زيارة رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان الى البيت الابيض جاءت نتائجها دون التوقعات، ليعود الى أنقره فيجد في انتظاره تصريحات نارية من قيادة الاركان الجديدة ترى ان النظام العلماني في خطر، وذلك في الوقت الذي يواجه أردوغان تحالفاً بين رئيس الجمهورية والمعارضة البرلمانية لعرقلة ترشيحه لمنصب رئيس الجمهورية، فيما حزب العمال الكردستاني يعلن وقفاً لاطلاق النار من دون إلقاء السلاح ليضغط في اتجاه تحريك القضية الكردية سياسياً. وسط كل هذه المعطيات لا يمكن ان يكون اردوغان في وضع يحسد عليه، بل عليه ان يحارب في جبهات عدة وهو يستعد لاستقبال سنة انتخابية تتضمن انتخابات رئاسة الجمهورية التي يطمح شخصياً للفوز بها في أيار مايو المقبل، واخرى برلمانية يجب أن يعد حزبه لها جيداً في تشرين الثاني نوفمبر، ولعل التصعيد على جميع هذه الجبهات لا يمثل الا مقدمة لاقتراب موعد حسم قضاياها المعقدة ولتأكيد ان الموعد كان ينتظر سياسياً مثل اردوغان مستعداً للمغامرة والمواجهة والتحدي. تحرك قائد الاركان التركي الجنرال يشار بيوك انيط كان متوقعاً، لكنه جاء اسرع وأوضح مما كان يعتقد الجميع، فكلمته في حفلة بداية العام الدراسي الجديد في الكلية الحربية في اسطنبول، تضمنت تحذيراً شديد اللهجة من خطر ما سماه القوى الرجعية، ويقصد بها الجماعات الاسلامية التي تعادي النظام العلماني وتريد العودة بتركيا الى عهد الخلافة الاسلامية وحكم الشريعة. وطالب بيوك انيط بتدابير حازمة وسريعة للتصدي لهذا الخطر. ومعروف في تركيا ان الجيش الذي نصب نفسه حامياً للنظام العلماني عادة ما يتخذ من الرجعية ذريعة لتقليم اظافر الحكومات الاسلامية مثلما فعل مع حكومة الاسلامي نجم الدين أربكان عام 1997 عندما اطاحها سلمياً بالتعاون مع احزاب المعارضة ومؤسسات المال والاقتصاد والاعلام. لكن تحرك قائد الاركان هذه المرة كان وراءه ثلاثة دوافع: الاول: هو السعي الى تصفية حساب قديم مع جماعة الشيخ فتح الله غولان التي ينتشر اتباعها بكثرة في صفوف الامن والشرطة والتي نظمت حملة اعلامية ضد بيوك انيط وضغطاً على اردوغان لتنحيته لكنها فشلت، وكان بيوك انيط اعلن في خطاب توليه قيادة الاركان ان من بين اولوياته الانتقام ممن حاولوا تشويه سمعته، وأنه لن يستريح قبل ان يحضن الحكومة على حملة تنظيف واسعة بين صفوف الامن والشرطة كتلك التي يقوم بها الجيش كل عام ويطرد خلالها الاسلاميين او من يتهمهم بالرجعية. الدافع الثاني: ان التوقعات الاعلامية التي سبقت تولي بيوك انيط منصبه غلبته ولوت ذراعه، فصورة الصقر التي رسمها الاعلام له مقارنة بخلفه الجنرال حلمي اوزكوك الذي عرف بصبره وصمته، لم تتحقق تماماً على رغم ان الكثيرين من الضباط الصغار يطالبون باعادة الهيبة والاعتبار الى الجيش حتى انهم كادوا يثورون على الجنرال اوزكوك. ووضع هؤلاء امالهم في بيوك انيط الذي كان لا بد له من ان يخرج الى الساحة بصورة قوية. الدافع الثالث: هو أن الجيش لا يستسيغ تولي اردوغان منصب رئاسة الجمهورية، لان ذلك يعني بالنسبة اليهم ان يستولي الاسلاميون على آخر قلاع الدولة العلمانية وأهمها، لذا فان الحفاظ على توتر دائم وبدرجة متوسطة مع الحكومة، على خلفية وجود خطر اسلامي يهدد النظام العلماني من الان وحتى أيار المقبل قد يردع من وجهة نظرهم أردوغان من ترشيح نفسه ويدفعه الى ترشيح ثم انتخاب شخصية تلقى قبول الطرفين. في المقابل فإن الجنرال بيوك انيط على علاقة جيدة بالولايات المتحدة، فهو مهندس اعادة العلاقات بين أنقرهوواشنطن بعد ازمة حرب العراق التي رفضت تركيا المشاركة فيها. ولعل زيارته المرتقبة الى واشنطن في تشرين الثاني المقبل قد تجعله يغير رأيه في أردوغان الذي نعته بوش برجل السلام. ولا شك في ان بيوك انيط سيسمع مديحاً قوياً من الادارة الاميركية بحق اردوغان يدفعه الى اعادة حساباته تجاه حكومة"العدالة والتنمية"، وفي هذا الاطار يجب وضع تصريحات السفير الاميركي لدى انقره روس ولسون الذي قال إن الحديث عن خطر الرجعية في تركيا حديث قديم فقد صدقيته ولا دليل عليه. كما ان اردوغان نفسه يبدو مستعداً لسد جميع الثغرات والحجج التي قد يتقدم بها العسكر لإخماد أي توتر محتمل حتى موعد الانتخابات الرئاسية المقبلة وذلك على رغم علم اردوغان بأنه ليس في يد العسكر اليوم الكثير ليستطيع فعله بعد ان انفض رجال الاعمال والاعلام عنهم وبات حديثهم عن خطر الرجعية مستهلكاً وغير مقنع، وبعد بدء تركيا مفاوضاتها على العضوية في الاتحاد الاوروبي. لذا فان اردوغان الذي يعتقد بأن عام 2008 سيكون عام التغييرات الجذرية في تركيا سيكون مصراً على السير الى قصر الرئاسة على رغم اعتراضات الرئيس الحالي والمعارضة اللذين اخذا من العسكر شعلة خطر الرجعية ليبدأا حملة اعلامية ضد اردوغان، تأخذهما من توحيد التصريحات والمواقف، الى طرح مرشحين بديلين. وختاماً تعرج على التهديد باللجوء الى أي حيل قانونية في الدستور لالغاء نتائج الانتخابات الرئاسية او حل البرلمان قبل الموعد المحدد. لكن اردوغان يبدو واثقاً من ان الغالبية العددية التي يحظى بها حزبه في البرلمان ستمكنه بسهولة من الفوز في انتخابات الرئاسة وان عليه فقط ان يتسلح في سبيل ذلك بالصبر وهدوء الاعصاب. اميركا والملف الكردي يجمع المراقبون الاتراك على ان زيارة اردوغان الى البيت الابيض لم تحقق نتائجها المطلوبة، وذلك لان الرئيس الاميركي لم يأت على ذكر حزب العمال الكردستاني اثناء حديثه الى الاعلام في حضور ضيفه، واكتفى بالحديث في عموميات الحرب على الارهاب، بل عرج بالحديث على ملف دارفور الذي لا ناقة للاعلام التركي فيه ولا جمل، مما اجبر رئيس الوزراء التركي على التفرس في نظرات بوش ليقرأ فيها - كما قال هو بالحرف امام الصحافيين الاتراك - عزماً وتصميماً على القضاء على حزب العمال الكردستاني. الا ان هؤلاء المراقبين اغفلوا اهمية وصف بوش لاردوغان برجل السلام، فالرئيس الاميركي لا يوزع الالقاب جزافاً، ويبدو واضحاً ان اردوغان ومن خلال هذا الوصف حصل بالفعل على دعم بوش، ولكن ليس للقضاء عسكرياً على حزب العمال الكردستاني المتمركز في شمال العراق كما كان الاعلام والسياسيون الاتراك يتوقعون، وانما لحل القضية الكردية سياسياً في تركيا والمنطقة. فالقناعة الراسخة لدى المسؤولين الاتراك تقول إن حزب العمال الكردستاني قد عاود هجماته الدموية ضد تركيا عام 2004 بعد حصوله على ضوء اخضر من الجيش الاميركي في العراق، وان الامر يأتي في اطار عملية انتقام اميركي لتخلي تركيا عن حليفتها في حربها على العراق، وأيقن أردوغان ان واشنطن لن تسمح بالقضاء على الحزب الكردستاني الذي قد يساعدها على زعزعة الامن في ايران وسورية - خصوصاً بعد تصريحات المسؤول العسكري مراد كارايلان لمجلة نيوزويك الاميركية بأن حزبه مستعد للقتال مع الاميركين ضد الجماعات الارهابية والاسلامية، ومن وصفهم بالعدو المشترك - وأن واشنطن ستضغط من اجل حل سياسي للقضية الكردية في تركيا، فعمد رئيس الوزراء التركي الى قبول عرض الوساطة السري وغير الرسمي الذي عرضه مراراً الرئيس العراقي جلال طالباني من اجل دفع حزب العمال الكردستاني الى وقف القتال والقاء السلاح، لكن الحزب الكردستاني الذي لا يثق بأنقره اعلن وقف اطلاق النار وأجل ترك السلاح الى أن يرى خطوات عملية تقوم بها حكومة اردوغان على طريق ايجاد حل سياسي للقضية الكردية، وهو ما قد يكون ممكناً فقط في حال ظفر اردوغان بكرسي رئيس الجمهورية، ليستغل الفترة بين الانتخابات الرئاسية والانتخابات التشريعية لتحريك الملف الكردي بشكل يدفع الحزب الكردستاني الى القاء السلاح، وهي خطوة ان تحققت ستكون اكبر استثمار انتخابي لمصلحة حزب"العدالة والتنمية"من اجل فترة حكم جديدة تبدأ في تشرين الثاني المقبل، وتمهد الطريق امامه لخطوات جريئة على طريق حل نهائي للقضية، من دون اغفال المعوقات المتوقعة من اعتراض القوى القومية في تركيا وعدم وجود طرح سياسي وسط يجبر الفجوة الواسعة بين الحل الذي تطرحه الدولة وذلك الذي يطالب فيه الاكراد. في هذا السيناريو المطروح يحتاج حزب العمال الكردستاني الى بقاء حزب"العدالة والتنمية"في السلطة لان البديل استطلاعات الرأي تشير الى ان البديل قد يكون تحالفاً بين حزب الحركة القومية المتطرف وحزب الشعب الجمهوري الاتاتوركي في البرلمان المقبل في حال تراجعت اصوات حزب اردوغان لن يكون في مصلحته أو مصلحة قضيته، والافضل هو بقاء حزب اعترف بوجود قضية كردية ويسعى الى حل وحوار ولو من تحت الطاولة. في هذا الاطار فان واشنطن تلعب دور الوسيط والضامن لالتزامات الطرفين التركي والكردي، ومن هنا جاء وصف بوش لاردوغان ب"رجل السلام"من باب الضامن للاكراد بأن هذا الرجل هو الذي سيحل لهم قضيتهم. وفي هذا الاطار ايضاً يبرز دور اكراد العراق وخصوصاً الرئيس جلال طالباني، فكما ان واشنطن اصبحت عاملاً اساسياً في القضية الكردية في العراقوتركيا، فان اكراد العراق ايضاً اصبحوا عاملاً لا يمكن الاستغناء عنه في حل القضية الكردية في تركيا، وهو نجاح للديبلوماسية الكردية وسياسات جلال طالباني، التي ستخدم نتائجها في رفع الحصار والرقابة التركية الصارمتين على اقليم كردستان العراق واحلامه المستقبلية. اذاً فهي سلسلة مصالح متبادلة ومتصلة ومترابطة بوجود قوى واحزاب قومية في تركيا ستعمل بكل قوتها لعرقلة أي حل سياسي للقضية الكردية في تركيا تراه مهدداً لبناء الدولة القومية التركية، إضافة الى صعوبة سد الفجوة الكبيرة بين سقف الحقوق الذي يمكن ان يطرحه اردوغان وذلك الذي يطالب به الاكراد، لكن تلك العراقيل لا تنفي حقيقة ان حل القضية الكردية في تركيا سياسياً يصب في مصلحة تركيا أولاً واكراد المنطقة ثانياً وواشنطن ثالثاً، وهو امر يبدو صعب التحقيق اذا غاب حزب العدالة والتنمية في الحكم وأردوغان"رجل السلام"عن الرئاسة.