التجاذب الأميركي - الايراني القائم يجب ألا يدفع الدول العربية الى التقوقع خوفاً من انعكاساته عليها، وانما يجب ان يؤدي بها الى دخول الحلبة رفيقاً للحوار باستراتيجية تحفظ لها مكانة اقليمية. دول الخليج بالذات قادرة على استخدام ثقلها النفطي وصداقاتها السياسية والأمنية لضمان عدم استبعادها عن الملف الايراني الذي تتناوله الولاياتالمتحدة وبريطانيا والصين وروسيا وفرنسا والمانيا، وذلك لئلا تصاب بمفاجآت غير سارة. لكن مرافقة الحوار هي مجرد جزء من الاستراتيجية الضرورية إزاء المقاربة مع ايران، أما الجزء الآخر فيتطلب إقدام الدول العربية على المشاركة في صنع مصير المنطقة سواء في العراق أو فلسطين أو نحو سورية ولبنان. فلم يعد يكفي القول ان"ليس في اليد حيلة"في العراق. بل حان الوقت للتدقيق في ما يمكن للعرب ان يقدموه للعراق غير الأسى واللوم، وان يتخذوا مواقف علنية عندما يلبس الارهاب ثوب المقاومة وعندما ترتكب القوات الاميركية جرائم المجازر، وان يقدموا المساعدات المالية للشعب العراقي. فلسطينياً، أمام العرب مسار واضح، بدأت به دول عربية مثل السعودية ومصر، لكنه يحتاج الى تعزيز، وكذلك الى التوعية الشعبية والى التهيئة للزخم المالي الواضح والمستقل عن المساعدات الأوروبية. ولبنانياً، أضعف الايمان ان تقول الدول العربية لسورية علناً وبوضوح أنها لا تدعم في موقفها من ترسيم الحدود بينها وبين لبنان لأنه موقف تلاعب على حساب مستقبل لبنان واستقراره، ولأن هناك اجماعاً دولياً على ضرورة تحديد الحدود لئلا تبقى مزارع شبعا رهن الاستغلال باسم مقاومة يرفض انطلاقها من اراضيه. رزمة الترغيب التي حملها الممثل الاعلى لسياسة الاتحاد الأوروبي الخارجية، خافيير سولانا، الى طهران وتجاوب الحكومة الايرانية معها مبدئياً، يعنيان ان صفحة جديدة افتتحت في الملف الايراني. لأنها تستبعد الخيار العسكري ولأنها تشتري الوقت للجميع، وإذا عادت الأمور الى عتبة المواجهة. هذه الرزمة مهمة في العلاقات بين الغرب المتمثل بالولاياتالمتحدة وبريطانيا وفرنسا والمانيا وبين روسيا والصين. تجاوبت ايران مع ما حمله سولانا، بقول وزير الخارجية الايراني منوشهر متقي ان طهران"تفضل التعاون على المواجهة"، خصوصاً في المسألة النووية. فعلت ذلك بعدما أدركت انها دفعت بالجميع الى منتهى القدرة على تحمل عواقب استفزازاتها، بما في ذلك روسيا والصين. فهناك حدود لمدى استعداد الدول الكبرى للخوض في معارك ضد بعضها بعضاً، حتى من أجل مصالح اقتصادية. وفي هذه المرحلة والمنعطف، فإن روسيا والصين ليستا في وارد توفير الحماية والدفاع القاطع لايران فيما تستمر بمواقف غير معقولة تحملان مسؤوليتها دولياً. ثم هناك ناحية القمة. الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يريد استضافة قمة ناجحة لمجموعة الثماني، اشارة الى الدول الصناعية الغربية الكبرى مجموعة السبع التي أضيفت اليها روسيا قبل بضع سنوات بعد جهد كبير بذلته موسكو. هذه القمة ستعقد في سان بطرسبورغ في 15 الشهر المقبل، حيث سيكون الملف الايراني حاضراً، خصوصاً من ناحية مواقف الغرب والشرق منه وكيفية تناوله من جانب الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن. هذه القمة قد تصبح عملياً الموعد الحاسم لتلقي الاجوبة الايرانية الرسمية على العروض التي حلمها سولانا الى طهران وعلى اعلان وزيرة الخارجية الاميركية كوندوليزا رايس استعداد الولاياتالمتحدة للحوار مع ايران اذا ما استأنفت تعليق تخصيب اليورانيوم، ولأن روسيا مهمة لايران استراتيجياً وتكتيكياً في هذا المنعطف، فإن طهران ستحرص على عدم تعطيل قمة بوتين في سان بطرسبورغ. إلا ان الاعتبارات التي أدت الى الانفراج لا تنحصر في قمة الثماني ولا في روسيا، بل ان الأهم اميركي. فما راهنت عليه طهران عندما صعّدت بشدة هو عدم قدرة الولاياتالمتحدة على فتح ساحة حرب جديدة وهي متورطة في ساحة حرب العراق. أخذت في حساباتها امكان الاستفادة من فسحة الضيق الاميركي المتاحة لمصلحتها مرحلياً، فلعبت الورقة بحذق ومغامرة. وما ارادته طهران هو اعتراف الادارة الاميركية بالنظام الحاكم في ايران منذ 27 سنة عبر التحاور معه والتفاوض معه بل المقايضة معه ثم الاتفاق والتعاون معه وحتى تقديم الضمانات الأمنية له. ما أعلنته رايس كان تحولاً مهماً في السياسة الاميركية نحو ايران، ثم جاءت تفاصيل رزمة الترغيب لتشكل مدخلاً فائق الأهمية الى التفاوض والمقايضة والاتفاق والتعاون، لكن هذا مدخل وليس اختراقاً بعد. والى حين استكمال المفاوضات والمقايضات وتحويل الوعود الى اتفاقات، فإن ما يحدث لا يزال يقع تحت عنوان شراء الوقت الملائم لجميع المعنيين في اللعبة الايرانية الدولية. الانجازات التي يمكن لطهران ان تزعمها في هذا المنعطف تشمل معنى رزمة الترغيب واقعياً حتى عندما رافقها التذكير بعواقب حرص حاملها، سولانا، على عدم تفصيلها بقرار أوروبي وأميركي وروسي وصيني. فمعنى الرزمة هو ان ادارة جورج بوش قررت التعايش مع الجمهورية الاسلامية الايرانية بنظام رجال الدين وبقيادة الثوري الرئيس محمود أحمدي نجاد. بكلام آخر، تخلى جورج بوش عملياً عن العمل لاطاحة النظام الحاكم في طهران وتخلى ايضاً عن المعارضين الايرانيين الذين كشفوا عام 2002 برنامج ايران النووي الذي بقي سراً لفترة 18 عاماً. وهذا تماماً ما ارادته طهران وما قدمه النظام الايراني في المقابل، أو ما يطالب بتقديمه هو مجرد طمأنة العالم بأنه لن يصنع القنبلة الذرية الآن. تنظر الادارة الاميركية الى الأمر بصورة مختلفة. فكوندوليزا رايس، التي يقال انها بين حفنة العقول المدبرة للتغيير الجذري في سياسة ادارة جورج بوش نحو ايران، ترى ان كل هذا الترغيب ليس عبارة عن تأهيل. وهي تقول ان الطريق معقدة جداً مثل التوصل الى مرتبة تأهيل النظام الايراني أو الاعتراف به. ولقد تعمدت رايس ذكر المسائل الاقليمية وعلاقة ايران بها عندما بادرت الى طرح موضوع العراق وموضوع لبنان وسورية عند اعلانها الاستعداد للحوار مشترطة ألا يحصر في المسألة النووية. إيران ليست العراق. هذا أمر يفهمه العرب الآن، خصوصاً بعدما تأبط سولانا رزمة الترغيب الضخمة و"الجزر"يتساقط من كتفيه، فيما ترك"العصا"في القارة الأوروبية قبل التوجه الى طهران. ما كان هذا ليحدث في العراق لو هبطت السماء على الأرض. فإيران أذت الولاياتالمتحدة أكثر مما أذاها العراق. والإيرانيون احتجزوا الرهائن الأميركيين فيما كان صدام حسين شريكاً للولايات المتحدة أثناء رغبتها في صد الثورة الإيرانية من الانتشار الى الخليج. ورغم ذلك، لم يحدث أن قدمت الولاياتالمتحدة أو أوروبا رزمة ترغيب الى صدام حسين كالتي قُدمت الى محمود أحمدي نجاد. فالعراق ليس إيران من وجهة النظر الأوروبية والأميركية بغض النظر عمن يحكم في البلدين. العراق عربي قابل للاستهانة به كبلد فيما كان ممكناً التخلص من رئيسه المستبد بطرق غير تدمير بنيته التحتية. أما إيران فإنها بلد الفرس التي تفرض على العالم التعامل معها وأخذها في الاعتبار وفي الحساب حتى وإن كان من يحكمها يتحدث لغة غير مقبولة دولياً. لكن أمام كوندوليزا رايس فرصةل اثبات معنى كلامها، إذا شاءت. أمامها فرصة المقايضة مع إيران أو المواجهة مع إيران في المسائل الاقليمية. العراق أمر واضح في المعادلة، إذ أن الولاياتالمتحدة بحاجة ماسة الى التعاون الإيراني في العراق، فيما طهران، واقعياً، بحاجة ماسة الى بقاء القوات الأميركية في العراق. ما يقال غير ذلك ليس دقيقاً، بل ليس صحيحاً. طهران تمتلك مفاتيح عدة داخل العراق، من الحكم الى الميليشيات الى الشارع. لكن إيران ستتورط بغير ما ترغب به لو توقفت القوات الأميركية عن القيام بتأمين مواقع أو التصدي لحالات معينة. وبكلام آخر، فإن وجود القوات الأميركية في العراق لا يزال يقدم خدمة كبرى الى طهران. وطهران تخشى الانحساب الأميركي من العراق ولا تريده في هذا المنعطف. إذاً، العراق قابل للمقايضة بين واشنطنوطهران. وهذا أمر يجب على العرب ألا يغيبوا عنه، ليس فقط لأن الصفقات التي تستبعدهم تأتي على حسابهم، وإنما ايضاً لأن شعب العراق لن يسامح العرب اذا بقوا متفرجين على المحنة والمقايضة بلا مساهمة ولا استدراك. يجب على العرب، قيادات وحكومات، نخبة ورأياً عاماً، أن تكف عن ممارسة الابتعاد عن ملف العراق. العرب جزء من مشكلة العراق، كما أميركا كما ايران. يجب الآن، في هذه المرحلة بالذات عند بدء الحديث والحوار، وربما المقايضة الأميركية - الإيرانية في شأن العراق، أن تبدأ ورشة تفكير جدية في ما على العرب أن يفعلوه من أجل العراق. إيران استخدمت تدخلها في العراق ورقة في علاقتها الثنائية مع الولاياتالمتحدة، وهكذا ترجو سورية أن تفعل بعدما فعلت بدورها الحدود السورية - العراقية لتؤخذ في الحساب، آملة بأن تجني أميركا على النسق الإيراني، على رغم بعد الشبه والأهمية بينها وبين إيران في الاعتبارات الأميركية. قد يصعب على الدول العربية تنبيه ايران الى افرازات وعواقب تلاعبها بالعراق، لكن على هذه الدول أن تُفهم سورية بأن زمن لعب الورقة الإيرانية في الخليج قد مضى. فدمشق تعمل على كسب الوقت لأسباب مختلفة عن أسباب اللاعبين المعنيين بالملف النووي الإيراني. إنها تجري حساباتها من منطلق القنبلة الكبرى التي تخشاها، وهي قنبلة التحقيق الدولي في الاغتيالات للقيادات السياسية والفكرية والصحافية في لبنان، بدءاً باغتيال رئيس الحكومة اللبناني رفيق الحريري. كوندوليزا رايس قادرة على طرح موضوع لبنان وسورية بحزم عند الجلوس الى طاولة الحوار مع إيران، وستفعل. لكن ايران بدورها تعي تماماً ماذا يتطلب منها الجلوس الى طاولة الحوار مع الولاياتالمتحدة وفرنسا وبريطانيا والمانيا، تعي أن هذه فرصة فائقة الأهمية لعلاقاتها الثنائية مع هذه الدول، فائقة الأهمية لها استراتيجياً وتجارياً وسياسياً وديبلوماسياً، وهي لن تهدر هذه الفرصة بعشوائية أو باعتباطية، وبالذات لن تهدرها من أجل ملفات اقليمية على نسق الملف السوري، أما"حزب الله"الموالي لها فستحسن القيادة الإيرانية ضبطه عندما تضطر وإذا كان الثمن يوافقها. أما فلسطينياً، فلا إيران مخلصة للملف ولا سورية. بل ان الاستغلال الحكومي للمسألة الفلسطينية في إيران، حسب رجل أعمال مرموق داخل إيران، أدى بقطاع الرأي العام الإيراني الى كراهية القضية الفلسطينية، تحديداً بسبب محمود احمدي نجاد واسلوبه في جعل القضية الفلسطينية أولوية ايرانية. ولذلك فهناك مدخل مهم للعرب لاستعادة الملف الفلسطيني من مهاترات أحمدي نجاد ومزايداته، ومن استخدام القضية الفلسطينية لغايات النظام السوري. فهذا إجحاف بحق الفلسطينيين، وهو تحقير لحقهم في تقرير المصير، وهو استرسال في ابتزاز القضية الفلسطينية. التحديات أمام العرب اخلاقية بمقدار ما هي استراتيجية ومصيرية، وقد بدأ الاختبار الآن من المنصة الايرانية.