريحات قيادة الاركان بأن الجيش التركي قتل 34 من عناصر حزب العمال الكردستاني وطالبت بتصوير جثثهم لتأكيد الخبر. لكن مجموعة"ضوغان"الاعلامية والتي تضم اكبر وأهم صحيفتين في تركيا"حرييات"وپ"ملييت"، سخّرت نفسها للدفاع عن الجيش وتحويل مشاعر الغضب صوب القيادات الكردية في العراق، فبدأت حملة سب وقذف وضرب تحت الحزام شملت جلال الطلباني ومسعود البرزاني، وحملتهما المسؤولية الكاملة عما يحدث، وتعددت الاتهامات لهما بدعم وحماية وتسليح حزب العمال الكردستاني، وصولاً إلى القول إن العدو الحقيقي هو القيادة الكردية العراقية وليس حزب العمال الكردستاني، وازدادت المطالبات في الصحيفتين بفرض العقوبات الاقتصادية على اقليم شمال العراق وقطع الكهرباء والبنزين عنه وإغلاق المعبر الحدودي ووقف التجارة مع شمال العراق، بل بخطف مسعود البرزاني وايداعه سجن ايمرالي حيث يقبع عبدالله اوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني، وهي المطالب التي دعمها القوميون الذين اضافوا اليها طلب اعلان حالة الطوارئ في محافظاتجنوب شرقي تركيا. لكن حكومة اردوغان رفضت اسلوب العقاب الجماعي، وأوضحت ان وقف التجارة وإغلاق المعبر الحدودي سيضر بأكراد تركيا الذين يعتاشون منه، كما سيضر بأكراد العراق الذين لا تريد تركيا ان تستعديهم، كما رفض اردوغان العودة الى اسلوب اعلان حال الطوارئ الذي يسلم الجيش حكم المدن ذات الغالبية الكردية في جنوب شرقي تركيا، وخلال اجتماع مجلس الامن القومي دعم الرئيس عبدالله غل موقف الحكومة، مما ساعد على حصر العقوبات الاقتصادية التي أوصى بها المجلس في حدود تغيير مجرى التجارة مع شمال العراق والعراق عموماً ليتم عبر سورية من أجل الالتفاف على بوابة ابراهيم الخليل التي تحصد ملايين الدولارات من عائدات الضرائب والجمارك والتي يسيطر عليها اقليم كردستان العراق، إضافة الى فرض عقوبات على عدد محدود من الاشخاص والشركات التي تتهمها تركيا بدعم وتمويل حزب العمال الكردستاني. الدافع وراء رفض حكومة اردوغان مطالب المعارضة القومية كان الخوف من ان يفرز ذلك مناخاً داخل تركيا يساعد على نشوب فتنة عرقية بين الأكراد والأتراك، لا سيما مع خروج تظاهرات قومية تجوب الشوارع حاملة العلم التركي وحصول مناوشات في اسطنبول بين أكراد مؤيدين لحزب العمال الكردستاني والشرطة، وقطع بعض تلك التظاهرات طريق الحافلات في الأناضول وإجبار ركابها على إنشاد النشيد الجمهوري. كان أكثر ما أزعج قيادة"العدالة والتنمية"موقف مسعود البرزاني الذي حاول أن يصور خلاف تركيا مع حزب العمال الكردستاني على انه صراع بين تركيا وأكراد المنطقة في شكل عام، فدفع بالمتظاهرين الى الشارع في شمال العراق للتنديد بتركيا، وأعلن ان قواته مستعدة للدفاع عن اقليم كردستان العراق، ولم تستطع حكومة"العدالة والتنمية"تفسير موقف البرزاني الذي وضع نفسه في الخندق نفسه مع حزب العمال الكردستاني، وهو ما دفع اردوغان للقول بأن على البرزاني أن يختار بين الإرهاب وبين تركيا، ثم تحول ليتهم البرزاني بدعم الإرهاب بعد رفض الأخير اعتبار حزب العمال الكردستاني حزباً إرهابياً. ويبدو واضحاً أن الخيار العسكري لا يزال الخيار الذي تريد أنقرة تجنبه لإدراكها فداحة ثمنه وقلة نتائجه، واقتناع"حزب العدالة والتنمية"بأن دخول شمال العراق فخ يراد لها ان تقع فيه، ولن يكون ثمن خروجها منه اقل من موافقتها على قيام دولة كردية في شمال العراق وفيديرالية كردية في جنوب شرقي تركيا، بعد تجييش الرأي العام الكردي في المنطقة ضد تركيا وامتداد الصراع من شمال العراق الى الداخل التركي، خصوصاً بعد تصريحات الناشطة الكردية ليلى زانا في تركيا التي دعت قيادات أكراد العراق الى عدم التخلي عن حزب العمال الكردستاني، وطالبت بفيديرالية كردية في تركيا كمقابل لإلقاء الحزب السلاح.