ما عرضته الإدارة الأميركية على الحكومة الإيرانية من استعداد للجلوس معاً إلى طاولة المحادثات في الشأن النووي وفي شأن سياسات طهران الاقليمية، يقع في المرتبة التمهيدية، إما للمقايضة أو للمواجهة. فكما قالت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس:"هذه ليست الصفقة الكبرى". إنها خطوة مهمة جداً، إذ تسجل تراجع الولاياتالمتحدة عن موقف بائس تمثّل في رفض التحادث العلني والرسمي المباشر مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، حتى عندما ازدحمت القنوات السرية بالصفقات والفضائح كفضيحة"إيران - كونترا"التي كانت إسرائيل طرفاً فيها. لكن هذه خطوة تقع من دون توقعات النظام في إيران أو طموحاته، النووية منها والاقليمية. ما أعلنته رايس هو عبارة عن مدخل ومخرج في آن. فجزء من أهدافه هو زج روسياوالصين في الزاوية بعد رمي الكرة الى الساحة الإيرانية، والجزء الآخر لشراء الوقت ريثما تنكشف السحابة عن العراق الذي ساهمت السياسات الأميركية في تدمير بنيته التحتية، إما بأخطاء فادحة أو بمشروع مدروس. إنما في كل الأحوال، هذه سياسة أميركية جديدة نحو إيران قد تفتح باباً على مقايضات تصب في الصفقة الكبرى، وقد تنتهي بفشل المقايضة وانتصار المواجهة. ظاهرياً، يبدو ما أعلنت عنه كوندوليزا رايس فوزاً لجولة أخرى من الديبلوماسية الروسية التي يقودها وزير الخارجية سيرغي لافروف وتدعمه فيها الصين. عملياً وواقعياً، إن فتح قناة مباشرة للحوار بين الحكومة الإيرانية وبين بريطانيا وفرنسا والمانيا والولاياتالمتحدة قد يُضعف الأوراق الروسية. فإذا وافقت طهران على الشرط الأميركي للجلوس معها، أي استئناف تعليق تخصيب اليورانيوم، يُعالج الخلل الذي كان قائماً في موازين الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن. ومنطقياً، يُفترض أن توافق طهران خصوصاً أن رئيسها محمود أحمدي نجاد هو الذي بادر الى طلب الحديث الإيراني - الأميركي عندما بعث رسالته الى الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش. فتلك كانت أول رسالة وأول اتصال رسمي بين الجمهورية الإسلامية والولاياتالمتحدة منذ الثورة الإيرانية قبل 27 سنة. البعض قرأ تلك الرسالة على أنها دعوة للولايات المتحدة الى الاستسلام لإيران، والبعض الآخر وجدها مخاطبة لواشنطن لاجراء الحوار كوسيلة لاخراج إيران من العزلة وادخال الولاياتالمتحدة في نفق المحادثات على نسق البازار الإيراني من أجل شراء الوقت. روسياوالصين استمتعتا بغياب الإدارة الأميركية عن الحوار المباشر مع إيران. السفير الصيني لدى الأممالمتحدة غوانغ ياه وانغ، قال قبل حوالي شهرين لدى سؤاله عما إذا كان الوقت حان لصيغة تؤدي الى مشاركة واشنطن في الحوار مع إيران، قال إن لا حاجة الى صيغة كهذه، إذ أن الثلاثي الأوروبي يتحدث الى إيران، فعندما دخلت واشنطن طرفاً في المحادثات مع طهران، كما فعلت في صيغة"6+2"المعنية فأفغانستان استرقت الأضواء والانتباه وتركيز جميع الأطراف عليها. وهذا ما سيحدث على الأرجح عندما يجلس المسؤولون الأميركيون والإيرانيون سوياً الى طاولة المفاوضات مع المسؤولين الأوروبيين - البريطانيين والفرنسيين والألمان. فإيران لن تجلس الآن مع الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن للتفاوض على الملف النووي، والولاياتالمتحدة لن تدخل في مفاوضات ثنائية مع إيران. على رغم ذلك، فإن هذا فصل جديد في الحديث الأميركي - الإيراني عن دور الدولتين في المنطقة. رد الفعل الإيراني الأولي أفاد بأن إيران تريد طرح نفسها في المفاوضات كقوة اقليمية تتحدث مع الدولة العظمى الوحيدة في العالم من زاوية دورها كزعيم اقليمي في الشرق الأوسط. ووزيرة الخارجية الأميركية لمّحت في كلامها أول من أمس الى أن واشنطن أيضاً تريد طرح الملفات الاقليمية، وليس فقط الملف النووي، على بساط البحث. وهذا جيد. إنه جيد لأن حصر الكلام في الملف النووي يعفي إيران من المحاسبة والتدقيق في ما تفعله في العراق وسورية ولبنان وفلسطين ومنطقة الخليج. كما أن حصر الحوار والتفاهم في موضوع العراق بين واشنطنوطهران مهين للعراق وللمنطقة العربية. الحكومة الإيرانية لم تتردد في تقبل ذلك الحوار على رغم ما ينطوي عليه من اضفاء الشرعية على الاحتلال الأميركي للعراق، ومن قفز على استقلال العراق والتباهي بالسيطرة عليه بعدما أوقعته الحرب الأميركية في القبضة الإيرانية. الذي أدى الى قطع الطريق على قيام الحوار الأميركي - الإيراني حول العراق هو اصدار كوندوليزا رايس التعليمات الى سفيرها في بغداد بالعدول عن الفكرة. لربما جاء موقفها نتيجة الاحتجاج الذي صدر عن مختلف الأوساط، بما في ذلك من بعض الحكومات العربية. إنما في نهاية المطاف، حسناً فعلت رايس بالعدول عن التفاهم الثنائي على مستقبل العراق بمعزل عن الملفات الاقليمية الأخرى. ما قالته رايس عن ضرورة بحث مسائل أخرى الى جانب التباحث في الملف النووي هو عبارة عن ربط الملف الاقليمي بالملف النووي في المفاوضات. ذكرت"تورط إيران في العنف الدائر في العراق"، وأشارت الى محاولات"ضربها إيران إعادة استتباب السيادة الكاملة في لبنان بموجب قرار مجلس الأمن 1559"، وذلك في البيان الرسمي المكتوب الذي أدلت به قبل الاجابة عن أسئلة الصحافة. واثناء الاجابة اشارت الى الدور الإيراني في الموضوع الفلسطيني، وكررت ما جاء في البيان الافتتاحي عن دور إيران في رعاية الإرهاب. وبطرحها مجمل هذه القضايا، كانت رايس تقول لطهران إن باب المقايضة مفتوح أمامها إذا أرادت تجنب المواجهة. ما عرضته، بالمقابل، هو مباركة"حق"إيران بالطاقة النووية السلمية مع التلميح الى مكافآت اقتصادية وتجارية في حال اختارت طهران الحوافز الترغيبية التي تُقدم لها في صفقة"الجزرة والعصا"التي تفاوضت عليها الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن. كما ن رايس لم تصّد الباب كلياً في وجه الضمانات الأمنية، إذ أنها اكتفت بالقول إن هذا الأمر لم يُطرح على الإدارة الأميركية. كانت واضحة تماماً في قولها إن جورج دبليو بوش لا يستبعد الخيار العسكري عن الطاولة، لا موقتاً ولا لفترة زمنية معينة، حتى وهو يتبنى الخيار الديبلوماسي وحده الآن كوسيلة لمعالجة الأزمة. وفيما ذكرت أن الجهود تُبذل"للعمل مع شركائنا الدوليين"لانهاء انتشار الأسلحة المحظورة وانهاء الدعم للإرهاب، تعمدت رايس التعبير في بيانها عن"اعتزامنا العمل مع أصدقائنا وحلفائنا لتعزيز قدراتهم الدفاعية". وجاءت هذه الاشارة لتذكّر إيران بأن العصا لا تقتصر على العقوبات الاقتصادية، وإنما بالتأكيد، تشمل الخيارات العسكرية، المباشرة منها وغير المباشرة. الأوروبيون أرادوا حصر النقاش في المسألة النووية باعتبارها تدخل في خانة"منع انتشار الأسلحة المحظورة"، حصراً. ما فعلته وزيرة الخارجية الأميركية هو توسيع حلقة النقاش أو التفاوض ليتعدى"منع انتشار الأسلحة المحظورة"وليدخل في صلب الطموحات الايرانية النووية والاقليمية على السواء. حدود المقايضة غير معروفة. البعض يرى في الموقف الأميركي الجديد محاولة للتملص من مسؤولية اللوم، مع الانذار قبل المواجهة، ولذلك أقدمت رايس على الاستعداد للتحاور فوراً بشرط تعليق تخصيب اليورانيوم. البعض الآخر يعتقد أن واشنطنوايران معاً في حاجة للمساومات والمقايضة لأن المواجهة خيار معقد وصعب لكلتيهما. كلتاهماتبدوان في حاجة الى شراء الوقت انما بدرجات مختلفة. ولطرحها القرار 1559، تقول وزيرة الخارجية الاميركية للحكومة الايرانية ان واشنطن لا تكتفي بطرح ملف العراق على الطاولة باعتباره هوسها الوحيد، حسب اعتقاد البعض، بل تقول ان واشنطن جدية في تحميل طهران مسؤولية أفعالها وسياساتها نحو الملف اللبناني - السوري الذي يمثله القرار 1559. فالكلام عن محاولات ضرب سيادة الحكومة اللبنانية بموجب ذلك القرار له شقان: شق"حزب الله"وضرورة تجريده من السلاح شأنه شأن سائر الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية. وشق سورية وضرورة اثبات اعترافها باستقلال لبنان وسيادة حكومته والتوقف عن التدخل في شؤونه وعن تهريب الأسلحة الى أراضيه لخدمة الفصائل الفلسطينية التابعة لها وغيرها من الميليشيات. فرسالة رايس ليست فقط الى طهران وانما هي لمن يخشى ان يأتي كلام التفاهم والمقايضة على حساب لبنان بصفته الحلقة الأضعف القابلة للاستغناء على رغم كونه النموذج الصحي الوحيد للعملية الديموقراطية في المنطقة. فحوى الرسالة ان واشنطن ليست في وارد مقايضة لبنان من أجل طهران وانما هي في صدد التلميح لطهران بأن أمامها فرصة مقايضة حمايتها ل"حزب الله"وسورية بحماية نفسها من استحقاقات عسكرية من جهة، وبتأهيل نفسها لعلاقة مميزة مع الغرب والولاياتالمتحدة بالذات من جهة أخرى. الرد الايراني سيرسم معالم المرحلة المقبلة من المواجهة أو المقايضة. قد يرتأي الثوري محمود أحمدي نجاد والمؤسسة الدينية الحاكمة في طهران ان مصلحة ايران تقتضي استدعاء ضربة عسكرية أميركية تبرر لها الانتقام في المنطقة العربية من الخليج بتوجيه ضربات للقطاع النفطي والمنشآت النفطية عبر اغلاق مضيق هرمز وعبر عمليات تخريب وارهاب ضد المنشآت. فهناك من يقول إن المصلحة الايرانية تتطلب في هذا المنعطف الاستفادة من الضعف الاميركي ومن وقوع القوات الاميركية في قفص العراق المفتوح على امكانية اصطياد هذه القوات وارتهانها. وحسب هؤلاء، فإن ايران تمتلك العراق الآن، ولا حاجة الى التضحية بهذا الكنز خصوصاً أنه رئيسي ومركزي في معادلة الحزام النفطي الشيعي الذي حلم به المحافظون الجدد الاميركيون وايران، والممتد من حقول النفط في شرق السعودية الى حقول النفط الايرانية. أثناء لقاء مع مسؤول ايراني رفيع المستوى في نيويورك تحدى المسؤول مقولة الطموح الايراني للزعامة والهيمنة الاقليمية قائلاً:"كل ما يتطلبه تحقيق الهيمنة لنا هو ان نهز رأسنا بنعم للولايات المتحدة". وقال ان"المنافس الوحيد"في هذا الصدد"كان"العراق"والشكر للمحافظين الجدد"الذين أعدوا حرب اميركا على العراق وقدموا بذلك"خدمة الى ايران"اذ انهم"قضوا على عدد رئيسي لنا في المنطقة"في اشارة الى الرئيس المخلوع صدام حسين. قال ايضاً انه لا يعتقد ان الولاياتالمتحدة ستوجه ضربة عسكرية الى ايران لأن"تجربة العراق ستفرض عليها العقل والادراك"، فعليها ان تحسب وتحلل"الكلفة والمردود"من مثل هذا الاجراء. ولكن، تابع المسؤول"انه لموقف غير عاقل منا ان نعلق آمالنا على عقلانية واشنطن"، وفي أي حال"يجب على الولاياتالمتحدة ألا تتوقع ان تتخذ اجراء عسكرياً ضد ايران وتبقى آمنة". الأمر الآخر الذي حرص المسؤول الكبير ان يبرزه هو معنى رسالة أحمدي نجاد التي وصف هدفها بأنه"الحوار"على رغم ما احتوته من تعابير عاطفية ومن انتقاد لاذع للولايات المتحدة. تحدث عن الاستعداد للبحث في أية آلية ووسيلة للتفاهم شرط الاقرار ب"حق"ايران في امتلاك الطاقة النووية، لكنه تحدث بإسهاب أيضاً عن خبرة ايران غير المسرة مع الولاياتالمتحدة. قال مثلاً ان في أعقاب الجهود الضخمة التي بذلتها ايران في موضوع افغانستان وبعد التحاور وجهاً لوجه في صيغة"6+2"في شأن افغانستان، جاء جورج دبليو بوش في غضون 20 يوماً بما سماه حينذاك"محور الشر"الذي ضم ايرانوالعراق وكوريا الشمالية. أزمة الثقة بين الولاياتالمتحدةوايران أزمة حقيقية لكنها لا تقارن بأزمة الثقة بين الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفياتي في عصر الحرب الباردة. ورغم ذلك، تفاهم العملاقان، ووقعت مقايضات، ولم ينته الصراع بمواجهة عسكرية. هذا لا يعني ان عناصر المقايضة تم اعدادها وان واشنطنوطهران خرجتا من خانة المواجهة، فهذه لا تزال المرحلة التمهيدية لأي من الخيارين وكل ما يحدث الآن يقع في المرتبة الابتدائية.