تنطفئ الأنوار. سكوت... يبدأ العرض... تظهر سيدة أميركية ذات شعر قصير على الشاشة، لتلقي نظرةً خجولة بين الحين والآخر، لتبتسم تارةً وتتحدث طوراً، قبل أن تغلق عينيها. تأتيها الذكريات من كلّ حدبٍ وصوب، لم تنسَ ما حصل في ليلة الرابع والخامس من تشرين الثاني نوفمبر 2003 داخل سجن أبو غريب في العراق. في تلك الليلة، تعرّفت على مندل الجمادي جثةًً هامدة، تائهةً بين قطع الثلج، ملفوفةً بكيسٍ أسود اللون... عذبوه حتى الموت... فتحت الكيس، اكتشفت الجثة، سارعت إلى جلب الكاميرا لالتقاط الصورة وتخليد الحدث. لم تردعها حرمة الموت، هي التي رأيناها على تلك الصور الشهيرة، ترفع إبهاميها والابتسامة تعلو شفتيْها. إنها الجندية سبرينا هارمان نفسها. كم بدت راضية عمّا رأته عيناها، تنحني على جثّة الجمادي وكأنها لا تصدق ما تراه من فرحتها العارمة. ما ان انتهى العرض حتى تساءل فيليب غورفيتش، الكاتب والمراسل الكبير في مجلة New Yorker:"شاهدنا جندياً صغيراً قاسياً منحرفاً، فقد صوابه خلال دوريته، أم انّ الأمر أفظع واكبر من ذلك بكثير؟". في 5 تشرين الأول أكتوبر، شهدت منهاتن افتتاح الدورة الثامنة لمهرجان مجلة New Yorker السنوي، هذه المجلة الفريدة من نوعها باتت اليوم الضمير الحي لنخبة مفكري اليسار في منطقة ما بعد حدود الأطلسي. وهي تستقطب نخبة من النقاد والروائيين وكتاب المقالات وأشهر الشعراء ورسامي الكاريكاتير ليضفوا رونقهم الخاص عليها من خلال التعليق على الثقافة الأميركية والسياسة العالمية في آنٍ. منذ العام 1999، تقوم المجلة بتنظيم مهرجانٍ سنوي يقوم على إجراء مقابلات مع مفكرين وكتاب وفنانين من أرجاء العالم، وذلك رغبةً منها في إضفاء طابعٍ شعبي على الحدث. دار مهرجان هذه السنة انتهى في السابع من الشهر الجاري، حول الهوية الأميركية ومكانتها في العالم، مستضيفاً الروائييْن سلمان رشدي وارهان باموك في حوار حول نظرة المجنسين الأميركيين إلى مسقط رأسهم، إضافة الى طاولة مستديرة حول العراق وأسرار الديناميكيات الديبلوماسية، ولقاء خاص بين فيليب غورفيتش والسينمائي ايرول مورسي، الذي كان فاز بجائزة اوسكار عن الفيلم الروائي The Fog of the War، والذي يضفي لمساته الأخيرة على فيلم يروي مآسي أبو غريب بعنوان Standard Operating Procedure وهو خلاصة 200 ساعة من المقابلات مع القوات الأميركية. وفي هذا العمل فيليب غورفيتش، صاحب كتاب عن الإبادة الجماعية التي عاشتها رواندا، وقد روى الأحداث نفسها، إنما بعينيه هو. والهدف من ذلك شق طريقيْن - طريق القلم وطريق العدسة - انطلاقاً من الوثائق نفسها. رائحة الاحتلال "إهانة أخصامنا هي عصب هذه الحرب"، هكذا وصف السينمائي ما يجري في بلاد الرافديْن. إنما، بحسب الكاتب، كان من المفترض أن تُستخدم تلك الصور الفظيعة والرمزية عن"أبو غريب"لفهم تلك الإجراءات الاعتقالية وترسيخها شيئاً فشيئاً في النظام السائد. بدلاً من ذلك، استخدمتها الإدارة الأميركية لنسف مبدأ حقيقة ثابتة لأنها أتت كبرهانٍ واضحٍ على تضلّع النظام الأميركي في هذه الجريمة. ومن هنا تتبلور المشكلة الحقيقية، ألا وهي: حجم الدعم الإعلامي للجيش الأميركي، الذي يفوق التعذيب أهميةً. أمّا عن دور الجندية سبرينا هارمان، فإليكم القصة... عرض فيليب غورفيتش نسخةً عن رسالةٍ كانت الجندية قد بعثتها إلى صديقتها، تخبرها فيها عن رغبتها في استخدم الصور التي التقطتها بغية تعرية ممارسات القوات الأميركية بحق الشعب العراقي. يا لسخرية القدر: فالصور حثت العالم بأسره على الاعتقاد بأنّ يديْ سابرينا هارمان ملوثة بدماء الجمادي. لا شك في انّ الوضعيات النافرة والابتسامات الغريبة تخون صاحبتها، بل انها تظهر مشاركتها الإباحية في الجريمة المروعة. غير أنّ المهم لا يكمن هنا بحسب ايرول موريس. فرائحة الاحتلال الكريهة تفوح من تلك الصور التي تكشف الاعتقالات غير الشرعية وحالات التعذيب والإرباك الفريدة السائد."للمرة الأولى في تاريخ البشرية، يتضح أنّ المصوِّر هو المصوَّر: فهو شارك طوعاً في حدثٍ يحمل كل هذه الرمزية في طياته، في حدثٍ يحمل كل هذا الإجرام في طياته"، بهذه الكلمات اختار فيليب غورفيتش أن يسدل الستار على المهرجان...