ربما تسيد مشهد الأفلام الوثائقية لهذا العام فيلم "فعل القتل" The Act of Killing، فقد كان في قوائم الكثير من النقاد لأفضل أفلام هذه العام. كما أن الأكاديمية البريطانية أدرجته في ترشيحات أفضل فيلم لهذا العام مع الأفلام الروائية إضافة إلى ترشيحه عن فئة أفضل فيلم وثائقي وهي الفئة التي تصدر فيها ترشيحات الأوسكار. ولكن سواء أخذ الجائزة أو لم يأخذها فإن الفيلم قد فتح آفاقاً جديدة في الفيلم الوثائقي، ووضع اسم مخرجيه الدنماركي جوشوا أوبينهايمر وكريستين سين في قائمة المخرجين المهمين لما قدموه من شكل مختلف في هذا الفيلم، بشهادة اسمين مهمين في صناعة الأفلام الوثائقية عملا معهما كمنتجين تنفيذيين في هذا الفيلم وهما: إيرول موريس وفيرنر هيرزوغ. فالأول هو مخرج الأفلام الوثائقية التي تدخل في عداد أهم أفلام وثائقية على مر التاريخ: "The Thin Blue Line" و"The Fog of War" والثاني هو مخرج الفيلم الوثائقي الذي أيضاً يصنف من أهم الأفلام الوثائقية وهو Grizzly Man. يحكي الفيلم قصة مجموعة من قطاع طرق كانوا يبيعون تذاكر سينما في السوق السوداء، ثم تحولوا إلى كتيبة إعدام تنفذ تصفيات جسدية لصالح سوهارتو بعد انقلابه العسكري على سوكارنو عام 1965-1966. وبالتحديد أنور كونغو والذي ينحدر من أصول أثيوبية ومساعده هيرمان كوتو وزميله أدي زوالقادري. هؤلاء الآن كما نعرف هم من ضمن منظمة معاونة للجيش تدعى "شباب بانكسيلا"، وهي المنظمة التي ساهمت في تصفية معارضي سوهارتو من الأندونيسين والصينيين والذين تجاوزوا المليون بحجة أنهم شيوعيون. وهذه المنظمة تعد أنور وأصدقاءه من ضمن مؤسسيها ومن فيها هم من يحكم أندونيسيا الآن. يتخذ الفيلم أسلوباً مغايراً للمعتاد، فبدلاً من الأسلوب التقليدي للوثائقي بعقد لقاءات مع الضيوف والحديث عما قاموا به أثناء هذه الأحداث، يطلب المخرج من أنور وزملائه أن يعيدوا تمثيل ما قاموا به وبالشكل السينمائي الذي يحبون. وهو بهذا يحاول الغوض في نفسيات القتلة الذي يمارسون هذا النوع من الجرائم: كيف يصورونها لأنفسهم وكيف يقومون بذلك، وما هي القصص التي يحكونها. يبدو الموضوع وكأنه تمثيل لفعل القتل وهو الموظف في العنوان باستخدام كلمة "act" التي تحمل أكثر من دلالة فهي تعني الفعل وتعني التمثيل أيضاً. يختار أنور وزملاؤه شكل الفيلم الذي يحبون أن ينفذوا فيه وسائل قتلهم، فتارة نراهم يؤدون أدوار أفلام الغرب الأمريكي أو إثارة أثناء حديثهم عما اقترفوه من جرائم، وكيف أن أنور ابتكر طريقة جديدة للقتل شاهدها في أحد الأفلام حيث يلف خيطاً معدنياً مثل صنارة الصيد على الرقبة ثم يجره من طرف مثبت في ممسك من خشب فيخنق الشخص سريعاً ثم يضعون الجثة في كيس ويرمونه بعيداً. وأحياناً فيلم رعب حيث يناول هيرمان أنور كبدا نيئة ويضعها في فمه. وأحياناً يصور فيلم موسيقي مع راقصات كما يظهر في بوستر الفيلم. وأحياناً أخرى فيلم حرب حيث يصورون في مكان شبيه بقرية ارتكبوا فيها مجزرة ليمثلوا ما ارتكبوه فيها وهو من أجمل مشاهد الفيلم وأكثرها رعباً وخلقاً لأجواء مشابهة للواقع.مع تتابع القصص في الأجواء السينمائية المختلفة يبدو أنور هو الأكثر تأثراً بماضيه فيتحدث عن كوابيس تلاحقه ويشعر بأنها أشباح من ضحاياه. يتصاعد هذا الشعور بشكل أكبر إلى درجة أنه في مشهد يمثل فيه دور معتقل يتم التحقيق معه تحت التعذيب. يقول فيما بعد، أثناء مشاهدته لما تم تصويره، إنه لأول مرة يشعر بإحساس من قام بتعذيبهم فهو يشعر بأن كرامته قد استلبت منه وأن الخوف أصبح هو المسيطر عليه. يرد عليه المخرج: بل هم يحسون بما هو أسوأ فأنت تعرف أن هذا تمثيل، فيما هم موقنون بأنهم سيموتون. أثناء التصوير يبدو البعض قلقاً من الشكل الذي سيبدون عليه بعد الفيلم، وأن فكرة تصوير هذا الفيلم قد لا تكون جيدة، فيما البعض الآخر يقول إنه تاريخ ويجب الحديث عنه. أحد من قاموا بالتعذيب والقتل يقول إنه لا يشعر بأي تأنيب ضمير، وأنه لم يرتكب شيئاً يستحق العقاب لذلك هو خارج السجن الآن، فقد ارتكب ما ارتكب لأنه مقتنع به وهذا يكفي. فيما يشعر أنور بمشاعر مختلفة. ولكن من الواضح أن الجميع، بما فيهم أعضاء المنظمة ورؤساؤها، لا يجد حرجاً في ذكر أنهم كانوا يقومون بتصفيات، وأنهم قطاع طرق، فكلمة قاطع طريق تعني رجلاً حراً، وطالما أنه يفيدون النظام، فلو خرجوا قليلاً عن القانون فلا بأس. يتوقف أنور في بعض المشاهد ويقول لا أستطيع أن أكمل هذا. يبدو مع عائلته ومع أحفاده رقيقاً. نشاهد هيرمان مع بعض الأطفال الذين يمثلون أولاد الضحايا وهو يمسح دموعهم بعد أن بدا عليهم التأثر إلى درجة أن المشاهد يتساءل: هل يمكن أن تكون رحيماً في لحظة ومجرماً ترتكب أسوأ البشاعات في لحظة أخرى؟. وربما هذا تحديداً هو ما يود صناع الفيلم أن يعرضوه لنا.