"الشعر العربي بين مسلكي الأصالة والحداثة"كتاب يضيئ ملامح وجودية وأخرى فلسفية، أغفلها نقاد الحداثة، ورصدها محسن جاسم الموسوي في ما اصدره باللغة الانكليزية عن دار روتلج Routledge، لندن، ومن ثم نيويورك وكندا، العام 2006. فالموسوي يرى ان الشعر لم يعد"ديوان العرب"الحافظ لحيواتهم وحكاياتهم وأعيادهم وايامهم وحروبهم، ولو بقي حاضراً بظلاله في حياة العرب كإرث حنين وفروسية وبطولات غاب أبطالها! قديماً زعم النقاد ان شعر الجاهلية الذي كان يمتدح الفحولة، هو الذي نهض"ببطاركة"الشعر وأساليبهم الديكتاتورية في البلاغة وكذبها. فالشكل الشعري او القصيدة اذا التزمت ثبات البحور وتكرار ايقاعاتها، صار الايقاع منها هو الرابط الذي يوحد تشتت أبيات سقطت عنها وحدة الرؤيا. فالشاعر الذي كان بمثابة عرّاف، تُرك له ان يخطّ الاقدار والمسالك تنزلها عليه"ربات"الشعر والقرائح المغيبة ليرسم مواقع حنينه، وانشقاق نفسه تائهاً بين غيب يبحث عنه وصحراء يعاقر رمالها! هذا الشاعر المنفي في جفوة الرمال هو من راح يراكم التراث طبقات طبقات، وكأنه يستحوذ على هويات تحاكيه ولا تنقضه، حتى كانت اشكالية الاصالة والمعاصرة في العام 1940 وتأثير ت. س. اليوت في"الأرض الخراب"، وفيها حثٌ للعودة الى ينابيع الفطرة البكر، والدفء العتيق الذي خبأته الاساطير في حناياها! منذ أربعينات القرن العشرين راحت البحور تنبسط في تفعيلات الشعر المنثور بغير تشنج عصابي أقرّه الفحول ومن بعدهم الفراهيدي، فحلّت"الأنا"الشاعرة غاية بقيمها الوجودية ومعاناتها المختلفة لا المحاكية ولا المؤتلفة. فهي"أنا"تتعالى على الخوف لتحدث حالة فائقة من التمرد والحرية التي هي البرهان الحاسم على رفعة الشعر وأثره الحميمي لا الجماعي! فشعراء الحداثة مذ أدركوا ان التعقيد والأوزان والبحور معايير تعطّل أسرار الابداع، أيقنوا ان الشعر استيطان الملكات النفس يتنزل عليها وحياً جليلاً لا يعلّل! والشاعر العربي إذ حاول ان يرى الى الحياة من شرفات النكسات والمآسي والهزائم، أسعفته حكايات المسيح وزينب والحلاج والحسين بخصب رموزها وسحر طقوسها وپ"ذواتها الثانية"التي دثرت"الذوات الشعرية الأولى"بأقنعة مزدحمة بالتجاعيد، وعبق التاريخ، فقامت الارهاصات من رحم التخلف، واقتحم شعر الحداثة لغة المعاجم والفقهاء وشلّع فضاءاتها بعد ان ابتدع أساليبه الفردية، وأفرغ الذاكرة الموروثة من تسلطها ليعيد خلق ذاكرة هي له بغير سوى! هذه الفردية التي استلهمت بعض رؤى من عزرا باوند تردنا الى جلجلتها في مجلة"شعر"، ومؤسسها يوسف الخال الذي ما ان تغرّب بروحه حتى استعار لها أقنعة يتدرأ بها من عقم زمنه وتهافت ماضيه. وكان المفتتح بدفء الاساطير التي هي شكل مسبق يومئ للشاعر ببنية متراصة غير منفلتة، والتي هي رموز قابلة"للخيانة"اذ ان الشاعر يخربها ليملأ تجاويفها ببدعه. فالأسطورة / القناع صارت للشاعر"ذاتاً أخرى"بها تتعدد أصوات الأنا عينها، والأنا / الضدية في قصائد تحمل طعم الرماد ولون الورد، والتي هي قصائد الموت والانبعاث! الأنا / الفرد وحده المتنبي وشم هويتها في قديم الشعر، وإذ حاول الحداثويون تخطي مسالكه، انكفأوا يدورون في أفلاكه مثل"أدونيس مذ طرح في مؤتمر روما"الشعر العربي ومشكلة التجديد"ينتقل من ثم الى"الثابت والمتحول"ويقرأ بانحياز طليعية ابي تمام، وابي نؤاس، والمعري والنفري بعد ان أسعفته قراءات بودلير واندريه بروتون ورامبو ونرفال في مساءلة تراثيه النقدي والشعري. هذه التأثيرات الغربية المتأخرة، سبقها اثر انطون سعاده 1904-1949 في مؤلفه"الصراع الفكري في الأدب السوري، والذي دعا فيه سعاده الى احياء الأساطير التي تنتهي بالبعث! محسن جاسم الموسوي في كتابه كما في الجزء الثاني من مجلة فصول خريف 1996 انشغل بأعمال مؤتمر روما تشرين الأول /اكتوبر 1961 والتواطؤات التي انحاز اليها الشعراء / النقاد، حتى صار ادونيس من الدعاة الذين اكتظت كتاباتهم بموروثات النقد الغربي، يترجمها وكأن المتلقي في غفلة من أمر التراثين: العربي والغربي، اذ يقول: ان الحداثة هي الانشقاق والمغايرة والفكر والمجهول والاختلاف لا الائتلاف! إذ يأتي محمود درويش بذاته الاخرى التي هي قناعه، يقول في ديوان"لماذا تركت الحصان وحيداً: أرى شبحي قادماً من بعيد"ليكسر امكنة الذاكرة بعد ان تصدع الماضي وأوحش المكان: "ههنا حاضر لا مكان له/ والأنبياء ينصتون لصوت اسماعيل ينشد: يا غريب/ أنا الغريب، وأنت مثلي يا غريب الدار/ عد... يا عود بالمفقود، واذبحني عليك/ من الوريد الى الوريد/ كل شيء سوف يبدأ من جديد" منذ اعتصم بعض الشعراء باللغة وبعضهم بغصاتها، صارت الاوطان إما لغة وإما غصة لأمكنة غابت وصارت حنيناً ملتبساً بين"الإلماعة"Allusion وپ"القناع"Persona. فلو تمثلنا بقصيدة"عين الشمس"لعبدالوهاب البياتي من ديوان"قصائد حب على بوابات العالم السبع"لوجدنا ان الشخصية الدرامية التي تتحدث بصوت منفرد تذوب في صوفية محيي الدين بن عربي وفتاته الرومية التي أوحت اليه بپ"ترجمان الاشواق". أما"عين الشمس"فليست استعادة تاريخية وانما هي إحياء اسطوري وتعبير غرائبي عن الاتحاد مع المطلق الذي به وحده تنشفي ثنائية الأرض والسماء، ويصير الكل واحداً! ففي الشعر الحديث تخترق الأنا حاجزاً محرّماً هو حاجز الواحد عينه، لتصبح"مفرداً بصيغة الجمع"، فتتقمص الدين لباساً ومثله الاسطورة والتاريخ، لتنتهي إما بالتجلي والبعث وإما بعربدة العدم الأبلق كما في قصيدة"لعازار 1963"لخليل حاوي أو"أنشودة المطر"لبدر شاكر السياب ومطولته الشجية"المومس العمياء"! فخليل حاوي الذي كان يحسب ان العرب مقبلون على نهضة تغذيها الأصالة والرجعة الى زمن البكارة والبطولة عاد فأيقن ان ابناء أمته استمرأوا الذل وعجزوا عن تحمل أعباء الحرية. فالنوم في قبر التاريخ هو أيسر من عبء الحياة:"لم يزل ما كان من قبل وكان، لم يزل ما كان"هذا هو الكون / الكابوس في حالته السديمية وفي زمن التشويش والرعب الذي اضيف اليه الانسان كعاهة ليس لها من منقذ. فلعازار يبكي لأنه حكم عليه بالبعث والبقاء في عالم رفضه ومات عنه مطمئناً. انه محكوم بالوجود الذي قال فيه فاليري:"إن الوجود هو خطيئة العدم"! حاول شعراء الحداثة العربية ان يجددوا بالايقاع من دون الغائه كما فعل السرياليون، ومثلهم كان تجديدهم في الرمز على غرار ملارميه، وذلك بعد ان أيقنوا ان الرمز لا ينهض بمهمة البناء الشعري ما لم يكن اسطورة تراثية شعبية قائمة في ضمير الأمة. هذا القيام يولي قدرة على الاشارة السريعة الى الاحداث في الاسطورة من دون سرد لها أو تقرير. أما بعض من انجذب الى اساطير غريبة وغير عربية فجاء شعرهم غريباً عن طبيعة أمتهم كما فعل سعيد عقل في"بنت يفتاح"حيث تجد يفتاح بطلاً أسطورياً. وبعضهم فاته الاستعمال الصحيح للأسطورة فكان ان وردت في شعره حكاية مطولة تفتقر في بعض اجزائها الى التوهج الشعري اذ تسقط في عبرة اخلاقية خارجة عن طبيعة الشعر كما في قصيدة"شمشون"لإلياس لأبي شبكة التي تنتهي بالبيت الاستعاري الآتي:"إن تكن زجّت الخيانة شعري في ضلالي، فقوتي في شعوري" ولعل غربة الأقنعة التي تلبسها شاعر الحداثة ليسافر بها عبر الازمنة والمسافات كأوليس والسندباد والمتصوفة، فهي حالة الاستغراق الروحي للعارف التي يطلق عليها اسم الغناء والوجد. وفي هذه الحالة تكون غربة الشاعر غربة الغربة، لأن الغربة هي في الأصل ان يكون الانسان بين أبناء جنسه غريباً مع ان له نسبة فيهم. فغربة الغربة التي هي اغتراب عن مجتمع انعدمت فيه القيم، فإن الشاعر قد لا يشعر بالاغتراب عن منابع وحيه أو ذاته الحقيقية. فهو اذ يشعر بالخيبة والألم ينمو لديه شعور برفض النظام الذي يسيّر عليه العالم. لعل سخرية استثنائية تنهض من مخابئها وتشفي منه حالات الجنون وتعود به الى ماء الايونيين عند طاليس والى حكمة سقراط اعرف نفسك الغريبة بنفسك، في نفاق العصر ومجتمع الحياد واللامبالاة، مجتمع الاوهام والحقائق المزيفة والعلم الميت. فالمجنون يحلم بحقيقة مكتوبة بدمائه على صفحات التاريخ وليس بحقيقة مكتوبة بمداد صقيعي على ورق أجوف. وهو وضع وجودي انبثق مما يمكن تسميته شعرياً بحسّ الدهر وقوته الخارقة التي تسكن كل شيء وتحوّل كل شيء. فالدهر للشاعر هو شقاؤه الاكبر الذي يمزج بين غبطة الحضور وحسرة الغياب، بين ما يقبض عليه وما هو قبض الريح! وذاكرة الشاعر العربي اذ تثقل عليه، يتغرب عنها منفىً وجرحاً وجوعاً الى رماد ماضيه ودفء مجهوله. فالوضع الوجودي عندما ينعكس بهزائمه وخيباته في الشعر العربي الحديث والمعاصر، يترك للشاعر ان يعيش لحظات سآمة طويلة تعبّر عنها قصائد ترسم المكان ? المتاه، والزمن ? المتاه، ويجد الشاعر ذاته عاجزاً عن توكيد ذاته في الديمومة. فهو يتحرك في زمن جزئي متقطع يسحقه ويبعثره. والشعر عنده خيمة مسكونة بالحسرات، وفضاء مملوء بالتجاويف، وصدأ العيش. هذه الأحوال دفعت بشعراء الحداثة الى ان يأخذوا بالبدعة والخروج على كل تقليد وسنة مستعيدين قول ابي تمام:"لي في تركيبه بِدَعٌ ؟ شَغَلَتْ قلبي عن السُّننِ" ولما اوغل الشعر منذ ابي تمام في التغرب والمفاجأة تحرر من الشكل الجاهز وتخلص من سراب البحور وأفرغها من رهبات وعيدها ليستعيد فطرته الابداعية بدلاً من ان يظل مثقلاً بتهديدها الدائم. وفي مناخات الرمز التقى الشاعر وجهه الآخر فألبسه قناع الاسطورة وما فيها من اشباهه ونظائره. فالاسطورة لغة اولى وزمن من الضوء والشمس والآلهة والطقوس والاسرار التي يتجلى فيها الاسطوري غيباً سحرياً يعبق بنشوات روح بدائية وببكارةٍ اكثر عذرية. وكما كان المتنبي"خليل نفسه"والتوحيدي"الغريب في غربته"صار الشاعر الحديث المجابه الغاضب الذي يريد ان يقبض على النار الاولى ويحيل العالم الى شعر لا قبل له. في هذا ما يتيح القول ان محسن جاسم الموسوي في الشعر العربي الذي حبّره باللغة الانكليزية، ربما فتح شرفة على الينابيع الاصلية التي غابت في البذور والأسرار والرموز والبراءة والصبوة التي كانت في ماضي الأمة أي بالاعماق والنسوغ الاولى حيث كانت الحياة وحيث لا نهاية للحياة. محسن جاسم الموسوي اذ تكلم بأصوات كتب كثيرة ومراجع اكثر لم ينقل الينا صدى باهتاً بل لامس عمقاً انسانياً ورؤيا وجودية وتوسّل شعرية الغربة وشعرية الاسطورة وشعرية القناع حتى لكأن نقد الموسوي لم يعد واحداً بل صار كثيراً!